المحاباة أو الواسطة .. لم تكن أبداً شيئاً هيناً، لا في العهود القديمة ولا الحديثة، بل كانت كما أظهرتها الأحداث الثورية: الوقود الذي أشعل الفتيل، بعد أن نخرت كالسوس كيان الأجهزة والمنظومات الإدارية والسلطوية، ما جعلها سبباً رئيساً في انهيار دول وأمم، وزوال ممالك عظمى. لا تقتصر المحاباة بمعناها الشامل على أقارب الشخص صاحب السلطة فقط، وإنما تشمل الأصدقاء والمعارف، وكذلك كل من جاء إليه بطريق الواسطة، وكل من حاز منصباً أو مكرمة أو معاملة خاصة حتى وإن كان الشخص يستحقها، فهي تظل بالنهاية نوعا ًمن المحاباة ، وذلك وفقاً للدراسات التي تناولت هذا الجانب.
لتقريب المعنى أكثر نذكر قصة دينية كمثال: النبي يعقوب وابنه النبي يوسف؛ فرغم أن يوسف كان يستحق المعاملة الطيبة من أبيه مقارنة بإخوته غلاظ القلب، إلا أن محاباة أبيه له كانت تميزه عنهم وتجعل منه الطفل المقرب إلى أبيه دونهم، وهو ما أوغر صدرهم عليه.
وتقيس تلك الدراسات ذلك على الموظف الذي يحابيه المدير إما بتقريبه إليه وإما معاملته بلطف دونا ًعن الموظفين الآخرين، فلو فُرض أن الموظف يستحق ذلك لأمانته وجديته إلا أن ذلك سيجعل الموظفين الآخرين يحقدون عليه ويبغضونه لمجرد أن المدير يحابيه ويميزه ويفضله عليهم.
أمثلة على المحاباة قديماً.. عربياً
الخليفة الأموي المستنصر بالله (تاسعُ الحكامِ الأندلسيين) ظل محافظاً على ملكه وملك أبيه القوي حتى وفاته، وقد بلغ والده من العز والترف ما جعله يبني سقف قصره من خيوط الذهب والفضة، وأنفق أيضاً ببذخ على مرافق مملكته، وقيل إنه كان يرجع عن غيه إن نبهه أحد العلماء، ثم يعود إلى حالة الترف مرة أخرى.
والشاهد في قصته أنه عند الموت ضيع ملكه وملك أبيه، عندما حابى ابنه “هشام”، وفضله على سائر شعب مملكته، فأسند إليه حكم البلاد وسنه لا تتجاوز 12 عاماً، فكانت شرارة سرت في عظام المملكة الأموية حتى أزالتها، ونشأت مكانها الدولة العامرية التي امتد حكمها من 366هـ حتى 399ه.
المحاباة كانت السبب في نقمة أهالي المدينة المنورة في أخر عهد الدولة الأموية على الوالي آنذاك، حيث لم يكن تعيينه والياً عليها إلا لأنه ابن جعفر بن عثمان أبو الحسن المعروف بالمصحفي، وهو يومها حاجب الخليفة الطفل هشام بن عبد الرحمن الناصر (الخليفة العاشر من ملوك بني أمية بالأندلس)، ولم تكن لوالي المدينة هذا قدرات تميزه عن بقية أهل البلدة، أو مهارات إدارية تجعله يدير المدينة بما يحافظ على مصالح أهلها، ولذا لم يبد أهالي المدينة أسفاً عليه عندما عزله محمد بن أبي عامر مؤسس الدولة العامرية وتولى هو مكانه، بل أراد بعضهم التنكيل به.
وظيفة الحاجب في العصر الأموي تمثلت في المسؤولية عن إدخال الناس على الخليفة وفقاً لمركزهم وأهمية العمل الذي يقومون به، وتشبه في العصر الحالي وظيفة مدير مكتب الرئيس أو الوزير أو الأمير وصولاً إلى الملك.
