لقراءة الجزء الأول انقر هنا
يعتمد النظام المعرفي في تشكله في دول الخليج العربي قاطبة، كما أشرت، على دور المجتمع في الإسهام في اللحظة التاريخية التي تتشكل فيها البنية السلطوية، في كل مرحلة من مراحل المجتمع، أو هو المسافة بين المجتمع وبئر النفط المتفجر في أرضه، وهل يقطعها بشكل يحفظ له إرادته، أو يتغلب الوعي الفطري على النظرة المستقبلية التي تضع شروطها في حينه، بما يخدم المجتمع مستقبلا، في ظل تغير الظروف والأحوال. فأكثر نظام معرفي قائم اليوم ومعبر إلى حد ما عن إرادة المجتمع، هو النظام المعرفي في دولة الكويت، نظرا لتواجد المجتمع عند صياغة بنية السلطة في حينه، وبوعي وإدراك من الأمير السابق الشيخ عبد الله السالم رحمه الله. أما الأنظمة المعرفية في دول الخليج الأخرى، فهناك درجة من الاختلاف، نظرا لطبيعة كل مجتمع وتفاعله الإيجابي مع اللحظات المصيرية في تاريخه، واستمرار هذا التفاعل وعدم انقطاعه، ووجود الريع وقدرته على تغطية التباين.
النظم المعرفية في مجتمعات الخليج
– النظام المعرفي في المجتمع القطري: يبدو متماثلا مع طبيعة السلطة أو هو بالأحرى نتيجة لها، حيث لم يكن المجتمع متواجدا أو حاضرا بفاعلية عند بزوغ اللحظة أو اللحظات التاريخية التي أعيد فيها تأسيس العلاقة بين الاقتصاد (الريع) والسلطة، الأمر الذي جعل خطابهما واحدا.
– النظام المعرفي البحريني: يظهر تباينا واضحا وربما نوعا من التصادم مع السلطة، التي تنتج وعيها وخطابها بعيدا عنه، واستنادا على وعي الطائفة التي تختلف عنه طائفيا، فهو وعي تاريخي لا يستند على الريع بقدر ما يستند على التاريخ والطائفة.
– النظام المعرفي السعودي الرسمي: فهو في حالة استنفار دائم، لأسباب كثيرة، منها اتساع رقعة البلاد، واختلافها العرقي والطائفي، وسوء الإدارة ومركزيتها، وكبر حجم وامتيازات العائلة الملكية، وتركز السلطة في الجيل الأول الذي بدأ في الانقراض. فهناك أكثر من بنية معرفية تنتج خطابها داخل المملكة، على الرغم من وقوع الريع داخل خطاب السلطة.
– النظام المعرفي الإماراتي: هو قريب من النظام المعرفي القطري من جهة التماثل، إلا أنه أقل تماثلا من ذلك، نظرا لوجود أكثر من رؤية، لأن الدولة المكونة من عدة إمارات أوجد نوعا من الاختلاف والتباين، يفيض عليها الريع أحيانا وأحيانا أخرى تنفر منه إلى الأيديولوجيا .
منذ منتصف التسعينيات، وقبل ذلك، لا أعتقد أن هناك نظاما معرفيا واضحا ينتجه المجتمع ولا غيره من مجتمعات الخليج، فقد أصبحت التكنولوجيا، أو التقنية بصفة عامة، هي النظام المعرفي السائد في العالم. وحيث إن مجتمعات المنطقة ركزت على الجانب التقني بدلاً أو أكثر من الجانب البشري، فنرى تقدماً في استيراد منتجات التكنولوجيا بأنواعها، وتأخراً في مجال الحريات العامة وتمثيل الشعوب. وتستجيب في المقابل بسهولة لإكراهات الخارج، نتيجة خلو الداخل مما يمثل الإرادة وميكانيزم المقاومة. هناك فقط وعي معرفي للسلطة تدير به المجتمع بشكل مباشر، وعلى الرغم من أن المسافة بين المجتمع وبين الريع سابقا، كانت مقدرة اجتماعيا دون وسيلة ضغط، أيا كانت، وتحمل نوعا من الأبعاد التاريخية.
