تعاني عدة دول في المنطقة العربية حاليا من انقسامات عرقية ودينية وحروب أهلية، بينما تحاول باقي الدول الهروب من مصير معتم يلوح في أفق المنطقة العربية ككل. يرى البعض أن تلك الحال هي نتاج ثورات الربيع العربي كما يروج لذلك أنصار الثورة المضادة والأنظمة السابقة داخل دول الربيع العربي ومن خلفهم مَلَكيَّات عربية تحاول حسر تلك الثورات السلمية خشية أن تطال عروشها. بينما يرى آخرون أن السبب الرئيس وراء كل ذلك هو انسداد مسارات الحداثة العربية.
ما الحداثة؟
من الصعوبة وضع تعريف جامع مانع للحداثة؛ فهي، ككل المصطلحات الاجتماعية، وليدة سياق تاريخي، أوروبي في نشأته، وإن اتسع بعد ذلك ليشمل تأويلات وإعادة تأويلات عدة داخل أوروبا وخارجها، بداية من مدرسة دراسات التابع في الهند حتى دراسات ما بعد الحداثة في أوروبا وأمريكا. لكننا سنكتفي هنا بوضع حدٍ أدنى من خصائص الحداثة كتعريف، وهو: تصور نسق اجتماعي، اقتصادي، ثقافي يقوم على الأسس العقلية في مختلف مناحي الحياة.
الإرهاصات الحداثة العربية الأولى
مع فجر القرن التاسع عشر بدأت فكرة الهويّة العربية في التبلور والظهور، خاصة لدى مسيحيي الشام، في تأثر واضح بالمد الأوروبي ورغبة في الفكاك من أسر الدولة العثمانية. في الفترة نفسها شهدت مصر بناء محمد علي دولة قوية ذات جيش، ومن خلفه اقتصاد، قائمَيْن على أسس وقواعد أوروبية في مجملها، مكنته من تحدي الآستانة التي كانت هي الأخرى، في الفترة نفسها، تسعى للتحديث عن طريق تبني إصلاحات جديدة عرفت باسم “التنظيم العثماني“، وهي سياسات تهدف إلى تحديث الدولة العثمانية والحفاظ على وحدتها.
وكما حدث في النهضة الأوروبية التي عادت إلى التراث اليوناني السابق للمسيحية واستلهمته كمحور انطلاق جديد في عصري النهضة والتنوير الأوروبيين، فإن النهضة العربية رجعت إلى التراث اللغوي والأدبي العربي مع إحياء العربية الفصحى على حساب العاميات المحكية.
استخدمت مصطلحات كالنهضة العربية ويقظة العرب والتنوير للدلالة على مجمل التطورات التي شهدتها الأقاليم العربية، خصوصا مصر وتونس ولبنان، إيذانا بتشكل كيانات سياسية جديدة على أسس قومية وليست دينية، ترتبط بتخيل هوياتي جديد بعيد كل البعد عن التصور الديني، هو العروبة ومن بعده الوطنيات السورية والمصرية. تلك الأسس اللغوية والوطنية باعدت بين مشروعي التحديث العثماني والعربي.
شكلت أعمال بطرس البستاني ورفاعة الطهطاوي مع الإصلاحيين الإسلاميين كمحمد عبده ورشيد رضا وصولا للعلمانيين كفرح أنطون وشبلي شميل ومن بعدهما سلامة موسى وطه حسين عماد النهضة الأدبية العربية التي حملت في داخلها ملامح عصري النهضة والتنوير الأوروبيين.
إلا أن أغلب تلك المشروعات النهضوية كانت مرهونة بإرادة حكام أقوياء، محمد علي كمثال، ارتأوا الأخذ بنماذج الحداثة الأوروبية في إدارة الاقتصاد والجيش، ولم يتبنوا نماذج الإدارة السياسية كالحياة النيابية والديمقراطية. كما عمل أغلب مفكريها وتربوا داخل جهاز الدولة الإداري. الأمر الذي منع تلك الأفكار التنويرية من التغلغل داخل المجتمعات العربية. كما خلق الاحتلال الأوروبي للأراضي العربية، مثلما فعل الغزو الخارجي المغولي مع ابن تيمية من قبل، تيارا داخليا رافضا للغرب وقيمه التنويرية، مفضلا العودة الكاملة إلى الرصيد الإسلامي السابق. ولاقى هذا التيار تأييدا قويا من جانب المهمشين من أبناء الريف والطبقات الفقيرة الذين أنهكتهم التحديثات الرأسمالية الجديدة.
معوقات الحداثة العربية
ربما أهم أسباب فشل النهضة العربية أنها خضعت لاستيراد نماذج الحداثة الأوروبية وأطرها الإيديولوجية، قومية كانت أو ماركسية أو غير ذلك دون الاهتمام بالحس التاريخي العربي. فالتجربة الأوروبية، عكس العربية، هي حصيلة اشتغال الذات على نفسها. فالتحرير الآتي من الداخل أكثر إقناعا وملاءمة لمقتضيات الواقع ورسوخا على الأرض.
وطالما لم يقم العرب بعملية نقد الذات والتراث العربي بشكل صحيح فإن الجميع سوف يخضع لأحكامه المسبقة بشكل واعٍ أو لا واع، وسوف نخضع لإعادة تدوير أزماته الداخلية باستمرار. من أجل ذلك لابد من العودة للتاريخ العربي الإسلامي في محاولة لفهم أسباب تخلّف المجتمعات العربية والوقوف على مدى تأثير تلك الأسباب أو انتفائها في واقعنا المعاصر.
