من المُتعارف عليه أن الثورة التكنولوجية وتطوُر المنصات الناقلة للمعلومات قد أحدثت تغييرا فاعلًا في كافة مناحي الحياة السياسية والثقافية والاجتماعية إلى أن طالت عالم الأدب والثقافة ككل، والتي غيرت المشهد بأكلمه؛ شاملةً طريقة الصنعة والكتابة الأدبية، مرورًا بالأجناس والأنواع الأدبية وانتهاءً بالمنصات الناقلة والوسيطة وأسلوب التناوُل والتقييم والنقد. ومن هُنا كانت المُلاحظة جليّة بالنسبة لعلماء ونُقاد الأدب بالأشكال الكتابية الجديدة، وكذا طريقة التعاطي معها من قِبَل الجمهور، وقد تأثرتا كلاهما -أي عملية الإنتاج والتلّقي/الاستقبال- بما أحدثته الطفرة العالمية في تكنولوجيا المعلومات وتعدد منصات التواصل الاجتماعي.
وظهور أنماط الكتابة المختلفة باندماجها في أشكال وأنواع كتابية جديدة قد سال لها لعاب أصحاب النظريات الأدبية لتظهر على الساحة مصطلحات جديدة مثل “الأدب الرقمي”، “الأدب التفاعلي”، “أدب الرقمنة”، “أدب وسائل التواصل الاجتماعي”، وتختلف المسميات إلا أنها اتفقت جميعها أن الأدب الرقمي أو التفاعلي هو كل ما يُنتج من نصوص فنية في بيئة رقمية عبر الحاسبات الشخصية والهواتف الذكية والإنترنت ولا يمكن تلقيه إلا عبر وسيط إلكتروني، أو كُل ما يُكتب وقد جمع بين الأدبي والإلكتروني. ورغم أنه يبدو أن ثمة اتفاقًا لدى جمهور النُقاد وعُلماء الأدب على ضرورة صياغة نظريات جديدة تستوعب الأدب المُعاصر الذي انسلخ بشكل كبير عن الكتابة التقليدية، وتمرد على الماضوية ليُشكِل خطابًا جديدًا ليس فقط في أفكاره أو مضمونه بل في شكل القالب الذي يكتب به الذي استمد موقعه وإطاراته من الفضاءات الإلكترونية لمنصات التواصل الاجتماعي، إلا أننا نجد اختلافات عديدة وخلافات في الوِجهات والآراء حول العديد من القضايا التي تتعلق بالأدب التفاعلي الرقمي.
وبالتالي تظهر إشكالات عِدة حول الأدب الرقمي وأهمها فيما يتعلق بتجنيس وقولبة ما يُكتب إلكترونيًا المتشبث بصنعة الأدب، وهنا أولى الإشكاليات المتعلقة بالقواعد والمعايير التي يمكن أن تُحوِل النص المكتوب عبر منصات التواصل إلى نص أدبي يخضع لمعايير القراءة والنقد والتأويل والمُقارنة، وتأتي بعد ذلك إشكالات لا تقل أهمية حول وضع كل نص في قالب أدبي معين، ويدور الخلاف الذي يظل حبيس اللحظة الراهنة حول وجهات نظر عِدة ويمكن تلخيصها في الثلاث الآتية: الأولى ترتبط باستثمار الأجناس الأدبية التقليدية (الشعر والقصة والمسرح) مع إدماجها مع الأشكال الكتابية الجديدة، وقد رأينا بالفعل محاولات راهنة لتأسيس وجهة النظر هذه، فنسمع الآن عن القصة التفاعلية والشعر التفاعلي ..إلخ. ووجهة النظر الثانية تقول بحتمية استحداث قوالب أدبية حديثة مُعصرَنة يمكنها أن تستوعب التطور الجذري الحادث في محيط الكتابة الأدبية ويمكنها أن تفي بحاجات الكاتب الجديد في الوقت نفسه الذي بالطبع أصبحت سماته تختلف عن سمات الإبداع لدى المثقف/الكاتب التقليدي وهو موضوع يحتاج بحث برُمته ومن الصعب بمكان أن يُدرج ضمن موضوعنا.
