عند الحديث عن اللادينيين في عُمان نجد أننا أمام تجارب إنسانية واسعة من التحولات الفكرية في واقع عام متدين تخرج منه قصص كثيرة تحكي الصراعات مع الدين في المقام الأول ثم الصراعات مع المجتمع الذي لا يعترف بوجود المخالفين، الكثير من القصص والكثير من التجارب في هذا الواقع الذي فرض على المختلفين عن النمط السائد أن يتعايشوا من خلال وسائل كثيرة قد تجعلهم في ضغوط مستمرة مع علاقاتهم الاجتماعية، أو أنها تفرض عليهم التعود في التعايش مع هذا الواقع ولكن بشخصيات ليست حقيقية.
هنا ومن خلال حوارات عدة مع اللادينيون في عُمان ، استطاعت مواطن أن تحصل على بعض القصص الواقعية من داخل المجتمع العماني ومن قلب السلطة الدينية السائدة ومن شخصيات تمثّل بكل تأكيد فئة كبيرة صامتة آثرت السكوت بدلاً عن الكلام خوفاً من العواقب الاجتماعية والقانونية التي تحارب الاختلاف في التوجهات الدينية ولا تعترف بأشكال الخروج عن الدين على الأقل من خلال السلطة الدينية في عُمان وأثرها على الناس ومباركة القانون لها.
القصة والعلاقات بالمجتمع
(م.ع) طالبة جامعية تبلغ من العمر 23 سنة، تحكي لمواطن قصة التعايش مع المجتمع في ظل عقيدتها اللادينية، فقد قالت عن البدايات التي قادتها إلى اللادينية: “البداية كانت في مرحلة مبكرة من عمري حينما كنت أطرح الكثير من الأسئلة لأهلي وجميعها متعلقة بسبب التحريم، والإباحة فلم أكن أحصل على الإجابات غالباً مع التوبيخ المستمر للامتناع عن طرح الأسئلة، وحتى الإجابات التي كنت أحصل عليها لم تكن مقنعة بالنسبة لي، فبدأت بالبحث والاطلاع بنفسي لأحصل على الأجوبة للتساؤلات التي تدور بعقلي فاقتنعت بأن الدين وُضع لصلاح فترة زمنية ومكانية محددة ولا يصلح لكل زمان ومكان، ووجدت بأن الدين عبارة عن تحيّز واضح للذكورية، ولا يوجد به أي إنصاف للمرأة، وأرى بأن الإسلام دين ذكوري بحت يعقد حياة النساء ويقيدها بمبررات ليس لها داع، وكل ما في الموضوع هو أنني سأعيش حياة واحدة فلماذا نُطالب بأن نعيش حياة لا نريدها فقط لأننا ولدنا في هذه الرقعة الجغرافية”.
وأضافت تصف علاقتها بالمجتمع وطريقتها في التعامل معه: “علاقتي مع المجتمع منطلقة من شخصية مزيفة، خاصةً في محيط العائلة خوفاً من أكون منبوذةً بسبب اعتقادي، ولا يمكن أن أكون حقيقية إلا مع الأصدقاء وفي نطاق ضيق جداً، لأن مسألة ترك الدين ليست بالمسألة الهينة في مجتمعنا فنحن معرضون للإيذاء والسجن وغيرها من أساليب الضغط إذا حاولنا التعبير عن اعتقادنا أمام المجتمع كونه لم يتربى على احترام حرية المعتقد،فنحن في هذه الحالة مجبرون على أن نعيش حياة ازداوجية لكي نحمي أنفسنا من كل شيء في هذا المجتمع، أما عن الممارسات الدينية فأنا أمارسها أمامهم فقط كالصوم مثلاً، أما الصلاة فقد تركتها إلا أنني أتعرض لانتقادات كثيرة من الأهل لهذا السبب”.
وبما أن النشاطات الفكرية المنطلقة من التساؤلات والنقد المستمر للفكر الديني السائد على منصات التواصل الاجتماعي أمر لا يُرحبُ به في عمان فقد تحدثت عن نشاطاتها الفكرية قائلةً: “سابقاً كان لي نشاط فكري مهتم بنقد الدين وممارساته على تويتر، ولكنني شعرت بأن هذا الوضع ليس آمناً، فقد كنت أتعرض للتهديدات والانتقادات الكثيرة من الأهل والمتابعين الذين كانوا يهاجمونني بالسب والشتم والتهديدات وغيرها، لذلك فضلت التوقف عن هذا النشاط”.
(ع.ف) شاب عماني يبلغ من العمر 20 سنة، يتحدّث عن تجربته اللادينية في عُمان وكيف استطاع أن يندمج مع المجتمع، فقد قال في بداية حديثه: “تركت الدين بشكل رسمي عندما كنت أبلغ من العمر 17 سنة وأعلنت لأهلي أنني لا أريد أن أصلي لأنني لست مقتنعاً بالصلاة، هذا الكلام كان بعد سنوات من التظاهر بالذهاب إلى المسجد مجبوراً من قبل الأهل”.
