ثمة حقيقة ثابتة في الكون والأفكار والسلوكيات المختلفة للإنسان والحيوان، تلك الحقيقة هي أن لا شيء ثابت، ولا شيء يمكن أن يتكرر إلا في حالات العشوائية والصدف وعجائب الأقدار. وكما لا يمكننا عبور نفس النهر مرتين كما قال هيراقليطيس، كذلك لا يمكننا تطبيق ما جاء في المعتقدات السابقة والفلسفات القديمة على عصرنا هذا، خصوصا إذا تناولت مسائل الأخلاق البشرية الزمكانية والسلوكيات النفسية والعقلية. فالعالم اليوم، هو عالم التغيير أكثر من أي وقت مضى، حيث يستطيع الناس ملامسة التغيير، حرفيا، في أسلوب حياتهم، وما يستجد بها من تقنيات العلوم وأساليب الحياة، ولعل أكثر من أشار، أو أصبحت نظريته عنوانا لبقاء الأفضل، داروين ونظريته في النشوء والارتقاء التي أثبتت أن التغيير صفة متحركة ومقاومته، رغم أن المقاومة أمر متأصل في الكائنات الحية، هي نتاج قلة الوعي أو الخوف مما سيأتي.
مع ذلك، يبقى وجود الثوابت واليقينيات والمسلمات، وخصوصا في الجوانب العقائدية، يبقى أمرا مطمئنا مخدرا في حالات العجز والخوف والاستكانة والجهل والخضوع للسلطة. بينما على عكس ذلك، تختفي تلك الثوابت واليقينيات مع تقدم الإنسان علميا واقتصاديا واكتشافه للطبيعة والعقل والحياة، مما يجعل من سابقات الأفكار مجرد مرحلة تاريخية في بناء الوعي والمعرفة الإنسانية. هنا، من أوصلنا إلى فهم هذه العلاقات والمراحل والتأريخ، ومن أشار وأنار لنا الدرب والفكر والنقد والتحليل والبحث، هم الفلاسفة والمفكرون ومن سار على دربهم يهتدون. هنا، تتقاذفنا تساؤلات مستحقة، وعلامات استفهام جريئة، وواقع يضج بالهزيمة والتخمة والجنون والموت. هنا، نبحث عن الطريق الصحيح، والدرب القويم والعقل المستقيم.
هنا، علينا أن نجد إجابة سؤال المقال: هل نحن فعلا بحاجة إلى فولتير وجون لوك وروسو وهيغل وغيرهم المئات من فلاسفة عصر الأنوار والنهضة والعلمانية؟. هل نحن قادرون على التفكير والتحليل بعيدا عنهم؟.. والسؤال الأهم، هل العقل العربي المسلم بكل إخفاقاته وتراجعه وانحطاطه، يستطيع أن يلد مثل ما استولد فلاسفة الأنوار، كل ما من شأنه أن يخلق المشاريع الحضارية والفلسفية والفكرية والعلمية؟. وهل الشعوب العربية فعلا سوف تضيع أو تتعرج خطاها إذا لم تجد حاكما يرشدها أو رجل دين يفتيها أو فيلسوفا ومفكرا يجعلها تفكر وتشك ثم تخاف وتتراجع وتتعوذ بالله من شيطان السؤال والفلسفة والثقافة والعلم؟.
لا شك أن الإجابة على هذا السؤال تحتمل العديد من التكهنات والتأويلات والفلسفات أيضا. فمن منا لم يبدأ حياته في ريعان الشباب بقراءة فولتير أو روسو أو هيغل أو دريدا أو هايدغر أو حنه آرندنت، أو غيرهم الكثير حتى يستوعب الكون، وحتى يفهم الحياة، وحتى يضع أوزاره في طريق محدد وقيم معينة وسلوكيات تجعله إنسانا قبل كل شيء؟. ومن منا لم يدافع عن أفكار الحداثة والعلمانية والحريات والديمقراطية والنسوية وحقوق الإنسان، باعتبارهم الميثاق الأعلى لما توصل اليه عقل الإنسان من ابداع فكري وعلمي وأخلاقي يحدد مفاهيم الدولة والإنسان والمواطن والتعاقد الاجتماعي؟. ومن منا لم يتعرض للتنمر أو للسجن أو للقتل أو للنفي حين يكتب رأيا يخالف ثقافة القطيع، أو ينتقد العادات والتقاليد والأديان، أو يعارض الحاكم فيما يفعل ويسرق ويقتل ويدمر؟.. ومن منا لم يطالب بتغيير المناهج ونسف طرق التعليم وإدخال مادة الأخلاق بدل الدين وإلغاء خانة الديانة في الهوية الرسمية واستبدالها بالإنسان؟.
