في كتابه (الشرق الأوسط الكبير)، الذي أصدره في العام 1994 -أي بعد اتفاقيات أوسلو-، يدعو شمعون بيريز رئيس الكيان الصهيوني سابقًا إلى قيام نظام إقليمي شرق أوسطي يقوم على أربعة عوامل رئيسية؛ هي: الاستقرار السياسي، والاقتصاد، والأمن القومي، والديمقراطية. لكن المتصفح للكتاب يلاحظ بشكل واضح أنه خصص القسم الأكبر منه للحديث عن أهمية قيام تكتل اقتصادي إقليمي على غرار الاتحاد الأوروبي يقوم على ثلاثة أضلاع.
مشروع الشرق الأوسط الكبير الصهيوني
الضلع الأول هو معاهد بحوث أو مشاريع مشتركة في مجال الزراعة والري وتحلية المياه، إذ أشاد بالتعاون القائم مع مصر آنذاك في هذه المجالات وأكد أن هناك برامج اقتصادية مشتركة قائمة بالفعل مع مختلف البلدان التي لم توقع معها اتفاقيات سلام بعد.
والضلع الثاني هو قيام كونسورتيومات دولية تتولى تنفيذ المشاريع التي تتطلب استثمار ورساميل هائلة بإشراف البلدان ذات العلاقة في المنطقة علاوة على أطراف أخرى. ومن الأمثلة التي ضربها بيريز ربط البحرين الأحمر والميت بقناة مائية مقرونة بتطوير التجارة الحرة والسياحة على امتدادها وإنشاء ميناء مشترك إسرائيلي أردني سعودي وتطوير الطاقة الكهرومائية وتحلية المياه وغيره.
أما الضلع الثالث فتشمل سياسة الجماعة الإقليمية مع التطوير التدريجي للمؤسسات الرسمية على غرار الاتحاد الأوروبي مثل البرلمان المشترك والمفوضية المشتركة والهياكل السياسية والاقتصادية وغيرها.
واليوم وبعد مرور 27 عامًا على صدور هذا الكتاب، عندما نجول ببصرنا في ما يدور بشأن الأنظمة المطبعة سرًا أو علانية هل نجد خلاف ما كتبه بيريز قبل ربع قرن؟ فهو لم يكن مجرد كتاب يحمل بين ضفتيه أفكارًا ومقترحات، وإنما خطة عمل يتم تطبيقها على مراحل.
واليوم وخاصة بعد سقوط نظرية الأمن الإستراتيجي الصهيوني التي هشمت قبتها الحديدية صواريخ المقاومة الفلسطينية تبرز بصورة جلية إن نظرية تشبيك المصالح الاقتصادية هي البديل لاستعادة مفعولية هذه النظرية
واليوم وخاصة بعد سقوط نظرية الأمن الإستراتيجي الصهيوني التي هشمت قبتها الحديدية صواريخ المقاومة الفلسطينية تبرز بصورة جلية إن نظرية تشبيك المصالح الاقتصادية هي البديل لاستعادة مفعولية هذه النظرية، وهو ما ينطوي عليه مشروع الشرق الأوسط الكبير الذي جاء إطلاق شقه الاقتصادي في مؤتمر البحرين باسم “ورشة عمل السلام من أجل الازدهار بهدفِ التشجيع على الاستثمار في الأراضي الفلسطينية” في العام 2019.
دور اتفاقيات التطبيع وأهدافها
ونحن نلاحظ أن اتفاقية كامب ديفيد عام 1979 كانت تحت عنوان السلام مع الكيان الصهيوني مقابل عودة سيناء والمساعدات الأمريكية الموعودة، وفي مؤتمر ومعاهدة أوسلو عامي 1991 و1993 السلام مقابل سلطة ذاتية فلسطينية في الضفة الغربية وغزة وكذلك في اتفاقية وادي عربة عام 1994 السلام مقابل التعاون الاقتصادي وترتيبات أمنية ضد اختراق الحدود، والإرهاب، والمياه، وإقامة علاقات طبيعية، واعتراف للأردن بدور رمزي في رعاية الأماكن المقدسة في القدس.
وحتى في حالة المغرب كانت المقايضة مع الإدارة الأمريكية السابقة على الاعتراف بعائدية الصحراء الغربية للمغرب، وفي السودان كانت المقايضة مقابل رفع اسمه من قوائم الإرهاب وتخليصه من الديون المتراكمة. لكنها وحدها اتفاقيات التطبيع الخليجية أبرزت بصورة ناصعة الجوانب الاقتصادية للسلام مع الكيان الصهيوني وهي ما تمثل جوهر مشروع “الشرق الأوسط الكبير”.