يعتمد النظام المعرفي في تشكله في دول الخليج العربي قاطبة، كما أشرت، على دور المجتمع في الإسهام في اللحظة التاريخية التي تتشكل فيها البنية السلطوية، في كل مرحلة من مراحل المجتمع، أو هو المسافة بين المجتمع وبئر النفط المتفجر في أرضه، وهل يقطعها بشكل يحفظ له إرادته، أو يتغلب الوعي الفطري على النظرة المستقبلية التي تضع شروطها في حينه، بما يخدم المجتمع مستقبلا، في ظل تغير الظروف والأحوال .
مايمكن ملاحظته هو وجود وعي معرفي للسلطة تدير به المجتمع بشكل مباشر، وعلى الرغم من أن المسافة بين المجتمع وبين الريع سابقا كانت مقدرة اجتماعيا دون وسيلة ضغط أيا كانت، وتحمل نوعا من الأبعاد التاريخية إلا أن ذلك اختفى أو في طريقه إلى الاختفاء. لذلك تبدو العلاقات الإنسانية في المجتمع تتخذ شكلا عموديا مباشرا. ومع زيادة عدد سكان البلاد وانخفاض نسبة القطريين بالمقابل كما تشير بعض الإحصائيات، فإنه حتى العلاقات الأفقية المتبقية بين أفراد المجتمع في طريقها إلى الاندثار والتآكل.
في حين أن عدم مشاركة المجتمع أو عدم اعتباره في إنتاج الخطاب العام جعلت منه مثل اللعبة المضغوطة في صندوق صغير ما أن تفتحه حتى تقفز وتظهر وتثبت وجودها، فهو محصور الظهور في شهرين أو ثلاثة أشهر من السنة يمارس فيها نشاطاته، وبعد ذلك يعود إلى الاختفاء، فليس له خطاب مستمر فهو مجتمع موسمي. وكل ما أخشاه من تقاطع الخطابات داخل المجتمع الواحد، خطاب التراث وخطاب الحداثة، خطاب البداوة، خطاب الحضارة، وخطاب الدين بأشكاله والخطاب المدني بتفرعاته القومية وغيرها كل هذه الخطابات التي تشكل أنظمة معرفية مختلفة موجودة في المجتمع.وتعمل الدولة بين الحين والآخر على تلافي أخطائها بإعادة الاعتبار للغة العربية وللنظام التعليمي بعدما شعرت بخطورة وعدم ملاءمة توجهها السابق، لكنها في حاجة ماسة إلى المشاركة في إنتاج الخطاب المعرفي مع المجتمع وهذا هو الأساس وليس العودة إليه وإصلاحه كمنتج. وبما أن الدولة التزمت بالتزامات دولية مستقبلية أملت عليها شروطها، فإننا حتى المستقبل المنظور أمام نظام معرفي يتشكل بناء على ذلك بين الدولة وبين التزاماتها الخارجية.
يمكن أيضا ملاحظة أن هناك تنوعاً في جميع المجالات إلى درجة الازدواج، وأن هناك تقسيماً ثقافياً لا يقوم على الإثراء بقدر ما يقوم ارتباطه كوسيلة للعيش. فأصبح المواطن يثقف نفسه في المجال الريعي الذي تنتجه السلطة وليس أملاً في الثقافة كقيمة أو زيادة في الإثراء، والشعور بالوجود والتأثير وعلى سبيل المثال فإنه من الصعب عليك اليوم أن تحصر كم منشورة أو مجلة أبحاث تصدر من قطر؛ ولكن المجتمع لا يدرك ذلك، لتوجهها لفئات معينة دون غيرها، وأنا شخصياً، وجدت جهلاً كبيراً وعزوفاً وعدم اهتمام وعدم دراية لدى قطاع كبير من الشباب عن المجلات البحثية المتخصصة والمكلفة التي يصدرها المركز العربي لأبحاث السياسات في الدوحة، وعدد الفضائيات كذلك يتزايد وعدد المؤسسات بالإضافة إلى الوزارات والإدارات الحكومية، لايمكن حصره عند المواطن، كل هذا التنوع جميل لو أن القاعدة السكانية والتطور التاريخي هما اللذان يفرزان ذلك. فإذا كان الريع هو (الابستمي) الشرط (الرئيس) الذي يشكل النظام المعرفي في المجتمع فلا يجب تقسيمه بشكل يشكل للقطريين نظاماً معرفياً تراثياً بدوياً تقليدياً وإعلامياً خاصاً بهم ولباقي السكان نظاماً معرفياً حداثياً ذا خطاب مدني خاص بهم يخاطب به العالم. أعتقد أن الريع نفسه أصبح ثقافة مباشرة في هذه المرحلة دون أن يحتاج للمرور من خلال المواطن بشكل يحفظ نوعاً من المسافة، ولو حتى شكلية، وأصبحنا أمام مرحلة يسيل فيها اللعاب أمام سحر الريع بشكل غير مسبوق بحيث يصبح مفهوم المثقف أشبه بمفهوم الطلل الذي يظهر من بعيد فقط متأملاً ما يحدث دون القدرة على الولوج والتأثير نظراً لكونه كان أحد خيارات الريع وليس من صميم كينونته.