المحاباة إلى جانب أسباب أخرى، كانت سبباً رئيساً في زوال ملك من أسماهم التاريخ بـ”ملوك الطوائف” إذ لم تكن مؤهلات كثير منهم للحكم إلا أنهم أبناء أو أصهار الحكام السابقين، ونظراً لانعدام الخبرة والمهارات كانت النتيجة انهيار تلك الممالك.
وقد شكل “ملوك الطوائف” فترة تاريخية في الأندلس بدأت بحدود عام 422ه، عندما أعلن الوزير أبو الحزم بن جهور سقوط الدولة الأموية في الأندلس، ما حدا بكل أمير من أمراء الأندلس ببناء دويلة منفصلة، وتأسيس أسرة حاكمة من أهله وذويه.
خاطب الوظيفة في العصر العباسي
في العصور العباسية الأخيرة بشكل واضح ومنتشر ظهر”الخاطبون” للمناصب، وهم مجموعة من الناس كانوا يسعون في الوساطات لدى القادة الأتراك ونساء القصور، للوصول إلى مناصب الوزارة أو أية مناصب أخرى.
ويبدو أن الفساد في هذا الأمر أثر في المراكز الوظيفية وأدى إلى حدوث موجة من الاضطراب الإداري الذي ينتهي بالخلل إلى جميع أركان الدولة حيث كان كل شخص يتولى منصبه الجديد (الخاطب لـه كما أشرنا) يسارع لإحاطة نفسه بحاشية مواليه وحين يُعزل تُعزل حاشيته كلها، وهو أمر يزيد حالة الدولة سوءاً فيطغى الفساد وتتفشى الرشوة وتزداد المظالم.
المحاباة .. في الحضارات القديمة
تؤكد الشواهد التاريخية أن الأقوام الذين استوطنوا أرض العراق القديمة (باعتبارها أُولى الحضارات في العالم)، عرفوا هذه الظاهرة ضمن أبواب الفساد الأخرى، وتبين الوثائق التي يعود تاريخها إلى الألف الثالث (ق.م) أن (المحكمة الملكية) آنذاك كانت تنظر في قضايا الفساد، مثل (استغلال النفوذ، استغلال الوظيفة العامة، قبول الرشوة وإنكار العدالة) حتى أن قرارات الحكم في جرائم مثل هذه كانت تصل إلى حد الإعدام.
الإغريق لم يغفلوا مشكلة الفساد فقد حدد سولون (أحد الحكماء السبعة عند الإغريق) في تشريعاته التي أطلق عليها قانون (أتيكا) قواعد لإرشاد موظفي الدولة وضبط عملهم الإداري.
وقد سعى لإدخال المُثل العليا للمساواة الاجتماعية في بلاد مزقتها نزاعات الأغنياء والفقراء وسن تشريعاته إيماناً منه بتكريس سيادة القانون، وتكريس المساواة، ومحاربة الواسطة.
الصينيون القدماء تنبهوا لمشكلة المحاباة والواسطة، وتأثيراتها السلبية على النظام الإداري، ولذا شخص تراث الفكر السياسي لدى الفيلسوف الصيني كونفوشيوس ظاهرة الفساد، ففي كتابه (التعليم الأكبر) يرجع أسباب الحروب إلى فساد الحكم، والذي مرده إلى فساد الأسر وإغفال الأشخاص تقويم نفوسهم، وظهور المحاباة وانتشارها، وكذلك الاهتمام من الجميع بالبحث عن الوساطة للوصول إلى المناصب.
أما في كتابه (عقيدة الوسط) فهو يرى أن الحكم لا يصلح إلا بالأشخاص الصالحين والوزارة الصالحة التي توزع الثروة والأعمال بالتساوي، ودون تمييز بين الناس على أوسع نطاق.