الأدب الرقمي أو التفاعلي هو كل ما يُنتج من نصوص فنية في بيئة رقمية عبر الحاسبات الشخصية والهواتف الذكية والإنترنت ولا يمكن تلقيه إلا عبر وسيط إلكتروني، أو كُل ما يُكتب وقد جمع بين الأدبي والإلكتروني.
أما وجهة النظر الثالثة فترى أن جنوسة الأدب وتصنيف قوالبه أصبح محض “فرضية” تستمد أهميتها من السرديات التقليدية التي اعتاد عليها عالم الأدب في القرون الماضية بتأسيس نظرية الأدب على ضرورة وجود ما يُسمى بـ”النوع/الجنس الأدبي”، في حين أن عالم الرقمنة سيعمل على توحيد الأنواع الأدبية في نوع واحد يمكن نسميه مؤقتا “اللاجنس” أو نوع أكثر شمولًا وعمومية يستطيع قبول كافة أنواع الكتابة الأدبية الإلكترونية دون الاكتراث لتقنيات الأعمال من حيث الشكل أو المضمون وغيرها.
واستمرارًا للحديث عن إشكالات الكتابة الأدبية الحديثة نرى أن الكُتاب والأدباء أيضًا يختلفون في تعاملهم مع منصات التواصل كمَحَلات لنشر إنتاجاتهم الإبداعية، فمنهم من يرى أن هذه المنصات بمثابة أداة تقييم واستطلاع أولى للنص وربما يتلقى العديد من الأفكار التي تضيف للعمل المنشور أو يتلقى ملاحظات وإرشادات وروشتات نقدية تجعله يقوم بتعديل نصه لغويا وأسلوبيا أو على مستوى الأفكار والمضمون أيضًا، وهناك من يرى أن نصه الأدبي كُتِب ليُنشر فقط على منصات التواصل، سواء تم نشره على مرة واحدة أو على مراحل متقطعة، أي أنه لا يرى عمله الأدبي في كتاب مطبوع أو في قيود المُنتج الورقي ذاته والمؤسسات القائمة عليها كدور النشر والرقابة.. إلخ، وبالطبع هناك جمهور من الأُدباء يرى أن منصات التواصل خطوة ضرورية/تالية للنشر الورقي سواء كان الغرض ترويجي وتسويقي للعمل المنشور ورقيًا أو يتعامل مع منصات التواصل على أنها أداة تقييم وفضاءات أخرى موازية تضيف لدائرة النقد الخاصة بالعمل ذاته، حتى لو كان معظمها من غير المتخصصين، ولكنها في نهاية المطاف تضيف إلى العمل وكاتبه.
ونرى أسبابًا عدة لرواج الأدب المُرقمن نسرد بعضًا منها، وأعمها متعلق بناموس الحياة الأدبية أو الفكرية في أي مجتمع في مشارق الأرض ومغاربها وهو لن تتواجد أعداد كافية من مؤسسات ودور النشر التي يمكن أن تنشُر كافة أعمال الموهوبين أو كما يقول أديب بيرو العظيم ماريو يوسا أن شهرة الأديب ضرب من الحظ لا يتعلق بالموهبة بشكلٍ أكبر، وكذلك قلة المراكز الثقافية والإبداعية في كثير من الدول التي تقوض الفرص لإظهار القُدرات والطاقات الأدبية المبدعة، وكذلك ما تتطلبه دور النشر أو مراكز الثقافة من عبء التواصل والتنسيق قد أُعفي عنه كُتاب منصات التواصل، وهناك أسباب أخرى تتعلق بسمة العصر الذي يستهلك المطبوعات الإلكترونية بصورة أكبر من الورقية لأسباب اقتصادية واجتماعية وغيرها، بالإضافة إلى أن نشر العمل ورقيًا يُحجمِه ويبقيه في حيزه المتشدد فقط دون إمكانية الإضافة أو التعديل أو استخدام وجهات نظر القارئ في صياغة العمل الأدبي كما يحدث حاليا في النصوص التفاعلية وهنا نلقي الضوء أيضًا على القاعدة الجماهيرية التي توفرها منصات التواصل على خلاف القاعدة التقليدية السابقة التي يتمتع بها كل كاتب وفق وزن أعماله وموهبته واستقبالها واستراتيجيات التسويق المتعلقة بالطبع بحجم دار النشر في سوق الأدب.