خاتمة
أحاول هنا بإيجاز سريع جداً اختصار الفكرة حتى يتسنى للجميع الفهم واستيعاب الفكرة.
أولاً: في اعتقادي فإن النظام المعرفي في المجتمع القطري بدأ بالتشكل منذ انطلاق لحظتين تاريخيتين مر بهما هذا المجتمع، حيث قبل ذلك لم يكن مجتمعاً بقدر ما كان تجمعاً، لأن المجتمع لابد أن يملك وعيه بذاته كمجتمع، وليس كذوات أصغر من ذلك، سواء أفراد أو قبيلة أو طائفة.
أ- اللحظة الاقتصادية: تفجر النفط
ب- اللحظة السياسية: عند خروج المستعمر وانتزاع مسمى الدولة لدخول العصر.
والجدير بالذكر فإن معظم دول الخليج إن لم يكن جميعها مرت بنفس الظروف مع الاختلاف في الدرجة فقط. هاتان اللحظتان كانتا ولا تزالان سياقات إنتاج المعرفة في هذا المجتمع. وبما أن الدين كان ولا يزال هوية المجتمع، فأصبح الضغط على استثماره كبيراً وعميقاً، كلاصق ولاحم للفجوة بين هاتين اللحظتين أو الصدفتين التاريخيتين.
ثانياً: كان من المفترض أن تنتقل اللحظة الاقتصادية من الريع إلى الإنتاج وهو الأمر الذي لم يتحقق. وأن تنتقل اللحظة السياسية من لحظة الدولة إلى استكمال الدولة مؤسسياً ودستورياً، وهو الذي لم يتحقق كذلك، فظل أو استمر الريع ولحظة الدولة، وليس استكمالها واستثمار الدين كلاصق هما سياقات إنتاج النظام المعرفي حتى اللحظة. وكان من المفترض أن يحل المجتمع المدني محل الدين ليس كهوية، وإنما كلاصق ولاحم اجتماعي بين الطرفين، حتى يمكن زعزعة الريع نحو الإنتاج وتطوير لحظة الدولة إلى بناء الدولة. وهو أمر لم يتحقق بعد، واستمر كل من لحظة الريع الاقتصادية، ولحظة الدولة السياسية والدين، في إنتاج النظام المعرفي .
ثالثا: كل الأمثلة التي ضربتها في تسلسل المقالات، ليست سوى بناء فوقي شكلي مؤقت لهذه السياقات التحتية التي أشرت إليها، فهي تبدو أشكالاً تنموية بارعة لكن لا تلبث حتى تعود إلى سياقاتها الأولية في أول اختبار أو مواجهة مع الذات أو حتى مع الغير.
هذا باختصار واضح ما أردت قوله في سلسلة مقالات “النظام المعرفي في المجتمع القطري” مشيراً إلى أهمية الإسراع في العمل على إيجاد المجتمع المدني الفعال لمساعدة السلطة في الانتقال إلى سياقات معرفية تليق بدولة قطر، بحيث يبدو النظام العلوي متسقاً، وسياقه الذي ينتجه لتجنب الازدواجية والتذبذب وجود ومساعدة نمو مجتمع مدني فاعل ضرورة لثروة قطر، وسياسة قطر، خاصة أن ولاء القطريين لقيادتهم فوق أي شك وأرفع من كل شبهة.