الفيلسوف اليوناني أفلاطون تطرق في كتابه (الجمهورية) لظاهرة الفساد من خلال مناقشته لمشكلة (العدالة) الفردية والجماعية، فأشار إلى أن اللجوء إلى العدالة يستبعد مسألة المنفعة أو المصلحة، والتي هي الأساس في ظهور الفساد واستفحاله، ومن خلال معالجته للصيرورة السياسية للحكومات والتي هي في نظره صيرورة حتمية ودقيقة، يرى أن المحاباة جعلت من صاحب الثروة السيد المطاع، الذي يتحكم في رقاب العبد من خلال من قربهم إليه من أصفياء.
المحاباة في بلاط البابا
تذهب مصادر تاريخية إلى أن عهد البابا كلكستس الثالث واسمه: ألفونس دي بوريا، (عاش في روما عام 1378م وتوفي عام 1458م)، كان تأريخاً لحقبة زمنية اعتبرها البعض أبرز ما يمكن للمحاباة أن تؤدي إليه من آثار سلبية.
بدأت القصة حينما تم اختيار كلكستس الثالث (Calixtus III) في عصر النهضة بإيطاليا، وبدأ معه عصر المحاباة وفقاً لـ”ول ديورانت” (مؤلف قصة الحضارة).
وككل بدايات المآسي التي تتوسد النوايا الحسنة كان حال كلكستس فقد كان معروفاً بالعطف على أقاربه، لذا عين اثنين من أبناء أخيه هما لويس جوان داميلا، وردريجو بورجيا، ورغم أن ردريجو (الذي أصبح فيما بعد البابا إسكندر السادس) كان معروفاً باستهتاره إلا أن كلكستس منحه أكثر المناصب حظاً في البلاط البابوي فجعله نائب رئيس الحكومة البابوية (1457)، ثم عيّنه في العام نفسه قائداً عاماً للقوات البابوية.
من هنا بدأت محاباة الأقارب، والتي أصبحت خطة سياسية اتبعها البابوات، بصفة متصلة، فوهبوا المناصب البابوية لأبناء أخوتهم وأخواتهم وغيرهم من أقاربهم، وكانوا في كثير من الأحيان أبناء البابا نفسه. وأحاط كلكستس نفسه برجال اختارهم من بلده، فجعلهم يحكمون روما.
هذا الأمر أغضب الإيطاليين كثيراً، ولم يشفع للبابا لديهم ما ساقه من مبررات لتلك المحاباة ، ومنها أنه كان أجنبياً في روما؛ وأن الأعيان والجمهوريين كانوا يحيكون المؤامرات ضده، وكان يريد أن يكون بالقرب منه رجالاً يعرفهم، يحمونه من الدسائس حتى يوجّه اهتمامه إلى الأمور الأهم، ويقصد الحرب الصليبية.
كان البابا يريد أيضاً أن يكون ثمة نفر من أصدقائه في مجمع الكرادلة لجعل البابوية ملكية انتخابية ودستورية، تخضع في جميع قراراتها للكرادلة بوصفهم مجلساً للشيوخ أو مجلساً مخصوصاً، وكان الباباوات يقاومون هذا التوجه، وأفلحوا في التغلب عليه، ولم يستطع كلكستس تحقيق أهدافه وسط غضب الشعب والكرادلة، حتى مات.
في القرون الحديثة استمرت المحاباة أيضاً
تشير المصادر التاريخية إلى أن الفساد كان منتشراً في إنكلترا وأيرلندا حتى غدا شراء المناصب مظهراً مألوفاً في تلك البلاد، وخصوصاً في القرن الثامن عشر لتولي وظائف في البحرية والجيش وإشغال أغلب مقاعد البرلمان من قبل أصحاب الأراضي المتنفذين، ما أثار حفيظة العديد من رجال المجتمع الإنكليزي فهاجموا تلك الأساليب التي اعتبروها فاسدة عام (1782).
في الولايات المتحدة شهد عهد رئيسها الثامن عشر “كرانت سمبسون” شيوع العديد من مظاهر الفساد التي عانت منها الحكومة الوطنية، ومنها بروز فئة من الصناعيين ومهندسي السكك الحديد تستخدم الوساطة لأصحاب مناصب عليا بالدولة لتمرير مصالحها.
