“كلما اشتد الفقر، باع الناس ذممهم” حكمة ربما تكون صحيحة بصفة عامة، لكن الثقة بها ضعيفة في العصر الحالي، فالفقر لم يعد السبب الوحيد للحصول على الرشوة ، لدينا تُخمة في الرؤساء وعلية القوم ممن لم يصمدوا طويلاً أمام إغرائها، منهم من قبلها، ومنهم من حمى ودافع عمن قبلها من رجاله.
خطورة الرشوة تكمن في تأثيراتها السلبية الكثيرة، فهي تعيق سير النشاط بالقطاعات العامة والخاصة، وتضر بالمصالح وبالثقة التي وضعت بتلك القطاعات من جانب المتعاملين معها، وهي مدخل للانحراف بالوظيفة العامة وفساد موظفيها، إذ تمثل خرقاً لمبدأ المساواة بين الأفراد المتساوين في المركز القانوني، فالخدمات المُفترض تقديمها إلى الجميع تُؤدى في حالة الرشوة فقط إلى من يدفع المقابل، في حين تُحجب أو تُعطل عن الأفراد غير القادرين أو يكرهون فلسفة الرشوة، فتكون النتيجة هدر حقوقهم ومصالحهم.
إهدار ثقة المواطنين في نزاهة الجهاز الإداري للدولة هو تأثير آخر سلبي للرشوة، والأخطر منه أن يعتقد من يدفعها قدرته على شراء ذمم الناس، والدولة ككل، لذا اعتبرتها الأمم المتحدة الوسيلة الأسهل لتعميم الفساد. إذا كانت هذه تأثيرات الرشوة على الموظفين بصفتهم العادية.. فكيف تكون بالنسبة لرئيس دولة أو رئيس وزراء بمثابة رئيس؟! .. قصص الرؤساء الحاصلين على الرشوة أو دافعيها بحاجة إلى توضيح كواليس هذا التصرف حتى تتضح الصورة جيداً.
موبوتو سيسيسيكو .. القُرصان
كان عهد رئيس الكونغو (زائير) الأسبق (موبوتو سيسيسيكو) مثالاً لفساد القمة ويصدق عليه نمط (الدولة-القرصان)(Pirate-State)، حيث أضحى جهاز الدولة بعهده مؤسسة للفساد ونهب الفائض الاقتصادي لصالح حفنة من المنتفعين، يمثل سلوكهم الفاسد جوهر مفهوم (الدولة القرصان) الذي يجسده (سيسيسيكو) ذاته.
حيث كان يحصل طبقاً لما أوردته مصادر عدة ضمن سلطته المطلقة التي كان يستخدم فيها كافة الوسائل المشروعة وغير المشروعة على (17%) من إجمالي الميزانية القومية للدولة كمدفوعات نظير خدماته الرئاسية، فضلاً عن سيطرته على استثمارات الدولة في الغالب، واستخدامه أموال الدولة في رشوة العناصر المعارضة لـه بغية خلق جماعة من المنتفعين لتدعيم وتأييد سلطاته ونظام حكمه السلطوي، وفقا ًلما أورده د.حمدي عبد الرحمن حسن في دراسته عن : الدولة ـ القرصان.
كلينتون .. الرشوة المُغلقة
الرئيس الأمريكي الأسبق بل كلينتون، لم يأخذ مكانه في دائرة الفساد لمجرد علاقته المشينة بسكرتيرته مونيكا لوينسكي، وإنما لفساده الإداري وتورطه في الحصول على رشاوى لتمرير صفقات مشبوهة، فهو عندما كان (حاكم ولاية) في أركنساس ظهرت لديه الكثير من ظواهر الفساد، منها إسباغ حمايته على مشروع عقاري ضخم بتلك الولاية (رأسماله سبعمائة مليون دولار) تقوم بتنفيذه شركة (أركنساس لتمويل التنمية) (A.D.F.A)، أُحيط إنشاؤها بملابسات محفوفة بالشكوك لأن الإدارة القانونية لها قام بها مكتب (روز للمحاماة) تعود ملكيته إلى (هيلاري) عقيلة كلينتون، وشريك آخر هو (فنسنت فوستر).
لُوحظ أن (هيلاري) تقاضت أتعاباً تقدر بمائة ألف دولار أمريكي لجهد لم يستغرق سوى بضع ساعات، وهو أجر حسب تقدير الخبراء في القضايا القانونية وأتعابها يفوق أتعاب أي محامِ أكثر شهرة من ذلك المكتب بكثير.
