استمر المجال الفكري والسياسي والديني والاجتماعي، منذ عصر النهضة العربية الأولى (بين أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين)، إلى حاضرنا الاني، بالتعاطي مع الحداثة الغربية ومنتجاتها السياسية والاقتصادية والعلمية والفكرية، بطرق مختلفة ومتفاوتة ومتباينة، وكان مرجعية هذا التذبذب، هو الخوف مما قامت به الحداثة الغربية من تجاوزات تاريخية ضخمة لا يزال العقل العربي المسلم غير قادر على نقاشها أو الانتهاء منها أو إحداث القطيعة المناسبة معها، وخصوصا فيما يتعلق بالتاريخ الإسلامي ومصطلحاته وقيمه ورموزه، كما فعل عصر التنوير الأوروبي مع التاريخ المسيحي، الذي دشن النهضة الصناعية وما تبعها من إبداع علمي وعلوم نقدية وإنسانيات أخلاقية وسياسات ديمقراطية شكلت هيكل وقوام الدول الغربية بشكلها الحديث المعاصر، بعد أن انتهى من تهذيب المسيحية ونقدها وتفكيكها ثم وضعها في شكل وعلاقة مجتمعية خاصة.
ولعل ما يتبادر إلى الذهن العربي، حين يتم استجلاب مفاهيم الحداثة وتداعياتها الفكرية والعقلية، هو ما ينسب إليها من حسن الإدارة، ومتانة الاقتصاد، ودمقرطة الدول، والرفاه الاقتصادي، وهامش ضخم وكبير من التعاطي الإيجابي الحقوقي المتعلق بالحريات والاستقلالية والمرأة والتعليم والقوة العسكرية. فكيف تقدمت مثل هذه الدول الغربية، التي لا تزال في المخيال العربي الإسلامي -جله وسواده الأعظم– دولا منحلة وكافرة وبعيدة عن الله والإسلام وشريعة النبي محمد؟ لا شك أنه سؤال جوهري وعميق وتاريخي حتى. فالذهنية العربية، ولا أستثني مقاربة الذهنية الغربية عندما كانت تعيش في العصور الوسطى البدائية، لا تزال تعتقد وتؤمن بأن التقدم والتطور هو نتاج الإيمان والتقرب إلى الله، وتطبيق تعاليم الأديان بحذافيرها، وإلا فسوف تواجه الشعوب والدول انهيارات شتى وتراجعات جمة وانحلالات فاسقة إذا ما رفضت تطبيق الدين وتفويض السلطة الكهنوتية بكل ماله علاقة وشأن بالحياة.
لا شك بأنها إشكالية ومعضلة، تعيش وتنمو داخل الذهنية العربية وحتى الإسلامية فيما قلناه، حول كيفة تقدم مثل هذه المجتمعات الغربية، وكيف استطاعت الهيمنة على العالم بصناعاتها وفنونها وقوتها، هل الدين المسيحي هو الحل؟ أم تمسكهم بيسوع واتباع تعاليمه حرفيا دون نقصان؟ أم باتباع الديانة اليهودية وحفظ ونشر الوصايا العشر وتعاليم داود وسلمان؟ ولكن كيف يمكن لهم التفوق، والحديث للذهنية العربية، كيف يتقدمون ببراعة ونحن نملك أفضل دين، ونبينا محمد خاتم الأنبياء والمرسلين، وشريعتنا الإسلامية كاملة بلا نقصان، وصالحة لكل زمان ومكان، كما قال لنا رجال الدين والفقهاء، وكما رددوا علينا في الإعلام والمساجد والحسينيات والمناهج التعليمية؟ هنا، لم يحاول العقل العربي المسلم، الولوج إلى عمق الإشكالية بقدر ما عكسها جهلا وتغييبا، بزيادة الجرعات الدينية وببناء الكثير من دور العبادة وبنشر تعاليم الإسلام أكثر وأكثر حتى ضاقت الأرض بما رحبت من تزايد أعداد الدعاة والفقهاء والمساجد وكليات الشريعة والفقه، ونقصان عدد المدارس والجامعات والمكتبات ومراكز العلم والفلسفة والفنون، في مفارقة ساخرة وعماء نفسي قبل أن يكون عقليا في رؤية النتائج بدون البحث ومواجهة الأسباب. هنا أيضا، لم يتخلص التاريخ الإسلامي من الهيمنة اللاهوتية، كما تخلص التاريخ الغربي من الهيمنة اللاهوتية، بعد أن أسس الإيطالي جون باتيستا، أول كتابة للتاريخ بشكل علمي، بعيدا عن السيطرة اللاهوتية على مناهج التاريخ.
