باختلاف المسميات التي وظفتها الجماعات والحركات السياسية المشاركة فيها من زوايا رؤاها الأيديولوجية، كانت حركة الربيع العربي التي عصفت بواقع بلدان العالم العربي خلال عقدٍ من الزمن ابتداءً من تونس منعطفاً تاريخياً على المستويات الوطنية الجمعية والفردية لشباب الحراك الثوري السلمي تجاه الأنظمة السلطوية.
بعد الخامس والعشرين من يناير في مصر، جاء التوصيف الأول للظاهرة الاجتماعية السياسية في العالم العربي من طهران على لسان المرشد الأعلى بتسميتها حركة الصحوة الإسلامية في العالم العربي، الأمر الذي يعتبر استشرافاً إيرانياً لطبيعة الأنظمة المستقبلية في المنطقة كأنظمة تحكمها تيارات الإسلام السياسي، على رأسها جماعة الإخوان المسلمين.
في صنعاء، كانت ساحة التغيير التي يعتصم فيها شبابٌ من مختلف الأطياف والرؤى السياسية بين يمينية ويسارية تحت مطالب الدولة المدنية والديمقراطية بحضورٍ هو الغالب لجماعة الإخوان التي حضر مرشدها السابق ورئيس جامعة الإيمان الدينية ورئيس الهيئة الدينية الأكبر في البلاد التي تجمع رجال الدين تحت مسمى هيئة علماء اليمن، عبدالمجيد الزنداني، مبشراً حشود المتظاهرين في ساحة التغيير بعودة الخلافة الإسلامية من الصين شرقاً إلى المحيط غرباً.
شبه ثورات
في كتابه “نظريات الثورة” يستخلص “أ.س كوهين” أن الثورات يجب أن تتوفر فيها مجموعة من الأبعاد التي يمكن أن تبنى عليها معايير السياسة المقارنة بين نظامي ما قبل الثورة وبعد الثورة لقياس مدى نجاح الثورة واستقرار ارتباطها بأهدافها المعلنة في بدايتها.
طي صفحة الديكتاتوريات والسماح بعهدٍ جديدٍ من الحريات والديمقراطيات في المنطقة كانت الأهداف الأهم التي وقف لأجلها شباب حراك الربيع إلى جانب تغيير الواقع الاقتصادي لهذه البلدان. كانت المشكلات الاقتصادية السبب الأول لاندلاع الاحتجاجات ثم سياسة الرد القمعية للنظام في التعامل مع المتظاهرين، إذ تحولت الاحتجاجات إلى ثورةٍ في تونس مع بدء النظام قمع الاحتجاجات وثم هي في مصر، سوريا واليمن.
البعد الأهم الذي رآه كوهين هو تغيير الخرافة، أي العقيدة التي يحكم بها النظام الذي قامت عليه الثورة والقيمة التي يستمد منها شرعيته. الأمر الذي يظهر جلياً فشل تحقيق الحكام الجدد الذين جاؤوا راكبين موجة الربيع بعد تكرارهم للأنماط ذاتها التي ارتكبتها الأنظمة السابقة في الاستيلاء على ثمار التحولات والانقلاب عليها بتغيير التعاطي مع القضايا العامة من موقع المعارضة على العكس منها مواقفهم في موقع السلطة.
يقول الكاتب حسين الوادعي متحدثاً عن تبدل المواقف لجماعة الإخوان في المواقع المختلفة في السلطة والمعارضة، موضحاً أنها ليست دفاعاً عن الديمقراطية من حيث المبدأ بقدر ما تعني لهم كحركة في المواقع التي يشغلونها في المجتمع السياسي: "دافع الإخوان عن ديكتاتورية مرسي وإجراءاته غير الدستورية بحجة أنه رئيس منتخب، كما يبررون أبشع إجراءات ديكتاتورية يقوم بها أردوغان بنفس الحجة".
صعود الإسلام السياسي
هيأت تحولات الربيع العربي بعد سقوط الأنظمة الحاكمة، التي كانت تتفاوت فيها مساحات الحريات السياسية والواقع الاقتصادي من بلدٍ لآخر، لصعود جماعة الإخوان المسلمين بعد ثمانين عاماً من ولادة الحركة على يد مؤسسها حسن البنا، وبعد أن كانت إما مقصيةً من الحياة السياسية وإما مُبعدةً في الخارج.
استطاعت الجماعة الوصول لسدة الحكم في مصر بعد انتخاباتٍ هي الأولى بعد الربيع، ولتكتمل الصورة كان دعم الحركات الإسلامية في الحرب السورية أول الخطوات التي اتخذها النظام الجديد في مصر وبنكهةٍ جديدة يمكن لها توصيف طبيعة مخرجات الربيع العربي، أنظمةٌ إسلامية. في يونيو 2013 أعلن الرئيس المصري حينها، محمد مرسي، وبلغةٍ إسلامية فتح باب الجهاد في سوريا وقطع علاقات بلاده مع النظام السوري.
أما في اليمن، فقد كانت هيكلة الجيش والسيطرة على الحكومة برئيسٍ توافقيٍ هي أفضل الصفقات التي رأى فيها الإخوان فرصةً لا تعوض لطي صفحة نظام الرئيس صالح والبدء في بناء دولتهم المنشودة بهيكلة الجيش وتفكيكه والبدء في إنشاء وحداتٍ عسكرية تتألف بالكامل من أفراد الجماعة، والسيطرة على أجهزة الدولة المختلفة، ليجروا البلاد لحربٍ وأزمةٍ إنسانية هي الأسوأ في العالم حد وصف الأمم المتحدة.