كذلك أصبحت سمة العصر المعتمدة على نشر كل ما يتعلق بالفرد ويومياته وإنجازاته جزء غير هين من محركات الكتابة الأدبية الإلكترونية، والتي تهدف بصورة أو بأخرى إلى استحسان التعليقات وردود أفعال الأصدقاء ومتابعي منصة المُبدِع وكونه في بؤرة الاهتمام بشكل دوري وأسرع وأكثر كثافةً مما كان عليه حضور الكاتب سابقًا فيما يرتبط بموعد نشر إنتاجه وطريقة تسويق ما ينشره عبر منصات الترويج الشائعة حينها كالصحف والمجلات ودوريات النشر والنقد. مهم أيضًا أن نرى قريحة “حرية التعبير والكتابة والتعبير عن الرأي” التي أصبحت سمة ملاصقة لمنصات التواصل والتي أفرزت واقعًا كتابيًا مختلفًا قائمًا على لامحدودية نشر الآراء والأفكار والكتابة بأي طريقة مهما قفزت خارج حدود القالب والمألوف، ومن هُنا نرى أن الأدب أصبح يتنازل تدريجيًا عن نخبويته بعد أن ظل قرينًا لسنين طوال بالإنتلجنتسيا والقوى الناعمة.
شهرة الأديب ضرب من الحظ لا يتعلق بالموهبة
ماريو فارغاس يوسا Tweet
وأبرز النماذج التي تشهدها الساحة العربية حاليًا فيما يتعلق بالنص الأدبي الإلكتروني التفاعلي، هي اليوميات والشذرات التي ينشرها الكاتب والناقد المصري الكبير شعبان يوسف، والتي يسردها في مساحته الخاصة في منصة “فيسبوك”، يسرد فيها حكاوى إحدى الحارات المُتخَيّلة في ذهنه ككاتب أولًا وكمقيم فيها في ذات الوقت.
وحكاية شعبان يوسف لو أمكن قولبتها وتضمينها بمنطلق الاجتهادات التي تؤسس للأدب الرقمي، فيمكن إدراجها في عدة مواضع مؤقتة؛ أهمها القصة القصيرة التفاعلية، القصة القصيرة جدا المُرقمنة، وذلك إن سرنا وراء الاتجاه القائل بضرورة حضور الأنواع التقليدية بما يسمح باندماجها مع طريقة الكتابة الحديثة التي تخلت عن وسيطها التقليدي “الورق والكتاب”، أو يمكن أن ندرجها تحت مفهوم أكثر شمولية وعمومية وهو “اليوميات الأدبية الرقمية” رغم ما يكتنفها من تخييل ذاتي وحضور شخصيات كثيرة من بنات أفكار كاتبها، وربما تكون مُفردة “اليومية” متأصلة بواقعية شخوص ونماذج السطور التي ينشرها شعبان يوسف، وبالمناسبة ترتبط جميعها بالمكان “الحارة” و”بساطة” الشخصيات و”اجتماعية وعادية” الموضوع الذي يحمل موتيفات واقعية ورومانتيكية وسيميائية في نفس الوقت.
