قي تلك الأيام تحل الذكرى العاشرة للثورة اليمنية سنة 2011 وهي كغيرها من الثورات الفاشلة التي حدثت في هذا الوقت لم تؤت ثمارها في تحقيق الديمقراطية بل عادت البلاد لنموذج مستبد أكثر سوءا مما كانت عليه قبل الثورة.
فاليمن ليست استثناء مما حدث في الهبوط لقاع الاستبداد، ولكن خصوصية المجتمع اليمني كانت ولا تزال عائقا كبيرا في تحقق الديمقراطية من بين مشكلات كثيرة أبرزها الطائفية الدينية والولاءات السياسية الخارجية للحد الذي ترفع فيه صور زعماء أجانب في شوارع اليمن، وتلك الظاهرة تستدعي النظر لتعريف المجتمع اليمني الحالي بشكل صحيح بعيدا عن الشعارات والأمنيات، لأن صور الأجانب التي تغزو شوارع صنعاء وعدن وأبين ليست دلالة على مجرد صراع داخلي بل تورط اليمن في مستنقع صراع إقليمي يأخذ بعدا متشابكا وأكثر تعقيدا مما نظن.
ويظهر من الوضع الحالي اليمني أن الشعب هناك لم يكن مستعدا لدفع معاناة أكبر مما تحملها في الثورة، فاضطر رغما عنه للاصطفاف بناء على دعوات الطائفة والعرق والحزب والولاءات الخارجية، مما يعني أن الشعب اليمني حاليا يرفض الديمقراطية بشكل قاطع، وأي محاولات لتطويعه جهة الديمقراطية ستفشل إلا إذا تغير الظرف الإقليمي ورفعت صور الأجانب من الشوارع، وعقدت مفاوضات شاملة بين الأشقاء في اليمن دون استثناء لفصيل واحد، مما يعني أن الحديث عن ديمقراطية اليمن في تلك الظروف وإلقاء اللوم على جهة واحدة دون إدانة الجميع هو تصرف غير مهني وقراءة غير صحيحة للمشهد.
فالمجتمع اليمني بحاجة لانفتاح حقيقي قبل الحديث عن ديمقراطيته.. وظروف الحرب وأجواؤها الساخنة المشتعلة منذ عام 2015 تمنع هذا الانفتاح وتصب أكثر في باب المواجهة والشعارات والمزايدات في الداخل، ثم تصدير هذه المواجهة والأزمة الداخلية للخارج كتنفيس عن غضب اليمنيين مما يحدث.
وهو ما تنبأت بحدوثه عقب اشتعال حرب اليمن قبل 6 سنوات، وقلت إن استقرار وأمن الخليج كله متوقف على استقرار اليمن وحصر مشاكله الداخلية في صورة تنافس حزبي لا صراع عسكري ينتمي رؤساؤه لطائفة الإسلاميين والجنرالات العسكريين الذين لا يهمهم فكرة تكوين الحكومة أكثر من الإبقاء على سلطاتهم في الداخل آمنة.
وبالطبع تتحمل السعودية والإمارات جزءا كبيرا من مشكلة اليمن بوصفهم من أشعلوا الحرب فيها ومنعوا انفتاح شعبها وتوافق قبائلها على خطة سلام لا تستثني أحدا، لكن الوقت في تقديري قد فات على مبدأ إلقاء اللوم؛ فالسنوات الستة للحرب لم يعد حمل مسئوليتها على جهة واحدة أمرا حكيما، بل تعنت الجميع دون استثناء في منع الوصول إلى اتفاق سلام شامل ينهي الحرب التي يتفق العالم كله أنها تحدث بشكل عبثي والغرض من إشعالها وبقائها صار منتفيا ولا مصلحة واحدة منها سوى تنفيس عن غضب كامن وحقد باطني مركب يجمع في أواصره عوامل الدين والطائفة والقومية والهوية والقبيلة، وتلك العوامل مجتمعة تقف حجر عثرة في التوصل لاتفاق سلام دون تدخل القوى الكبرى التي يظهر من سلوكها أنها راضية عما يحدث وليس في جعبتها تصور واضح عن خطة إيقاف الحرب أو النوايا لذلك كأضعف الإيمان.
ولسوء حظ اليمنيين فإن ثورتهم عام 2011 لم تتجدد بحركة تصحيح ناجحة، فالذي حدث في سبتمبر عام 2014 قبيل اندلاع الحرب بعدة أشهر لم ينجح في تكوين دولة ناجحة بل انشق اليمنيون إلى 3 فرق كبرى تحارب بعضها على النفوذ الداخلي كأولوية والدفاع عن مصالح ولاءاتهم الخارجية بشكل ثانوي، وتلك الفرق الثلاثة التي تمخضت عنها الحرب وأحداث سبتمبر هي “الحوثيون والانتقالي والشرعية” والجميع لا يملك المبادرة والقوة لبدء الحوار على الأقل قبل التفكير في بناء دولة ديمقراطية، مما يعني في نظري أن بقاء الوضع على ما هو عليه الآن في انقسام اليمنيين إلى 3 فرق هو تعبير فقط عن حالة صراع طائفي وقومي وقبلي يعاني منه اليمن وسيظل كذلك إلى أن يملك اليمنيون القدرة على الحوار والتنازل بشكل مستقل عن الخارج.