وأضاف موضحاً الأسباب التي دعته لترك الدين: “أما الأسباب فهي كثيرة وكلها تتنافى مع الإنسانية، ومع حقوق الإنسان بشكل عام، وحقوق النساء والطفل بشكل خاص، وكانت بدايتي من الطفولة بشكل تدريجي، كنت أتلقى الصدمات المستمرة من الإسلام وأولها عندما كنت في الإبتدائي عندما اكتشفت أن الرجل يحل له الزواج من 4 نساء، فسألت المعلم لماذا لا يحل للمرأة أن تتزوج من 4 أزواج، وطبعاً واجهني المعلم بالضحك والاستنقاص من صغر سني وجهلي، وأيضاً مسألة الولاية فوالدتي يتيمة أرادت مرة أن تتزوج وليس لديها أب أو أخوان فلم يوافق القاضي وقتها على تزويجها وقال بأني صغير على أن أزوّج أمي فكانت صدمة أخرى وهي لماذا لا تستطيع إمرأة كبيرة وعاقلة أن تزوّج نفسها؟ .. وفي الثانوية التقيت بصديق سمعت أنه يكذّب الأحاديث والجميل أنني لم أكن متعصباً،فقررت الحديث معه، وبعد انتهاء الحديث سألته عن مصدر كلامه، فقال: الدكتور محمد شحور.. مفكر إسلامي”.
وتحدّث عن رحلته مع كتب المفكر محمد شحرور قائلاً: كان محمد شحرور هو نقطة البداية لتغيير تفكيري وتحرري من الدين والنظام الأبوي، فتعلمت أشياء رهيبة عن الدين منها: أن لا سلطة للدين على الناس، ويجب عليه أن يكون اختيارياً. قابلت هذه الحقيقة في الواقع، فهناك (علموهم لسبع واضربوهم لعشر) وهناك لبس الحجاب والنقاب رغماً عن النساء، وحدود المرتد، وتحريمات لا حصر لها بدون أدنى دليل علمي ومنطقي، كل هذا بالإكراه فكيف نوفق بينه وبين (لا إكراه في الدين)؟
وأردف قائلاً: “مرت 3 سنوات على تركي للدين، يمكن القول بأني لاديني ولست ملحد، والإلحاد يحتاج لدليل والإيمان كذلك، وبما أنه لا يوجد دليل علمي للإثنين، فأنا في الوسط ولا انتمي لأي منهما، وأؤمن بأن الأديان وأحكامها مجرد أيديولوجيات سياسية صنعها الإنسان نفسه ليحكم، وأرى بأن الأديان تتشابه في الأحكام وقمع النساء، ومحاربة المختلف وإقصاء الفكر العقلاني الحر”.
وعن العلاقة العامة بالمجتمع قال: “إنني مضطر على لبس القناع، وأمثل للجميع أنني مثلهم وإلا فالنتيجة معروفة، على مستوى العائلة خضت عدة نقاشات فما كان منهم إلا أن كفروني واتهموني بالدياثة بسبب عدم اقتناعي بالعباءة والحجاب، وباتهامي بالإلحاد لأنني لا أؤمن بالأحاديث وبعض التحريمات كتحريم الخمر والوشوم مثلاً.. أبسط ما يمكن قوله عن علاقتي بالمجتمع هو أنني منعزل عن العالم وانتقائي في صداقاتي وحذر دائماً”.
(ي.ن) شاب عماني يبلغ من العمر 21 سنة يحكي لنا قصته مع اللادينية في عُمان وعلاقته بالمجتمع، يقول عن بدايته في اللادينية: “بدايتي مع اللادينية كانت مجرد أسئلة عادية، بعد بحثي المستمر الذي استمر لفترة طويلة، وتناقضاتي ومحاولاتي للتبرير للأديان، استنتجت أن الظلم والجرائم التي تحدث حول العالم يسيرها الإنسان وحده ويوقفها هو وحده عن طريق الثورات، واستنتجت أن الأديان وفكرة الإله هي وهم نفسي وروحي اخترعه الإنسان وصدقه في لحظة ضعف كي يملأ فراغه النفسي،
ويحارب الحياة، وتكون له قوة خفية يلجأ إليها وقت الضعف، وإعطاء تفسيرات للظواهر الكونية والعلمية التي غطاها العلم في الوقت الحالي، وربما بدايتي الحقيقية كانت عندما رأيت بعض الفيديوهات التي تثبت و تنقض قدسية الكتب السماوية بحجج منطقية،
فاستنتجت أن هذه التعاليم الدينية ما هي إلا عادات نشأت عليها الشعوب في زمن معين، وكانت مقدسة ثم ترجمت إلى كتب دينية، اكتسبت قدسيتها من ثقافة القطيع مع بعض العوامل السياسية التي استغلها الحكام، والأهم هي العوامل التاريخية التي استمدت منها الخرافات التي تم تناقلها من جيل إلى أخر، أما الأسباب الأخرى فهي تكمن في القيود التي تفرضها الأديان، والخرافات والأحكام المتخلفة التي تحكم حياتك،
ولا تهتم لفردانيتك واختلافك، و السبب الأخر هو وجود نصوص تبيح الجرائم ضد المرأة، وعدم المساواة والسلطة الذكورية والتبرير للسلطات المستبدة، والأسباب سوف تزيد مع مرور الزمن بسبب جمود الأحكام الدينية ورفضها للإصلاح”.