ونراها صورا متحركة وحية تستمد واقعيتها في وعي واستقبال قرائها ومتابعيها في افتقادهم لهذا اللون من الكتابة النقدية التي تنقل الواقع رغمًا عنه بعد أن تمرد عليه كُتّاب الصف الأول ومصاف المثقفين والمتثاقفين الباحثين عن كتابة السوق ورغبات دور النشر وجوائز الـbest seller وتقييمات البوكر. شعبان يوسف كما يُقال بالعامية “ابن بلد”، تشعر في كتابته -رغم إلكترونيتها- بخليط إبراهيم أصلان مع مجيد طوبيا وبهاء طاهر ومحمود السعدني ابن القهوة المصرية والحارة الشعبية وقعدات المصطبة وتجمعات الصُحبة التي تستخرج من جلساتها حكاوى مصر وأهل مصر والقصص الممتلئة بتراب وغبار وصوت الشارع والسوق والمقهى ورائحة المعسل القص ومطبخ الست أم وائل. ومن هنا يضيف شعبان يوسف أبعادًا جديدة ومختلفة للنص الإلكتروني في نزوله للواقع وللحارة والشارع على العكس من النماذج الأخرى التي تستدعي أكثر مما تُجسد وشتان بين الاثنين، تلك الأعمال التي تؤسس وتعمل على تأصيل مشاهداتها من عدسات مكبرة تبتعد كثيرا عن جغرافية النص وزمانيته.
ومن أهم ما يجب أن تقف عنده متأملا حين قراءتك للنصوص اليومية التي يقصها الكاتب شعبان يوسف مستوى التعلُق بالنص وفي الحالة الشعورية التي يتأثر بها القارئ التي لن نُبالغ إن قلنا إنها فرط اندماج بين وعي المتلقي حينما يقرأ النص الإلكتروني وكأنه مكتوب ومُضاهٍ لأبرز رواية واقعية قد كتبها أحد مصاف الأدباء.. إذ إن قصاصات شعبان يوسف ما أن تقرأ أول سطورها لأول مرة تراك وقد سقطت في فخٍ قد نصبه الكاتب لك كقارئ؛ إذ لا مفر ولا مهرب من متابعته وأبطال أقصوصاته وقصصه، لا تعلم حينها أن متابعتك هذه من أجل انتظار فك خيوط وتفاصيل العمل، أم مجرد استمتاع بالخيط اليومي الذي ينشره الأستاذ شعبان يوسف؛ تحديثًا لحكايته المروية. وقد تشعر عند مطالعتك لسطور شعبان يوسف، بأول مرة قرأت فيها حارة نجيب محفوظ، وتتذكر شخوص توفيق الحكيم البسطاء المُحمّلين بفلسفة الكاتب غير البسيطة، ولتوصيفات يحيى حقي لأنموذجات نساء المدينة المترفات “من الريف”.
وأظن أن ما يكتبه شعبان يوسف يثقل من مهمة النقاد وعلماء الأدب الذين يسعون حثيثا وفي دأب من أجل تأسيس حدود نظرية الأدب المرقمن، من جهة، في فرط ارتباطه وتأصيله لفن القصة وحضور أعظم تقنياتها في سطوره وهي الحبكة وتطور خيط الشخصيات، ومن جهة أخرى في كسره للقالب الذي يكتب به؛ مكتفيًا بسطور يومية، ووضع التفاصيل الدورية في إطارات والتي تُعد إحدى مزيات تأطير وتزيين الكتابة على الفضاءات الإلكترونية. وهُنا لا حرج إن انسلخنا قليلًا أو حتى تخلينا عن انتماءاتنا للأصول الماضوية للنص الأدبي المكتوب، فيجدر بنا الانتباه في المقام الأول للكتابة المتمردة التي ينحتها شعبان يوسف وقد تمرد على القوالب الأدبية التقليدية، وكذلك نراه يبتدع ويصنع نصًا يعتاش مع إمكانات العصر الحالي بحضور مستوى من الأفكار والشخصيات لا يُقلل من قيمة ما يحدث من كسر لتابوهات الأدب.