ولعل جانبًا آخر يجعل الكيان يعتبر اتفاقيات السلام مع دول الخليجية تشكل جوهر تنفيذ مشروع الشرق الأوسط الكبير هو الفشل الذريع الذي لاقته الاتفاقيات السابقة في تنفيذ هذا المشروع. ونحن هنا لا نتناول نضالات وجهود القوى الوطنية والمجتمع المدني ونضال الجماهير التي أسهمت جميعها في إفشال اتفاقيات التطبيع السابقة لكون حديثنا ينصب على الجانب الاقتصادي. فنلاحظ في حالة مصر وبعد مرور 41 عام على التطبيع (في شقه الاقتصادي) لم يتجاوز التبادل التجاري 149 مليون دولار مع التعاون في مجال الغاز والسياحة. وفي حال الأردن بلغ 335 مليون دولار مع ملاحظة إن جانبًا كبيرًا من السلع الزراعية تعود لمواطنين فلسطينيين ولكن تستورد رسميًا كسلع صهيونية ومع اتفاقية الغاز أيضًا.
وينطوي مشروع “الشرق الأوسط الكبير” الذي يمتد تنفيذه لمدة عشر سنوات عددًا من البنود، أبرزها تنفيذ استثمارات بقيمة 50 مليار دولار في قطاع غزة والضفة الغربية والدول العربية المجاورة للأراضي الفلسطينية، على أن تكون بقيمة 27.5 مليار دولار في الضفة وغزة، إضافة إلى استثمارات بقيمة 9.1 مليار دولار في مصر، و7.4 مليار دولار في الأردن، و6.3 مليار في لبنان.
وغني عن القول إن الغرض من كافة الاستثمارات التي سوف توظف في الضفة وغزة ومصر والأردن ولبنان هو إقامة مشاريع تحقق التشبيك الاقتصادي بين اقتصاديات هذه الدول واقتصاد الكيان الصهيوني. والأكثر من هذه إن هذه الأموال سوف تأتي بالدرجة الأساس من الدول العربية الغنية وخاصة الدول الخليجية وبعض الدول الأوروبية، علاوة على الولايات المتحدة الأمريكية.
استراتيجية الكيان الصهيوني في اختراق المشاريع الاقتصادية
طبعا هنا نحن لا ندعي أن الشق الاقتصادي وحده يكفي لتحقيق أهداف الكيان الصهيوني على المدى البعيد ما لم تكن هناك توجهات رسمية على مستوى الأنظمة لضمان هذا التطبيع. وهذا بالضبط ما يراه المحللون الإستراتيجيون الصهاينة. ووفقًا لتقرير نشره “معهد أبحاث الأمن القومي” في جامعة تل أبيب، تضمنت الاتفاقيات مع مصر والأردن ومنظمة التحرير الفلسطينية الكثير من الملاحق الاقتصادية والمدنية لم تنفذ بغالبيتها. لذلك لا بد من اتفاقيات أمنية وسياسية تدعم الجانب الاقتصادي وتضفي عليه الاستقرار الطويل الأجل.
وعلى مدار العام الماضي شهدنا إيقاعًا متسارعًا للتعاون بإنشاء صندوق للاستثمار في الكيان الصهيوني بقيمة 10 مليار وهو يمكن أن يندرج ضمن ميزانية استثمارات مشاريع “الشرق الأوسط الكبير”، علاوة على التعاون التكنولوجي واقتصاد المعرفة ورواد الأعمال والصناعات الدفاعية والأمنية والأعمال المصرفية والسياحة والخدمات اللوجستية ومنطقة التجارة الحرة، الأمر الذي دفع المملكة العربية السعودية لتغيير قواعد السماح للمنتج الوطني الخليجي دون ضرائب من خلال زيادة نسبة المكون الوطني في هذه المنتجات.
كما يسعى الكيان الصهيوني لتوظيف مشروع نيوم لتحقيق هذا الحلم، حيث إنه يقع في المنطقة الشمالية الغربية للمملكة وهي المنطقة الأولى في العالم التي تمتد عبر ثلاثة بلدان، وتمتد حدودها إلى الأردن ومصر المجاورتين. وبجوار البحر الأحمر وخليج العقبة، وبالقرب من طرق التجارة البحرية التي تستخدم قناة السويس، فإن المنطقة ستعتمد على طاقة الرياح والطاقة الشمسية فقط، وسوف توظف نحو 500 مليار دولار استثمارات في هذه المنطقة.