عندما أثيرت تلك الحادثة (حسبما ذكر الصحفي المصري الراحل محمد حسنين هيكل في كتابه “كلام في السياسة”) أمام القاضي المستقل (كينيث ستار) في سلسلة الاتهامات التي وجهت إلى كلينتون ومن بينها الفضائح المشينة أخلاقياً، طلب ذلك القاضي بيان مفردات المبالغ المدفوعة إلى مكتب روز من شركة (A.D.F.A)، وجاء الرد بأن المستندات فُقدت من ملفاتها، ومن خلال التحقيقات أثبتت الملفات المتبقية أن هنالك أصدقاء ومستشارين للرئيس (كلينتون) حصلوا على قروض من تلك الشركة لم يسددوها على ما يبدو، ثم شاع أن جزءاً من هذه القروض وجد طريقه إلى جيب (الرئيس) نفسه، وإلى تمويل حملاته الانتخابية من دون الإعلان عن ذلك مخالفة للقانون.
ثم اتضح أن هذه القروض والمبالغ قد رتب لها المكتب ذاته (مكتب روز للمحاماة) الذي كانت مكافأته أن عيّن (فنسنت فوستر الآنف ذكره) المستشار القانوني لرئيس الإدارة الأمريكية عندما وصل كلينتون لمنصب الرئيس.
تجلى ضعف دور الرقابة والمساءلة بالدولة الأقوى عالمياً عندما وقف القاضي (ستار) ولم يجد طريقاً للنفاذ إلى خبايا هذه الوقائع نتيجة لجدار الصمت الذي يصد الذين يعرفون دخائل الوقائع عن الكلام والخنادق التي تحصنت فيها كتائب من المحامين تزودت بكل الذرائع وتحوطت لكل سؤال، مما جعل (ستار) يقتنع أن الصمت والإخفاء سياسة مقصودة مؤيدة لسلطة لا يُرد لها أمر.
رئيسة كوريا الجنوبية .. صديقتها سبب الورطة
السجينة رقم (503) .. رقم حملته رئيسة كوريا الجنوبية السابقة، “بارك غوين هيه” في أول ليلة سجن لها بعد اتهامها بعدة تهم منها قبول رشاوى واستغلال السلطة بالتعاون مع صديقتها “تشوي سون”، لإجبار شركات صناعية على “التبرع” بـمبالغ قُدرت ب(70) مليون دولار لمؤسسات تشرف عليها “تشوي”.
المحامي “يو- يونج” الذي دافع عن رئيسة كوريا الجنوبية وصف الاتهام بالحصول على رشوة بأنه “خيال سخيف بعيد عن الحقيقة” لكن ذاك لا يمنع من أن الرئيسة أحاطت نفسها بسيدة مشبوهة استثمرت علاقتها بها لتحقيق مصالح عدة، فصديقتها “شوي سون-سيل” لها ابنة (شونغ يو-را) جرى اختيارها حسبما يقول الادعاء من “جامعة أوها” المرموقة للشابات على حساب فتيات أكثر كفاءة منها، بعد أن حصلت على أفضل تقدير رغم تخلفها عن حضور بعض المواد، وقد اعتقل أحد أساتذتها لأنه منحها علامة جيدة على مادة لم تحضرها أبداً وأرغم مساعديه على تزوير نتائجها المدرسية.
لا يتوقف الأمر عند الجامعة فقط، فالفتاة الصغيرة “شونغ يو-را” لديها صحيفة اتهام تشير إلى أن “شركة سامسونغ” دفعت ملايين الدولارات لشركة وهمية في ألمانيا لتمويل تدريب “شونغ” على الفروسية، ورغم أن “سامسونج” نفت التهمة عن نفسها، إلا أن تاريخ الفتاة يشير إلى أن تلك الاتهامات لم تأت من فراغ، فقد كتبت عبر حسابها بالفيسبوك عام 2014م تؤكد أن “المال جزء من الموهبة”. وأنه إذا لم يكن المرء موهوباً فيما يتعلق بالمال فإن عليه أن يتعلم ذلك من والديه!.
الرئيس البرازيلي دا سيلفا .. شركة نفط أغرقته بالوحل
“تسع سنوات ونصف”. كانت من نصيب الرئيس البرازيلي السابق “لويز إيناسيو دا سيلفا” بعد اتهامه بتلقي رشاوى من مؤسسة “أو إيه إس” مقابل مساعدتها في الفوز بعقود بناء بنايات سكنية على البحر، مع شركة النفط الحكومية “بتروبراس”.