نتابع قصص أم وائل ومحمود دُش وأبو أيمن وأم بطة وصبري ومحمود لبة وأم شهد والأسطى صبحي ونحن نعتلي المقاعد والشُرفات المخصصة للقُراء التي وضعنا فيها الأستاذ شعبان عُنوةً لا رغبة مِنا منذ أن قرأنا استهلاله الفيسبوكي منذ شهور عن خيط عبلة الذي تمخضت عنه الكثير من الشخوص والحبكات البسيطة والتي جعلتها بانوراما ننتشي بمشاهدة ومتابعة صورها وزواياها يومًا بعد يوم، مما يجعلنا في كثير من الأحيان نتوحد شعوريًا مع النص؛ ضاربين عرض الحائط بمعارك الأكاديميا وطروحات جمهور النقد التي ما زالت تكد وترقب لوضع حدود وأصول النظرية، في حين أننا نستمتع بالغاية التي من أجلها تطورت فنون الأدب وهي ابنة شرعية للميثولوجيا؛ منتشين بحكاوى عبلة وحارة شعبان يوسف.
وهُنا تجدر الإشارة بما يفعله الأستاذ شعبان يوسف بإحراجه لزمرة الكُتاب والمثقفين من الأسماء اللامعة والتي تعلوه صيتًا -وليس حِنكة وموهبةً ومقامًا-والتي تُزين مانشيتات صحف وصفحات الأدب والثقافة الذين لم يستطيعوا في السنوات العشر الأخيرة أن يبتكروا صورًا كعبلة وأم وائل وأسطورة واقعية تبث يومياتها على جمهورٍ متشبث بخطوط الرواية التي يأمل وألا تنتهي في يومٍ من الأيام. وهي بالطبع ظاهرة تستحق الاهتمام والتأمل والدراسة، وأظن أن عمله القصصي المنشور متقطعًا سيلقى رواجًا وانتشارا في الفترة المقبلة وسيزداد جمهورها -جمهور أم وائل- يومًا بعد يوم، ويبدو أن بعد انتهائها سيثبت شعبان يوسف أقدامه وسيعتلي عرش الكتابة الرقمية في مصر بقدر مساوٍ ورُبما أكبر لما يساويه في عالم النقد الأدبي العربي والمصري، وهو جد كبير. ويبدو أنها تجربة تمخضت في ذهن كاتبها وستنجب الكثير من الأنموذجات الأدبية كأم وائل ومحمود حلاوة وسوكارنو، ستتأسس عليها العديد من التجارب الثرية القادمة التي تُشابه التجربة الحالية الثرية لقصة “عبلة”.
والمثير للجدل في حكاية شعبان يوسف ليس فقط الحكاية ذاتها، ولا القالب الذي تُكتَب فيه ولا الفضاء الإلكتروني الذي يحمل سطور القصة، بل في طبيعة علاقة أم وائل بالبطل “صاحب الحساب” وهو شعبان يوسف، فلا يوجد رابط بينهما يمكن أن تؤسس عليه مفهوم العلاقة.. فهي علاقة مبتسرة لا تعلم أين ومتى بدأت ولا إلى أين انتهاؤها.. ولا يبدو أن الزواج سيكون حليف نهاية القصة.. وهنا نرى أن إحدى مكامن قوة هذا العمل لا في تقنياته الحديثة ولا أسسه الخارجة عن التقليدي والمتعارف عليه بل أن السرد ذاته والمقتطفات اليومية للقصة تحمل تقنياتها الجديدة ذاتها، فتحول السرد من مضمون وشكل إلى تقنية متفردة بذاتها، وفي الوقت نفسه تبدو سطور شعبان يوسف اليومية امتدادا للنظرية النقدية للمفكر الفرنسي رولان بارت التي كان يقول فيها بموت المؤلف على أن لغة النص تصبح هي المؤثر الأول الذي يعلو فوق “المُؤلِّف” وتكون لها سلطة الهيمنة -أي اللغة- على القارئ داخل النص.