وداخل بريطانيا اشتهر روبرت سيسيل ماركيز(Robert Cecil, Marques of Salisbury ) بكلمة “بوب هو عمك” أكثر من شهرته كرجل دولة بريطاني، حيث عيّن ابن أخيه آرثر بلفور في منصب رفيع بالدولة، واعتبر الايرلنديون ذلك محاباة لأقاربه، فأطلقوا المصطلح ليكون عنواناً دائماً لكل ما فيه محاباة للأقارب والأصدقاء على حساب الآخرين.
“كينيدي” .. متهم
عندما نقترب من العصر الحالي سنجد المحاباة تتكرر أيضا ًفي عدة دول:
اُتهم الرئيس الأمريكي جون كينيدي( 1917-1963م) بـ المحاباة من قبل عدد من خصومه حينما عيّن أخاه روبرت كينيدي مدعياً عاماً.
في إيطاليا يشير فيتو تانزي (Tanzi) مدير إدارة الشؤون المالية السابق بصندوق النقد الدولي لمدى خطورة هذه الظاهرة وما يكتنف هذه الآلية من تكاليف على المجتمع من خلال تناوله للأنموذج الإيطالي في ذلك، حيث يشير إلى أن الكثيرين في جنوب إيطاليا (موطنه الأصلي) يعتقد أن معظم المناصب الحكومية لا تخصص وفقاً للجدارة، وإنما من خلال التزكيات الشخصية والتوصيات (علاقات القرابة).
وهو يذكر أن إحدى السيدات من معارفه اتصلت به طالبة منه التوصية لقبول حفيدها في منصب شاغر (كعازف موسيقي) في فرقة أوركسترا إقليمية بإيطاليا. وفي بحثه العلمي أورد تانزي القصة وهو يتساءل: ” فلنفكر في بيئة تحدد فيها التوصيات وليس الكفاية والمقدرة، اختيار شخص للعزف في الأوركسترا” .. ولاحظ هنا أنه يتكلم عن خطورة الوساطة في حقل العزف فما بالك بمصير الشعوب؟!)
وحتى يوضح خطورة الأمر مضى قائلاً: “لنفترض أن من الممكن أن يؤثر الاتجاه نفسه على تخصيص المناصب ليس فقط منصب (عازف الفلوت) وإنما منصب الأطباء الجراحين مثلاً، ففي هذه الحالة لن تُقاس تكلفة الفساد من حيث النفخات الموسيقية، وإنما من حيث العمليات الجراحية غير المتقنة أيضاً، ومدى تأثيرها على المجتمع وأرواح الناس).
الواسطة و المحاباة .. وقود الثورات المعاصرة
قراءة بسيطة لحزم الثورات العربية التي بدأت من تونس ربما يظهر كيف أدت المحاباة دورا ًكبيراً في إشعال النفوس، خاصة عندما يأخذ من لا يستحق ما يستحقه الشعب لا لشيء إلا لأنه قريب الرئيس أو من عائلته، كعماد الطرابلسي، ابن شقيق ليلى الطرابلسي زوجة الرئيس الأسبق المخلوع زين بن علي، الذي أصبح في غضون سنوات أحد أكبر أثرياء تونس باحتكاره تجارة الموز، وقطعه السبيل على التجار الآخرين وتأخير شحن تجارتهم أو إفسادها إن لزم الأمر، ونظراً لمركزه ونفوذه كان رجال الجمارك بعهد الرئيس المخلوع يكرسون أنفسهم لخدمته، وتعطيل مصالح الآخرين، ودائماً كانت بضائعه تُصدر إلى الخارج قبل الجميع.