كالعادة نفى “دا سيلفا” الاتهامات، لكنه لم ينف المشكلات التي تمر بها شركة النفط البرازيلية، “بتروليو برزايليرو”، المعروفة اختصاراً باسم «بتروبراس»، وتسيطر عليها الدولة، ومنها وإليها تعود مشكلته الرئيسة، فهي متخمة بقضايا الفساد، ومن ذلك اتهام شركة هولندية موردة للسفن بقيامها برشوة مسئولي “بتروبراس” للفوز بالأعمال، فضلا عما يُقال عن صفقات ضخمة دفعت فيها الشركة رشاوى طائلة لإقامة معمل تكرير بالولايات المتحدة، .. وهكذا بدلاً من أن تصبح شركة وطنية تفيد الدولة تحولت «بتروبراس» إلى موطن للرشوة والفساد.
رئيس غواتيمالا .. مصيره أغضب الأمم المتحدة
الرشوة كانت المسمار الأخير في نعش رئيس غواتيمالا السابق “أوتو بيريز”، فبعد أن اضطر لعزل وزراء الداخلية والطاقة والبيئة ورئيس جهاز المخابرات وعدد آخر من كبار المسئولين، إثر تورطهم بالفساد، للتقليل من حدة المظاهرات العارمة بالبلاد ضده، وجد نفسه مُتهماً بقبول ما مجموعه “25” مليون دولار خلال ثلاثة أعوام بدأت من عام 2012م وحتى عام 2015، وفق ما أعلنه مكتب النائب العام في غواتيمالا، مقابل منح شركة (تي سي بي) الإسبانية عقداً لبناء وإدارة محطة للسفن في أكبر موانئ غواتيمالا المعروف بـ “كويتزال”.
الضجة التي أحدثها خبر التحقيق مع الرئيس وصل صداها إلى مكتب أمين الأمم المتحدة “بان كي مون”، فخرج “ستيفان دوجاريك” المتحدث باسم المنظمة العالمية يقول إن الأنباء التي ترددت بخصوص الواقعة تشير إلى أشياء عدة منها أن “بيريز” كان يدير نظاماً فاسداً داخل جهاز الجمارك بغواتيمالا، يسمح للموظفين بإعفاء بعض الواردات من الرسوم مقابل حصولهم على رشاوى!.
عيزر فايتسمان .. رشوة دون محاكمة!
رئيس الكيان الإسرائيلي الأسبق عيزر فايتسمان، عُزِل من منصبه كرئيس في أعقاب ما سُمّي بـ”قضية سروسي”، وتلقى فيها مئات آلاف الدولارات بشكل غير قانوني، من رجل الأعمال “إدوارد سروسي”، ولم ينتظر فايتسمان كثيراً عندما تم الكشف عن الرشوة، فقدم استقالته، فيما قررت النيابة العامة أنه لا أساس لتقديمه إلى المحاكمة.
حدث ذلك عام 2000، حين أمر المستشار القضائي للحكومة “إلياكيم روبنشتاين”، بغلق ملف التحقيق مع “عيزر فايتسمان”، إلا أن كلماته بعدها ربما تسببت في تقدم “عيزر” بالاستقالة من منصبه، إذ قال “إن تلقي الرئيس هدايا من رجال أعمال، يحمل انتهاكًا للقوانين وتضاربًا في المصالح” .. لكن حتى الآن ليس هناك سبب محدد لعدم الزج بـ”عيزر” في السجن.
أولمرت .. محاكمة لمدة عامين
لأكثر من سنتين، ظل رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق “إيهود أولمرت” يُحاكم بتهمة تلقي مجموعة رشى عندما كان رئيساً لبلدية القدس، وهو وفقاً للصلاحيات المخولة إليه، والنظام العام للكيان يُعد بمثابة الرئيس الفعلي لدولة الاحتلال.
في عام 2014م أدانت المحكمة المركزية “أولمرت” في قضية هوليلاند (مشروع عقاري ضخم في القدس) بتهمة تلقّي رشاوى وخيانة الأمانة وحكمت عليه بستّ سنوات من السجن الفعلي، وعامين من السجن المشروط، وغرامة بقيمة مليون شيكل، وفي 2015م برأته المحكمة العُليا من الاشتباه، ولكن أبقت على إدانته بتلقّي رشاوى في قضية أخرى، وحكمت عليه بعقوبة السجن لمدة 18 شهراً قبل أن يغادر السجن بعفو صحي.