فنرى تقنيات الكتابة الجديدة التي يتزعمها شعبان يوسف في عمله المتقطع نشره تقفز فوق سطح حاجز الشكل العام للنص الذي يستدعي بالطبع قولبته داخل Genre كما يتشبث بوجهة النظر هذه العديد من نقاد الأدب المعاصر والأدب الرقمي، أو النوع الفني الذي يُكتب به العمل، وكذا تتجاوز حدود المضمون وطريقة الحوار وموقع السارد، فنرى الأبطال أنفسهم جزءًا من التقنيات ذاتها، دون ارتباط التقنيات بمواقع الشكل والمضمون كما سلف الذكر، والتقنيات هذي تتطور داخل العمل بمجرد ظهور أبطال جديدة على ارتباط وثيق بالبطل الرئيسي أو عبلة في قصة شعبان يوسف، على أننا نلاحظ أن ارتباط الأبطال جميعهم -رغم ظهورهم لأول مرة- مُفردة جمالية جديدة استخدمها الكاتب بذكاء لتعفيه الوقوع في تقليدية السرد عن المكان والزمان وإضافة الحبكات والخيوط؛ متحررًا من القالب القصصي/السردي التقليدي.
ونلاحظ في كثير من الأحيان أن كل لقطة أو مجموعة السطور التي يكتبها شعبان يوسف في المرة الواحدة تضاهي وزن القصة القصيرة جدا، والتي ظهرت ملامحها في ستينيات القرن الماضي بسبب التحولات الاقتصادية الجلية التي أدخلت العالم في عصر جديد من التطور سريع الوتيرة وثورة تكنولوجيا المعلومات، وأنماط الاستهلاك المتسارع، والاقتصاد المُعولم. وفي هذه المرحلة أعلن بعض الباحثين من أمثال: فرنسوا ليوتار وغواتاري عن نهاية السرديّات الكبرى وبداية السرديات الصغرى؛ التي تُعد القصة القصيرة جدا خير تمثيل لها والتي التي تعتمد على أقل عدد من الكلمات للوصول إلى فائض المعنى بإضافة المتعة الفنية واللمسات الجمالية بأسلوب مستعار دون الإعلان الصريح عن الأبطال أو تسميتهم، وبطريقة تقترب من اللهو، والعبث الناقل لواقع العمل والفضاء الذي يمثله مهما قلت عدد الكلمات.
وفي الوقت نفسه تبدو سطور شعبان يوسف اليومية امتدادا للنظرية النقدية للمفكر الفرنسي رولان بارت التي كان يقول فيها بموت المؤلف على أن لغة النص تصبح هي المؤثر الأول الذي يعلو فوق "المُؤلِّف" وتكون لها سلطة الهيمنة -أي اللغة- على القارئ داخل النص.