استطاعت الأنظمة التقليدية إخماد حراك الربيع العربي في بلدان الخليج، عمان والبحرين، باتباعها أساليب قمعية شديدة مع المتظاهرين وبدعمٍ من جوارها الخليجي المتخوف من امتداد الحراك للداخل الخليجي بأكمله. التأثر الثوري والامتداد الإقليمي في حركة الربيع البحرينية كانت دافعاً كافياً لأن تشارك السعودية والإمارات في قمعه عسكرياً بصورة مباشرة.
في مصر، تونس، ليبيا واليمن، كان الربيع فرصةً انتظرتها جماعة الإخوان وامتداداتها الإقليمية أكثر من نصف قرنٍ للوصول للسلطة، لترسم صورةً جديدة من نمط حكم جماعات الإسلام السياسي، ولكن بالطبع كنتيجةٍ لتسويةٍ سياسية مع الأنظمة السابقة كما في اليمن أو كنتيجةٍ طبيعية لانتقالٍ ديمقراطيٍ للسلطة كما في الحالة المصرية والليبية.
سقوط الإخوان
بديمقراطياتٍ حسب الرغبة، الالتفاف على الديمقراطية، الانقلاب على حلفاء الربيع، والانخراط في صراعات إقليمية تربط مصير الجماعة الداخلي بمصير امتداداتها الإقليمية، يُمكن الإشارة على سبيل الحصر لنقاطٍ هامة قد تكون هي العنوان الأبرز لعوامل السقوط السريع للجماعة المتصلبة التي لم تتسم بالمرونة في التعامل مع مؤسسات الدولة القائمة كحاكمٍ جديد.
متحدثاً عن جماعة الإخوان، يقول الكاتب حسين الوادعي: “لا يؤمنون بها إلا كوسيلة للوصول إلى السلطة.. ولا يدافعون عنها إلا لو كان في السلطة رئيس إخواني”. يضيف الوادعي أن الموقف الإخواني من الأحداث السياسية بحقهم ليس لها علاقةٌ برؤيةٍ خاصةٍ للديمقراطية لديهم أو لدفاعهم عنها مستشهداً بالحالة التونسية: “موقف الإخوان الرافض لإجراءات الرئيس التونسي ليس موقفا مبدأياً من الديمقراطية بقدر ما هو موقفٌ مصلحي بحكم تواجدهم في مفاصل الحكم”.
التجربة المصرية
يعزو الكثير من الكتاب والباحثين العرب سقوط جماعة الإخوان من السلطة في التجربة المصرية على وجه الخصوص وتجاربها في السلطة في بقية بلدان الربيع إلى أنها رغم وصولها للسلطة عن طريق العملية الديمقراطية إلا أن انقلابها على الديمقراطية هو ما قضى على فرصها في البقاء في السلطة والحياة السياسية.
الباحث في مركز كير-كارنيجي، عمرو الشوبكي، في مقالٍ له عن السقوط الإخواني في التجربة المصرية بعد الربيع يشير للأسباب ذاتها التي لم تفرق فيها الجماعة بين مواقفها في السلطة والمعارضة حيث يقول: “الواقع أن معضلة حكم الإخوان الرئيسة هي أنهم لم يستوعبوا طبيعة اللحظة التي انتقلوا فيها من المعارضة إلى الحكم، وظلّوا ينظرون إلى أنفسهم على أنهم ضحية مؤامرات الدولة العميقة والإعلام والقوى الخارجية، ولم ينظروا إلى أداء الجماعة في السلطة وصورتها لدى قطاع واسع من المصريين”.
وكجماعةٍ قادمةٍ من خارج المنظومة السياسية، يقول الشوبكي بأنها نسيت ذلك، ويرجع أسباب سقوطها إجمالاً لمحاولتها الانتقام من المنظومة السياسية القائمة في الدولة من جيش وشرطة وإعلام وجهاز قضائي بدلاً من محاولة إصلاحها، الأمر الذي شكّل حافزاً أكبر لدى مؤسسات الدولة في إنهاء الفصل الإخواني من قصة نظام ما بعد الربيع.
الخاتمة التونسية
بعد تحول الوضع السياسي لجماعة الإخوان المسلمين التي كانت أنظمتها أحد أهم مخرجات حركة الربيع العربي وأبرزها، من الانفراد بالسلطة لمشاركتها مع القوى السياسية الأخرى. القصة لم تكتمل بعد، فالجماعة في طريق الإبعاد التام عن المشهد السياسي الداخلي في بلدان الربيع.
كان من المحتم مواجهة الجماعة في تونس للمصير ذاته الذي لاقته امتداداتها في سوريا ومصر واليمن للعوامل المتعلقة بأنماط تعاطي الجماعة مع العملية الديمقراطية والصراعات العابرة للحدود كجماعةٍ عابرة للحدود أيضاً، الأمر الذي لن يجلب سوى مزيدٍ من التدخلات الإقليمية والدولية في شأنها الداخلي.
يقول الكاتب حسين الوادعي تعليقاً على هذه الخاتمة التي اعتبرها النهاية لظاهرة الربيع العربي: "حدث تونس هو النهاية الرسمية للربيع العربي كتجربة وشعارات ووسائل ونتائج. كانت النهاية الفعلية للربيع مبكرة في 2013، لكن الحالة العاطفية واللاعقلانية السياسية منعت الأغلبية من رؤية النهاية الدراماتيكية".
وفي حين ترقب ردود الأفعال من حركة النهضة الإخوانية في تونس، يبدو بأنها ترتسم نهايات قصة التجربة الإخوانية كحكام ما بعد الربيع، يقول الوادعي: “رمزية تونس مهمة.. أحجار الدومينو دارت على دول الربيع وعادت إلى نقطة البداية في تونس لتقتلع التجربة من جذورها”.