حين نفهم أن الغالبية منا قد قدم مثل هذه التضحيات، ومورس عليه الظلم والإضطهاد، واضطر إلى الهرب واللجوء والنفاق والإنزواء، وبكى ليالا طويلة ثم مسح دموعه في الصباح. حينها نقف أمام تاريخ الفلاسفة الكبار، وأمام قيم ومبادئ التنوير والحداثة، وأمام ثورات العلوم والفلسفة والصناعة والأخلاق. نقف حتى نفكر مرة أخرى، وحتى نفهم أين تقف أقدامنا، وحتى ننظر إلى المستقبل بأعيننا نحن وعقولنا نحن وأجسادنا نحن وأحلامنا نحن. نعم بدأ التنوير في القرن الثامن عشر، مع مؤسس تيار التنوير الفيلسوف جون لوك، وانتشر هذا الفكر وصنع وخلق وطور وبنى العديد من الدول والمؤسسات والشعوب والمجتمعات. علمهم الجسارة في استخدام العقل والشجاعة في التفكير والنقد والشك والسؤال، علمهم معنى الإنسان وأهمية العقل وقيمة الحريات وفضل الديمقراطية وضرورة القطيعة مع التراث. علمهم أن الإنسان قيمة عليا، ويحمل كرامة لا يمكن الجدال حولها، وأن الإنسان يولد حرا ويموت حرا ويمارس حياته حرا، علمهم أن المرأة كائن حر يملك الحقوق والواجبات مثل كل إنسان. علمهم ماهي المواطنة والعدالة والأخلاق والقانون والدستور، علمهم أن الأديان رأي حر واعتناق فردي غير قهري، بينما الدولة كيان سياسي وقانون تعاقدي ومؤسسات مجتمعية، علمهم جمالية الاختلاف والسلام والفن والحب والتعايش وقبول الآخر، علمهم أن النظر إلى المستقبل يخدم البشرية، والنظر إلى الماضي يدمر الحاضر والمستقبل والحياة.
فإذا لم تتشرب الشعوب العربية هذه القيم بنفسها، ولم تتعلم الديمقراطية والعلمانية وحقوق الإنسان منذ نعومة أظافرها، ولم تغير ثقافتها البدائية والهوياتية إلى ثقافة السلام والعلوم والفكر والأخلاق بمحض رغبتها. حينها لن يكونوا بحاجة إلى فولتير وروسو ولوك. بل لن يكونوا بحاجة إلى أحد من المفكرين والفلاسفة والمثقفين، لأنهم شعوب نائمة، شعوب لم تعد بحاجة إلى عقل، إلى ثورة، إلى سلام، إلى تقدم ومستقبل وأخلاق. فمثل هذه الشعوب التي لا تتعلم، لا يمكن التعويل عليها في البناء والتقدم والمحافظة على الحياة. مثل هذه الشعوب، لو أنجبت النساء العربيات مئة فولتير لقتلوه أو صلبوه حتى لا يوقظهم من عبوديتهم وجهلهم وتخلفهم. فالشعوب العربية في غالبيتها، هي الشعوب الوحيدة التي تعايشت مع الاستبداد وألفته بل وتماهت مع تعاليمه وثقافته، لأنهم الشعوب الوحيدة التي لم تفارق استبداد تاريخها وثقافتها وهوياتها.
في الحقيقة، نحن لسنا بحاجة إلى فولتير عربي وهيغل حضري وروسو مسلم وهيغل أمازيغي وحنه آرندنت بدوية. لسنا بحاجة أن نجامل الغرب أو نكذب عليهم أو نجمل ثقافتنا وديننا حتى يتم قبولنا لديهم وحتى لا يتهمونا بالإرهاب والعنف. نحن بحاجة إلى مواجهة ثقافتنا وتراثنا وديننا بعقليتنا وخصوصيتنا وهويتنا ولغتنا، نحن بحاجة إلى أن نفهم أسباب التخلف ونتائج التخلف وكيف نتطور ونتقدم من منطلق الواقع والعالم المتغير، نحن بحاجة إلى مشرط التفكيك والنقد للتاريخ العربي الإسلامي واستخلاص العبر منه وترك البقية في متحف البشرية، نحن بحاجة إلى أنفسنا، أن نخطئ ونتعلم من أخطائنا، أن نضحي ونقاوم ونحارب، أن نستكمل مشاريع مثقفينا، أن نواجه أنظمة الاستبداد والقمع بالقلم والدم والثورة والحب والفن. نحن بحاجة إلى أن نفهم، أن عصر الفلاسفة الكبار ومثقفي النهضة والتنوير والحداثة، لم يعيشوا مثلنا في الوقت الحاضر، هذا الوقت الذي سيسمح قريبا باستنساخ الإنسان وغزو الكواكب في الفضاء وصناعة الروبوت الآلي وفهم هندسة الجينات والحمض النووي وتكنولوجيا النانو وقدرة مواقع التواصل الاجتماعي على التغيير واختصار الوقت والزمن. نحن بحاجة إلى أن نفهم، أن أعظم صفحات التاريخ كتبت بيد اللحظة وعلى يد مثقفي اللحظة وبدعم من شعوب اللحظة.
حين نستوعب كل ذلك، ونؤمن بكل ذلك، ونضع ثقتنا بذاتنا وأنفسنا مهما كانت محطمة وسلبية وضائعة، حينها سيخرج من تحت الرماد طائر الفينيق الخاص بنا، ليحلق ونحلق معه إلى الآفاق. حينها لن ننتظر من يعلق على كلامنا بأن ما كتبته أو أشرت إليه أو استنتجت منه، قد قرأنا مثله في سابق الأزمان، ومقارب لكلام فلاسفة الحداثة والنهضة والتنوير. بل حينها سوف نتكلم بفخر، ونشير بعزة، بأن ما خلق تغيير اليوم، وما زاد وعيه اليوم، وما تفكك فكره اليوم، وما تزعزع استبداه اليوم، وما نما مستقبله اليوم، وما تحقق من مساواة وحرية وعدالة وديمقراطية اليوم، كان نتاج فلان الكويتي، وفلان السوداني، وفلان المغربي. حينها لن نكون بحاجة إلى فلسفة أحد، بل سنكون بحاجة إلى الفلسفة التي خلقناها نحن فقط، فقد قيل في الأمثال “ما يحك ظهيرك الا ظفيرك”.