“بلحسن طرابلسي” الشقيق الثاني لـ ليلى الطرابلسي هو الآخر يدين لها بالفضل في صعوده السريع بعالم المال، فقد ظهر تقريباً بفترة التسعينات وخلال سنوات تكاثرت أملاكه فضمت محطة إذاعية، وشركة طيران، ومصنع تجميع قطع سيارات، ومشاريع وأسهم عقارية، والمضحك المبكي في الأمر أن يطوع الرئيس (وهو أعلى سلطة بالبلاد) نفسه لحماية أقارب زوجته فيصدر (22) مرسوماً رئاسياً لتعديل عدد من القوانين الاقتصادية حتى يعزز قبضة الشركات التى يمتلكها هؤلاء، وفقا ًلتقرير أصدره البنك الدولي بعد خلعه.
في ليبيا تبدو المحاباة واضحة في تولي أبناء الرئيس الليبي الراحل القذافي مقاليد البلاد وتصرفهم الكامل في ثرواتها، والحصول على ميزات عالية عن باقي الشعب الليبي كالحصول على امتياز بيع منتجات الكوكا كولا، وامتلاك حصص كبيرة في أضخم الشركات والمشاريع الإيطالية بفعل النفوذ السلطوي لهم ولأبيهم، فضلاً عن أرصدة في بريطانيا، تُقدَّر بمليارات الدولارات، وعقارات منها منزل فخم يملكه سيف الإسلام القذافي بلندن، وقد عُرض للإيجار بعد الثورة بحوالي 10 جنيه إسترليني أسبوعياً.
في مصر لا يمكن اعتبار المحاباة ولا الواسطة أمراً مستحدثاً، ففي عهد الملك فاروق كان الموظفون الصغار قبل الكبار يحابون التجار وأصحاب الثروة للاستفادة منهم مالياً، وقد رصد ذلك الأديب يوسف إدريس في روايته “العيب”، (تحولت لفيلم سينمائي)، وأظهر كيف أصبحت المحاباة منظومة متكاملة من الفساد، ثم جاء عهد الضباط الأحرار وبدلا ًمن محاربة الظاهرة والقضاء عليها تكاثرت مظاهرها حتى وصلت إلى الفن نفسه عندما حاول الموسيقار محمد عبد الوهاب استغلال علاقته بأحد الضباط للفوز بمنصب نقيب الموسيقيين بدلاً من المطربة أم كلثوم، وفي مجال السياسة حصل الصاغ (الرائد) عبد الحكيم عامر على ترقية ست رتب مرة واحدة ليصبح مشيراً حتى يتولى قيادة الجيش المصري، ليس لميزة عسكرية به وإنما لمجرد صداقته لجمال عبدالناصر، هذا فضلا ًعن عشرات الأمثلة التي يطول سردها.
في عهد الرئيس الأسبق حسني مبارك الذي أقالته ثورة شعبية شارك فيها جميع أطياف المجتمع، كان ملف التوريث و محاباة مبارك لأسرته وأبنائه لغماً تفجر في وجوه الجميع، واعترضت عليه المنظومة العسكرية نفسها، فقد أمسك جمال وعلاء مبارك بتلابيب الاقتصاد المصري، وصار علاء حسب النكات المصرية التي أُطلقت عليه شريكاً في كل المشاريع الكبرى من الباطن، مقابل التسهيل لأصحابها في الحصول على التراخيص اللازمة لها، وجسد الممثل الراحل خالد صالح في فيلم “يعقوبيان” دور زعيم الأغلبية بمجلس الشعب كمال الشاذلي، الرجل الذي كان يمنح العطايا وكراسي العضوية لمن ترضى عنه السلطة في مقابل بعض ثرواتهم، وبآخر سنوات “مبارك” غابت معايير العدالة الاجتماعية تماماً فمن يملك العلاقات هو من يفوز بالقرب من السلطة، وتسهيل أموره وإعفائه من الخضوع للقوانين.