فأول ما تصل إليه الدول في بداية تكوين ديمقراطيتها هو تكوين شعبي واجتماعي يتفهم قبول الآخر والتعددية ضمن منظومة كلية تحفظ مصالح الجميع، وهذا التكوين لا أظن أنه سيحدث في اليمن حاليا ولعدة سنوات قادمة لظروف الحرب، فحتى لو توقفت الحرب اليمنية أو الإقليمية فستظل تبعات ما يحدث كامنا في النفوس مشتعلا في الصدور تعززه جرائم الماضي وخطايا الأسلاف، فإذا ما قرأ اليمنيون هذه الحالة التي عليها دولتهم بشكل صحيح فسينجحون في المستقبل لتجاوز هذا الواقع بالنقد الحاد له والانقلاب على كل مفاهيمه ومسمياته.
فالحرب لا تقضي فقط على الحجر والبشر.. بل أيضا تقضي على الثقافة والضمير والسلام المجتمعي، وتنشأ بناء عنها مفاهيم ومصطلحات صدامية تظل لعقود حتى يأتي جيل يفطن خطورتها فيشرع في نقدها حتى يتجاوزها عقليا ونفسيا، وبنظري أن المجتمع اليمني به الكوادر المناسبة لهذا التجاوز، فالثقافة عند اليمنيين كبيرة لكنها معطلة بأثر الحرب، والانفتاح يحدث لديهم بشكل علمي وديني لكن لا يحدث بشكل سياسي وقبلي واجتماعي، وهذه معضلة تفسر كيف أن دولة كوريا الشمالية مثلا امتلكت النووي والقنبلة الهيدروجينية لكن شعبها ما زال مغلقا لا يعلم شيئًا عن دول الجوار فضلا عن أن يعلم شيئًا عن الخارج البعيد.
ولكي يثبت اليمني قبوله للديمقراطية يجب أولا أن يمر بحركة تصحيح بعيدة عن مفردات الفوضى والطائفية التي حدثت عام 2011، وأقصد بذلك ثورات (السودان والجزائر) تحديدا، فهذه الثورات الناعمة أسهمت في الإصلاح السريع والمؤثر أكثر وأفضل مما حدث في دول الربيع العربي خصوصا (مصر – سوريا- اليمن) باستثناء تونس التي تملك خصوصية ثقافية ولغوية مختلفة عن الطابع العربي الشرق أوسطي مما ساعدها في إيجاد صيغة تفاهم محلية وعقد اجتماعي مناسب لا زال صامدا إلى اليوم، مما يعني أن المجتمع اليمني لكي يقفز خطوات إيجابية للأمام تجاه دولته الديمقراطية المنشودة يجب عليه أن يدرس ما حدث في الجزائر والسودان تحديدا كأقرب نماذج شبيهة له نجحت في تحقيق الحرية بمعدلها الأدنى المفقود يمنيا.
ويوجد نموذج آخر مشابه لليمن وهو النموذجين (العراقي واللبناني) فكلاهما حدثت بهما ثورات تصحيح نجحت فقط في إقالة الحكومة والضغط لتعزيز الحريات، لكنهم فشلوا في إسقاط النظام الطائفي، مما يعني أنه وبدراسة النموذجين يمنيا يصبح لدينا نموذج ناجح في الحريات بشكل جزئي والقدرة على المحاسبة حتى لو لم ينجحوا كليا في إسقاط نظام ما بعد 2014 و2015 الطائفي الذي يحكم اليمن حاليا بشكل كبير، وبالتالي فالكلام حول إلغاء طائفية اليمن أو الحزبية العسكرية لا يمكن قبل الاستفادة من الحريات المهدرة اجتماعيا وتحقيق معدلها الأدنى المفقود، وكلما كثر الكلام على إلغاء تلك الطائفية تعقد الوضع أكثر لدفاع ذوي النفوذ عن مصالحهم الطائفية الضيقة، فالأعيان والنافذون يمكنهم القبول بهامش جزئي من الحريات السلمية لكنهم لن يقبلوا المساس بأمنهم ومكتسباتهم ونفوذهم في الواقع.
أخيرا: سيكون الوضع أفضل لو كان لليمنيين حرية –ولو قليلة– في الكلام والاعتراض، هذا يساعد كثيرا في شيوع التفكير النقدي اللازم للتغيير، أما فكرة الانقلاب والثورة والحرب فهي تُعزز سلطات ونفوذ أمراء الحرب أكثر وتعطي صلاحيات هائلة لملوك الطوائف والقبائل ورجال الدين، وكان هذا ولا يزال مبعث نقدي لحرب اليمن أنه لو توفرت النوايا الصادقة للإصلاح في هذا البلد لما قامت الحرب فيها، ولجهل القائمين على تلك الحروب بطبيعة اليمنيين عبر التاريخ الذي لم يأتِ الحل العسكري لديهم بأي جديد، وأن الحوار فقط والمصالحة الداخلية هي التي تصنع التغيير.