وأردف يصف علاقته بالمجتمع قائلاً: علاقتي بالمجتمع مليئة بالتناقضات والنفاق، كونك لاديني سوف تضطهد من السلطة والمجتمع، لذلك إخفاء ميولك والاتجاه نحو مواقع التواصل والحسابات الخفية هو أفضل حل لتعبر عن أرائك بخجل أو تعبر عن أرائك بطريقة مغلفة بالخوف، باختصار هي علاقة مبنية على النفاق، أما عن نشاطي الفكري فإنني لست مهتما بنشر أفكاري أو انتقاد الأديان، كل همي هو أن أنشر الوعي في المجتمع حول القضايا الحقوقية التي تمس حقوق وحريات الإنسان،
وتظلم الإنسان أما افكاري الدينية فهي خاصة فيّ، وليست للنشر والمناقشة لأنها بطبيعة الحال سوف تسبب مشاكل انا في غنى عنها، لذلك أركز على الجانب الحقوقي والإنساني والتفاعل مع هذه القضايا”.
النظرة للمستقبل
وعند سؤالهم عن مستقبل الحريات الدينية في عمان قالت (م.ع): “أعتقد أنه لا يوجد هناك مستقبل للادينية في عمان على الأقل حسب المعطيات الحالية، إلا إذا بادرت الحكومة في وضع قانون وبند يكفل الحرية الدينية ويحمي اللادينيين في عُمان من جميع أشكال التمييز كونهم عمانيون لذلك عليهم ما على الجميع ولهم ما للجميع”.
وقال (ع.ف): “النظرة للمستقبل متفائلة، ولكن على المدى البعيد، وبقيادة جيلنا الحالي، أما الآن فوضع عمان مزري في الحريات الدينية وحرية التعبير، والتغيير سيتأخر حتماً لكنه سيأتي”.
بينما قال (ي.ن): الحريات الدينية مرتبطة بالديموقراطية والعلمانية، وجود النظام الملكي الوراثي يعزز للفكر الديني والإسلامي لأن الحاكم يستخدمه كغطاء للسياسة، وتهييج الرأي العام، وهو سلاح ذو حدين للحاكم، ولأن الأغلبية في عمان هم مسلمين بطبيعة الحال، فالحاكم سوف يسعى لإرضاء أغلبية الشعب، ويصدر قوانين تحمي الدين، وتعزز له متجاهلة فئة اللادينيين الذين هم في الخفاء خوفا من السلطة والمجتمع، وأتوقع مستقبلا سوف يزداد القمع والاضطهاد ضد اللادينيين لأنها سياسة دولة ومجتمع، وسوف يزداد اللجوء إلى الخارج من أجل حماية أنفسهم، حتى يأتي نظام ديموقراطي يراعي كل فئات المجتمع، و الأنظمة لا تتغير إلا بالثورات، ومع الديموقراطية يأتي نظام علماني يقضي على العنصرية الدينية، والأحكام الدينية الرجعية.
رسالة إلى اللادينيين في عُمان
بما أن اللادينيون هم فئة من فئات المجتمع وجزء لا يتجزأ منه أبداً ولكنهم فئة صامتة لا تتحدث ولا تستطيع أن تعبّر عن وجودها خوفاً من العواقب التي تأتي من المجتمع ومن القانون، قالت (م.ع) في رسالتها لجميع اللادينيين في عُمان : “لا تمارسوا حريتكم الدينية في العلن لكي لا تتعرضوا للمسائلة والنبذ والضغط من المجتمع، وهذا قد يؤدي لإصابتكم بأمراض نفسية، مارسوا كل شيء في الخفاء ومع دائرة أصدقائكم الضيقة والذين تثقون بهم، وبحسب اعتقادي فإن المجتمع لا توجد لديه مشكلة في ترك الدين، وإنما في التشهير بالترك لأنهم يظنون أنك ستنشر الفساد في المجتمع.. أعتقد أن التغيير قادم ولكنه ليس بقريب، وتأكد يا أخي اللاديني أن التيارات اللادينية موجودة ولست بمفردك”.
وقال (ع.ف): “لا تيأسوا أبداً، سيأتي التغيير وستحصلون على حريتكم، الأمر يحتاج إلى قليل من الصبر والمثابرة، وثورة فكرية حقيقية تحسن من الأوضاع.. أتمنى من كل لاديني أن لا يخاف من التعبير عن رأيه ولكن بحدود المعقول في الوقت الحالي الذي تنعدم فيه الحريات، وأن لا يسكت لأن السكوت لا يغير شيئاً”. أما (ي.ن) فقد أكد على عدة أمور في رسالته إلى اللادينيين في عُمان فقد قال:”كونوا كما أنتم، وحاربوا من أجل أفكاركم ولا تتطرفوا حتى لا تشوهوا معتقداتكم، وكن إنسانا فقط بعيدا عن ميولك ومعتقداتك”.