“محمود الجمال” صهر جمال مبارك ووالد زوجته يبدو الصورة الأكثر وضوحاً لتلك المحاباة، فبعد زواج ابنته “خديجة” من الرجل الأول بعد أبيه في مصر أضاع على الدولة تقريباً (150) مليون جنيه أنفقتها على إقامة مشروع نووي بمنطقة تُدعى الضبعة، بأن حاول الاستيلاء على تلك الأرض لمد شبكة مشاريعه السياحية على طول الساحل الشمالى لمصر، وجرى اتهامه قضائياً بعد ثورة يناير 2011م بالاستيلاء على مساحات شاسعة من الأراضي بطريق مصر الإسكندرية الصحراوي بأسعار زهيدة، لتحويلها إلى منتجعات سياحية رغم أنها كانت مخصصة في البداية للاستصلاح والاستزراع كي تفيد اقتصاد البلاد.
“الجمَال” رغم كل هذا لم يكن سوى واحد من كتيبة رجال أعمال مختلفي التوجهات جذبهم إليه جمال مبارك، ومنحهم امتيازات كبرى، حتى أصبحوا مادة دسمة للأفلام والمسلسلات، وكانت محاباته لهم بغرض دعمه في ملف التوريث السلطوي، الذي لم يكتمل حينها.
المسلسل السوري الكوميدي “بقعة ضوء” الذي استمر لسنوات عدة يمكنه تلخيص مظاهر المحاباة في سوريا قبل قيام الثورة ضد الرئيس بشار الأسد، ففي حلقاته الكثيرة تناول المناصب الكبرى التي كانت تذهب لكبار القوم، وأظهر وجوهاً كثيرة من الفساد توافقت كثيراً مع الدراسات والأبحاث والتقارير الدولية التي تناولت حكم الرئيس السوري قبل اندلاع الثورة.
“ماهر”، “أنيسة بشرى”، “أسماء الأسد”، و”رامي مخلوف”، و”أصف شوكت”، كلهم مجموعة من أركان النظام السوري ومثال صارخ للمحاباة، فبحكم قربه وصلته العائلية بالرأس تولى ماهر الأسد الشقيق الأصغر للرئيس السوري قيادة الحرس الجمهوري، وأنيسة أرملة الرئيس الأسبق حافظ الأسد باتت صاحبة القرارات الكبرى في العائلة الحاكمة، وهي قرارات تتعلق بمصير الأمور للشعب السوري بأكمله، وبشرى شقيقة ماهر تزوجت من آصف شوكت، الموصوف برجل النظام القوي، حتى تستغل نفوذه في التأثير على القرارات المتخذة بالبلاد، أما رامي نجل شقيق والدة الرئيس بشار الأسد أنيسة فقد سيطر تقريباً على حوالي (60%) من الحراك الاقتصادي السوري، فأصبحت لديه منظومة متكاملة من الأذرع الاقتصادية تشمل قطاع الاتصالات وتجارة التجزئة والمصارف والنقل الجوي.
يتبقى من المجموعة السابقة “أصف شوكت” وهذا استغل القرابة أيضاً في تولي عدة مناصب حساسة وقوية منها استخبارات القوات البرية، والاستخبارات العسكرية، وبالطبع كان زواجه من بشرى الأسد الشقيقة الكبرى للرئيس السوري الجسر الذي واصل من خلاله القفز على السلطة، حتى عُين مساعداً لرئيس الأركان في الجيش السوري النظامي قبل تصاعد أحداث الثورة.
هذا غيض من فيض لصور المحاباة في الدول التي شهدت قيام الثورات بها، يتضح من سياقها كيف كانت المحاباة والواسطة السبب الأكثر ظهوراً لدمار تلك الدول، بسبب ما تثيره من ظلم وحرمان قطاعات الشعوب العاملة لأبسط حقوقهم بالمعيشة الكريمة وتولي الوظائف المناسبة لمؤهلاتهم الدراسية، وحتى المشاركة العادلة في الاستثمار ببلادهم، فضلا ًعن غيرها من المؤثرات السلبية الأخرى.