بينما، وعلى الضفة الأخرى، في عالم الغرب بمعظمه، وفي الشرق الأدنى أيضا ببعض دوله ومجتمعاته، كاليابان وكوريا الجنوبية وسنغافورة، نرى تلك الدول بأديانها المختلفة وعرقياتها المتعددة وهوياتها المتنافرة والمتناثرة، قد استطاعت توحيد الأمة، وتحقيق السلم والأمان المجتمعي، وتحقيق الرفاه الاقتصادي والديمقراطية الليبرالية والضمان الاجتماعي والعدالة والمساواة وتخفيض نسب الفقر والبطالة. فمن أين جاء كل هذا؟ ومتى تحقق؟ وما العمليات والخطوات والإجراءات والاليات السياسية والاجتماعية التي أدت إلى الوصول لمثل هذه النتائج المبهرة؟ بالتأكيد، ولا يخفى على كل مطلع وقارئ وباحث، أن النقطة الفاصلة، والحدث الجلل، والعبور من نفق الظلام والعبودية وسلطان الكهنوت، كانت وبدأت، حينما انتصر الإنسان لذاته، وعقله، وإرادته، وحريته. حين وقف بكل قوة ومواجهة وصمود أمام الاستبداد السياسي والوصاية والهيمنة والاقطاعية والعبودية. حين رفض بشكل قاطع انتظار الجنة الموعودة، وبدأ في خلق وصناعة جنة الإنسان على الارض. حين بدأ يفكر، وينتقد، ويشك، ويتساءل، ويحلم، ويكتب، ويقرأ، ويغني، ويرقص، ويخرج من قصوره المعرفي. حين صرخ ورمى أول حجر في المياه الراكدة. وحين طالب بشنق اخر ملك بأمعاء اخر رجل دين.
لم يكن التحول من الجهل والاستبداد، إلى التقدم والاخلاق. من البدائية الفكرية، إلى العقل النقدي، عملا سحريا ولا بفعل عصا موسى. بل هو تحول بدأ مع تفكير الإنسان حوله، مع مشاهدته ومعاصرته لكل التحولات والتراكمات البشرية في مسار القمع والوصاية وتهديد الإنسان، مع مواجهته للطبيعة وفهمها ومحاولة هزيمتها أو التكيف معها، مع إسقاط فكرة القداسة عن الأديان ونقدها ومحاولة مواءمتها مع الواقع. بدأ حين توصل فلاسفة الأنوار، روسو وهوبز وجون لوك، إلى فكرة ومفهوم التعاقد الاجتماعي، الذي لعب دورا حاسما في التحول من النظرة الدينية حول المجتمع والسلطة، إلى فعل تعاقد بين الناس، يقوم على العقل والديمقراطية والاختلاف، باعتبار إرادة الأفراد في المجتمع هي أساس وأصل الإرادة الجماعية نفسها. بدأ مع الفكر الحداثي الذي أعاد ترتيب الواقع الوجودي في الحياة، باعتبار الإنسان، كائنا مركزيا وفاعلا أساسيا في التاريخ والمعرفة والإبداع. بدأ مع عمليات التنوير وفصل الدين عن الدولة. بدأ مع ميشيل فوكو حين وضع أسس المنهج الاركيولوجي للحفر في النصوص القديمة. ذلك الحدث، والفصل، والتنوير، والقطع الفكري والعلمي والتاريخي مع كل ما هو قديم ووصائي ومقدس، خلق العلمانية التي استطاعت، وفق أدواتها السياسية والاجتماعية والاقتصادية، أن تجعل الدول، مجتمعات مدنية وشعوبا متعايشة. أن تجعل من