والتطلعات الصهيونية تذهب إلى أبعد من ذلك إستراتيجيًا، إلى حيث المكانة الخاصة لموقع شبه الجزيرة العربية (المحاطة بالبحر الأحمر وبحر العرب والخليج العربي)، باعتبارها نقاط تقاطع خطوط المواصلات بين قارة آسيا وأفريقيا وأوروبا، وتوافر مخزون ضخم من الثروات الباطنية ومصادر مستمرة لانطلاق عملية التطبيع والاستثمار فيها، وضمان حماية الملاحة في البحر الأحمر، وتوفير فرص تدخل الكيان في الشؤون الخليجية، وإبقاء الخلل القائم في ميزان التسلح لصالحه.
إن أحد أهم الأهداف الإستراتيجية للكيان الصهيوني رقابة مسار النفط والسيطرة عليه في حال نجاحه في توقيع اتفاقيات تطبيع مع الدول الخليجية، فالدول الخليجية تسعى لأن تخرج من منافذ الخليج والبحر الأحمر المسيطر عليها من دول أخرى إلى المصبات والبحار الواسعة؛ كالمحيط الهندي وبحر العرب والبحر المتوسط، ومن هنا فإن السيطرة على مسارات النفط والغاز ستشكل على المستوى البعيد فرصة للكيان الصهيوني للتحكم بنفط وغاز دول الخليج.
إن أحد أهم الأهداف الإستراتيجية للكيان الصهيوني رقابة مسار النفط والسيطرة عليه
كما أن مصادر في الكيان الصهيوني تحدثت عن خطة جاهزة لبناء خط سكك حديدية يمتد من الكيان عبر الأردن وصولًا إلى دول الخليج، في محاولة لاستقطاب النفط الخليجي لنقله عبر ميناء حيفا الواقع شمال فلسطين إلى الأسواق الأوروبية والأمريكية.
ما أهداف الكيان الصهيوني من التطبيع؟
وبالمحصلة النهائية، نحن نرى أن الكيان الصهيوني من خلال اتفاقيات التطبيع يهدف إلى تحقيق الأهداف التالية:
أولًا: اختراق الفضاء الاقتصادي العربي وتقـويض الإمكانات المستقبلية للتكامل الاقتصادي العربي. وهكذا، فـإن المخطط الصهيوني لمرحلة “مـا بعـد السلام” ينهض على أن يصبح الكيان طرفًا أصيلًا وفاعلًا، وجزءًا أساسيًا من النسيج الاقتصادي الجديـد للمنطقة.
ثانيًا: تقسـيم الفضاء الاقتصادي العربي إلى مناطق منعزلة ومفصول بعضها عـن بعـض باختراقـات صهيونية مـن خـلال مجموعـة مـن المشـاريع المشتركة يكون فيها للكيان دور قيــادي وفاعل، وفي مناطق مفصلية: العقبـة، النقــب، الجولان، البحر الميت.
ثالثًا: تكريس بقاء الاقتصـاد الفلسـطيني عمقًا مكمـلًا لاقتصـاد الكيان وفصْـم علاقاته الطبيعيــة بالفضــاء الاقتصــادي العربي من خـلال عمقه الطبيعــي، أي العمق الأردني والمصري بالذات.
رابعًا: وبالمحصلة النهائية تكريس وجود الكيان كواقع سياسي واقتصادي قائم لا يمكن مقاومته أو إزالته بكونه كيانًا ًامغتصب للأرض العربية المحتلة، أي القضاء على قضية العرب الأولى وهي تحرير فلسطين.
وللأسف الشديد، ليس هناك حد أدنى من الاستعداد العربـي على المستوى الرسمي لمواجهة تداعيات هذه المرحلـة الخطيرة، بل الأصح فإن هناك استعدادًا واضحًا للمشاركة فيها ودعمها. ومن هنا يقع على عاتق الجماهير وقواها السياسية والمدنية العبء الأكبر في مواجهتها بكل السبل الممكنة، وفي مقدمتها سلاح المقاطعة وكشف أهداف التطبيع الحقيقية وتعرية المشاركين فيه.
- الآراء الواردة في هذا المقال تُعبّر عن رأي الكاتب ولا تعكس بالضرورة مواقف وآراء “مواطن”.