التفاصيل تقول إنه أثناء تولي “أولمرت” رئاسة بلدية القدس طوال الفترة من (1993 إلى 2003)، تلقي رشوة بقيمة 500 ألف شيكل (126 ألف دولار)، مقابل دفع مشروع للعقارات الكبرى سُمي بـ”هولي لاند” (الأرض المقدسة) إلى حيز التنفيذ.
أما السجن الفعلي 8 أشهر، إضافة إلى 8 أشهر مع وقف التنفيذ فقد حكم عليه بها في قضيّة “تالانسكي”، وسُميت القضية باسم صاحب الرشوة، وهو رجل الأعمال اليهودي الأمريكي “موريس تالانسكي” ودفعها إلى “أولمرت” لتسهيل أنشطته التجارية في إسرائيل، خلال توليه منصب وزير الصناعة.
برلسكوني .. أحرج رئيسه والفاتيكان!
منصب الرئيس في إيطاليا يُعد أيضاً شرفياً، ما يجعل رئيس الوزراء بمثابة الرئيس الفعلي للبلاد، ومن هنا أصبح “سيلفيو برلسكوني” هو أقوى رئيس حكومة يحرج رئيس بلاده الشرفي، فضلاً عن أعلى سلطة دينية في روما والعالم الغربي وهي الفاتيكان.
حالة “برلسكوني” تختلف عما سبقها فهو هنا من يدفع المال وليس من يحصل عليه لذا جاء في نهاية القائمة لهذا الموضوع .. اشتُهر عنه أنه زئر نساء، فجاءت الرشوة هنا لتغطية بعض نزواته الجنسية، وبدأت القصة براقصة شرقية مغربية تبلغ من العمر 18 عاماً دعاها برلسكوني إلى حفلاته، وقيل أنه دفع لها أموالاً مقابل ممارسة الجنس معها.
الفتاة نفت ذلك جملة وتفصيلاً، لكن نصوص مكالمات هاتفية (ضمها ملف القضية) أوضحت أنها طلبت من “برلسكوني” أن يدفع لها أموالاً مقابل عدم إفشائها سره، وأنه أجابها بأنه على استعداد لإعطائها كل ما تريد من أموال.
رئيس الجمهورية الإيطالي “جورجيو نابوليتانو” بدا منزعجاً جداً وهو يقول إن بلاده تعاني من حالة اضطراب خطير بسبب الاتهامات الموجهة لرئيس الوزراء سيلفيو برلسكوني، وتضامن معه الكاردينال ترشيسيو برتوني ( وزير خارجية الفاتيكان) فقال : “الكنيسة تحث وتدعو الجميع خاصة أولئك الذين يشغلون منصباً رسمياً بالالتزام بالأخلاق الحميدة، وبروح العدالة والقانون”.
بالطبع نفى برلسكوني التهم الموجهة إليه معتبراً أنها ذات أهداف سياسية، ففاجأته وكالة الأنباء الإيطالية “أنسا” بنص مكالمة تليفونية مسربة بين امرأتين كانتا من بين المدعوات للحفلات المشينة، تقول فيها إحداهن للأخرى: “إن ما يُنشر في الصحف أقل بكثير من الحقيقة. فالمطلوب ممن يحضرن هذه الحفلات إما أن يفعلن كل ما يُطلب منهن أو أن يغادرن”، ما يشير إلى أن الرشوة التي عرضها على الفتاة المغربية كانت مجرد واحدة من مجموعة فتيات أخريات، ويدل على ذلك أن قاضي الدائرة الرابعة في محكمة ميلانو الجزائية، “كارلو دي ماركي” قرر إحالته للمحاكمة بتهمة تورطه في دفع رشاوي بنحو 10 مليون يورو بين عامي 2011 و 2015، لتغيير شهادات فتيات حول مشاركتهن في حفلات ماجنة في قصره بالقرب من ميلانو، وهي القضية نفسها التي كانت الفتاة المغربية طرفاً فيها.
إضافة إلى ذلك، اتُهم “برلسكوني” بدفع قرابة “600 ألف دولار” إلى محاميه البريطاني لشؤون الضرائب “ديفيد ميلز” ليشجعه على تقديم إفادات خاطئة بشأن محاكمتين لبرلسكوني خلال فترة التسعينيات الماضية.