الأديان ومن كل المعتقدات مجرد خيارات شخصية وعلاقات خاصة لا شأن لها بالدولة وقوانينها وسياساتها. العلمانية التي يقول عن نشأتها وأصولها السيد ممدوح الشيخ في ملف اللائكية والإسلام، “تعود الجذور التاريخية للكلمة إلى الفلسفة اليونانية القديمة، لفلاسفة يونانيين، أمثال أبيقور. غير أنها خرجت بمفهومها الحديث خلال عصر التنوير على يد عدد من المفكرين أمثال فولتير، هوبز، لوك، سبينوزا الخ. ولا تعتبر اللائكية شيئا جامدا، بل هي قابلة للتكييف حسب ظروف الدول التي تتبناها. كما لا تعتبر العلمانية ذاتها ضد الدين، بل تقف على الحياد منه”.
كانت العلمانية، هي المجال الفكري والسياسي والاجتماعي الذي سمح للدول المتقدمة وللشعوب نفسها، أن تفهم الحياة، وأن يفهم كل فرد دوره وحدوده وإمكانياته. لكن وبنفس الوقت نقول، بأن العلمانية ليست الحل السحري ولا النهاية التاريخية المحتمة، كما قال فوكوياما في كتابه “نهاية التاريخ والإنسان الأخير”، حيث أشار بأن التاريخ ليس فترات وأزمنة ومراحل، بقدر ما هو وصول للنموذج الأمثل والقائد، والذي باعتقاده قد اكتمل تاريخيا مع الديمقراطية الليبرالية. بل العلمانية، حين تستوطن مجتمعا ما، وحين تطالب بها شعوب ما، تحتاج إلى وعي بها، وممارسة معها، واندماج فكري ومؤسسي وتعليمي وحتى مستقبلي. فالعلمانية ديمقراطية وحريات وحقوق إنسان ومساواة ومواطنة وقبول للاخر المختلف، وكلها أدوات قانونية دستورية يجب أن تكون موجودة في قوانين ودستور الدولة. يجب أن تكون ثقافة وسلوكا وذهنية جمعية، يجب أن تكون وتصبح، مناهج تعليم وإعلام دولة وعمقا فكريا وفلسفيا لدى الأجيال.
إن تراجع وتخلف مجتمعاتنا العربية، لا علاقة له اليوم بالديمقراطية أو الليبرالية أو العلمانية. لا علاقة له بالحداثة والمساواة والمواطنة والحريات، فهذه نتائج وعي وتغيير وثورة وعقلانية. بينما مجتمعاتنا وغالبية شعوبنا، لا تزال ترزح تحت نير الوصاية والتقاليد والقمع والظلم. تراجع وتخلف مجتمعاتنا، لا يحتاج إلى العلمانية أولا، بل يحتاج إلى التنوير كخطوة أساسية وفكرية وحتى دينية في التخلص من قيود القداسة والوصاية والأبوية. فالعلمانية في المجتمعات الغربية لم تستوطن بسهولة، ولم تستوعبها الشعوب الغربية بقبول وانسجام، بل جاءت بعد محاولات كر وفر ورفض ونقد. بينما العقل العربي المسلم، إذا ما أراد التقدم والنهوض، عليه أن يثور أولا، كما ثارت العقول من قبله، أن يرفض ويحتج ويطالب ويفكر. بعدها، وحينها، ومع الوعي التاريخي المناسب، ستكون العلمانية في الدساتير العربية، ليس حلما ولا أملا ضعيفا، بل ستكون مجرد تحصيل حاصل لشعوب واعية هزمت كل ما يعوقها وانتصرت لنفسها.