يمكننا تقسيم أسباب تخلف العرب حضاريا، بعد أن بلغت حضارتهم مرتبة العالمية، وأسهمت بعلومها وآدابها مساهمات بالغة الأهمية للحضارة الإنسانية، إلى أسباب داخلية وخارجية.
الأسباب الخارجية
أسهم الغزو الخارجي، الصليبي والمغولي ومن بعدهما العثماني، في خلخلة البنية الداخلية للمجتمعات العربية، وتوجيه فوائض الإنتاج للعمليات الحربية والعسكرية، إضافة لانتقال مراكز الحضارة خارج الأقاليم العربية.
كما سلط الغزو الخارجي على تلك الأقاليم العربية بعد ذلك حكاما غير عرب، محاربين في الأساس، هم أقرب للبداوة عن حياة المدنية ولا يجيدون اللغة العربية، لغة العلم والحضارة آنذاك، كحكام المماليك في مصر ذوي الأصول المغولية في الغالب ومن بعدهم الأتراك العثمانيين، الذين لم يهتموا بدعم الإنتاج العلمي والأدبي.
إضافة لاكتشاف الأوروبيين طرق تجارة بينية وبديلة، كاستخدام بحر الشمال واكتشاف طريق رأس الرجاء الصالح والأمريكيّتين بعد ذلك. كل تلك الاكتشافات الجغرافية حرمت المنطقة العربية من مزايا لوجستية واقتصادية تمتعت بها في السابق نتيجة لوقوعها في طرق التجارة العالمية.
الأسباب الداخلية
يمكن تقسيم أزمة الحضارة العربية داخليا إلى سببين رئيسين أحدهما عقائدي لاهوتي والآخر اقتصادي.
اقتضت الحاجة السياسية للحكام العباسيين في القرن الحادي عشر الميلادي توحيد صيغة إسلامية واحدة للسيطرة علي مقاليد الأمور في الدولة الإسلامية وإعادة الخلافة إلى موقعها الأصلي المعروف في السيادة السياسية بعد أن بدأ انفراط عقدها وظهور دويلات شبه مستقلة عن الدولة العباسية، بعضها تخالفها في المذهب العقائدي. انتهى الأمر بتغليب الحرفية النصية للمدرستين الأشعرية والحنبلية على حساب المعتزلة شبه العقلانيين.
كان لغلبة المذاهب الحرفية النصية أعمق الأثر على تشكل عقلية عربية جديدة تنتفي عندها العلاقة بين السبب والنتيجة “فالنار لا تحرق ولكنها تحرق بأمر الله”، إضافة للجمود والركود الفكري الناتج عن تبني الدولة صيغة دينية رأسية بطريركية “هي الصواب بأمر السلطة” بعد تأميم الدين الإسلامي الأفقي المحمدي بصيغه المتنوعة بتنوع المؤمنين وتفاعلاتهم البينية، تلك الصيغة الأفقية القادرة علي هضم المشكلات والاستجابة لها والخروج بحلول ملائمة على اختلاف البيئات والزمان وتفاوت قدرات البشر المعرفية. كل هذا أدى إلى سبات العقل العربي حتى كانت الصدمة واستيعاب الهوة الحضارية بينه وبين الآخر الغربي مع الحملة الفرنسية على مصر.
أما على الجانب الاقتصادي، لم تعرف المجتمعاتُ العربيةُ الملكيةَ الفرديةَ كحق مستقر قابل للتعاقد عليه، بل غلبت عليها صفة الوظيفية كالتصرف والانتفاع بالملكية لا حق امتلاكها. كما نرى ذلك في حق الالتزام -أي الحيازة والتصرف في الأراضي نظير دفع ضرائب معينة- في مصر قبل عهد محمد علي.
تلك الصورة من الملكية كوظيفة لم تسمح بالتراكم الرأسمالي ولا بتبلور طبقة برجوازية تطمح بعد ذلك في التدخل والتحكم في سياسات الدولة بما يخدم مصالحها، وبالتالي بقيت صيغة الحاكم -المسيطر بقوة العشيرة العسكرية القبلية- والرعية هي الصفة الغالبة على المجتمعات العربية ولم تتطور لمرحلة وعي الفرد بنفسه كفرد حر له مصالح متباينة عن مصلحة الحكام أو باقي المحكومين.
الربيع العربي
خرجت المظاهرات في المدن العربية في العام 2011 رافعة شعارات حداثية علمانية “إنسانوية” متجاوزة أي عداء للآخر وأي وطنية شوفينية تطمح إلى الحرية والعدالة الاجتماعية. إلا أن مأزق الربيع العربي هو أنه جاء قبل أن نقوم بمراجعة داخلية مفتوحة مع تراثنا وماضينا العربي، قبل أن نهضمه ونتصالح معه، حتى نتجاوز عيوبه غير قلقين من تبعاتها مرة أخرى وهو ما نعاني منه اليوم. ربما الآن هي فرصتنا الحقيقية الكبرى كي نقوم بمراجعاتنا المستحقة، كي نتبنى بعد ذلك حداثة عربية إنسانوية جديدة في توجهها، تضع الإنسان همّها الأول.
مراجع
- لم يعد لأوروبا ما تقدمه للعرب – خالد زيادة – مكتبة الأسرة
- الغرب والإسلام.. الدين والفكر السياسي في التاريخ العالمي – أنتوني بلاك، ترجمة فؤاد عبد المطلب – سلسلة عالم المعرفة
- العرب ضد العالم.. الأيديولوجيات الشمولية واللاهوت العربي الإسلامي – أمين المهدي – العربية للنشر
- في أصول المسألة المصرية – صبحي وحيدة – مكتبة الأسرة
- الانسداد التاريخي.. لماذا فشل مشروع التنوير في العالم العربي – هاشم صالح – دار الساقي