ميزة شعبان يوسف في عمله عمده إلى تأصيل الحارة المصرية والشارع المصري البسيط حتى نجد أن كومبارس قصته وأبطال العمل الثانويين يعكسون صوت ودخان وغبار الحارة حتى أنك رغم قصر السطور التي تقرأها كل مرة، إلا أنك يمكن أن تستشف ذلك عبر أسمائهم مثل عزيزة نايلو وأم كحلة ومحمود حلاوة ورزقة وتركيه البيضا وبحبح الكهربائي وفتحي الطعمجي، فنجد أن سيميائيات العمل القصير جدًا كما يؤصل له شعبان يوسف يمكن استدلالها عبر الأسماء التي تسهم في نسج خيوط القصة حتى ولو كان ظهورهم لمرة، ويكأن شعبان يوسف يضيف تقنية جديدة وغريبة في الوقت ذاته عبر التحايل على طرح جاك دريدا ونظريته عن الدال والمدلول فأصبح أبطال العمل هم السيموطيقا الرئيسية وغيرهم يلعب دور الثانوي أو الهامشي، ويبدو أن ما يفعله شعبان يوسف في بنائه لعمله أيضًا هو إلغاء الطرح الكلاسيكي/المُقدس للفرنسية الناقدة جوليا كرستيفا عن مفاهيم التناصات؛ إذ إن عمله سيكون هو المصدر الرئيسي والأيقونة لأي إبداعات قصيرة جدا قادمة، في هدم أسطورة البناء والدلالات والجماليات وسيكون كل عمل قصير جدًا لحنًا منفردًا يعزفه كاتبه ومبدعه خارج أطر النظريات وشروحات وطروحات نظريات الأدب.
وهنا الضرب بأصول وقواعد الأدب والنقد فيما ينثره شعبان يوسف لا يعني انسلاخ المكتوب وإقصاءه خارج حدود النص الفني أو الأدب الفني عمومًا، طالما أن الرسالة تصل، وطالما أن القارئ يضطلع بدوره في التلقي والتفسير والتفاعل مع النص إلى الدرجة التي أسلفنا فيها التي يمكن خلالها إلغاء موقع الكاتب/البطل قسرًا عبر لاوعي المتلقي، لا تقليلًا منه أو تورطًا من الكاتب في سرده، وإنما هي في رأيي شهادة نجاح لمؤلف النص الذي جعل القارئ لا فقط يتسامح مع الضرب بأصول البناء الروائي والسردي بل في غفلته وتوحدُه مع روح النص لتصبح الرسالة أو الهدف هي التقنية الرئيسي في القصة الإلكترونية القصيرة التي يؤسس لها شعبان يوسف.
ومن أهم ما نتفق عليه مع منظري الأدب الرقمي هو ضرورة حضور عناصر التشويق والإثارة والمفاجأة داخل النص الرقمي لتكون شاهدة على معايير استمراره، ونجد أن شعبان يوسف قد وعى هذا الدرس بدهاء لا مثيل له، كونه بالطبع ناقدًا وأديبًا وشاهدًا على تجارب أدبية قيّمة ومُعاصرًا لمدارس فكرية لها وزنها، فطبيعي أن يعي الدرس جيدًا في أن التلاعب بالأسلوب ونسيان الحبكة وضرورة تطور الشخصيات سيكون على حساب متابعة النص الذي يكتبه، وهذا الذي يؤيد رأينا فيما سبق بإمكانية تصدره للواء هذا النوع من الكتابة. ولذا نجد الكثير من الوسائل والحيل التشويقية الذي تشهد على ذكاء الكاتب في طريقة سرد كل موقف لطرفَيْ القصة الرئيسيين ونحن نراهم كالمغناطيس ثنائي القطب الذي يحتاج كل منهما الآخر دون الدلالة والإشارة إلى طبيعة علاقتهما، فمثلا في هذه الموقف نجد عبلة تسترد طاقتها في الضحك وشعورها بالاطمئنان لمجرد دردشتها مع البطل: “ولما ضحكنا بعد كلام كتير، قلتلها: أيوة كدة يا شيخة، كفاية الدنيا وعمايلها، قالتلي: ونبي يا أبو يوسف ما ضحكت من ساعة ما غبت عني، والليل يوصل النهار، أول ما شفتك واتكلمت معاك قلبي ضحك واطمن”.
ونبي يا أبو يوسف ما ضحكت من ساعة ما غبت عني، والليل يوصل النهار، أول ما شفتك واتكلمت معاك قلبي ضحك واطمّن
عبلة Tweet
وفي موقع آخر يسرد شعبان يوسف عن علاقة البطلين التي تشهد حيرة القارئ عن طبيعة علاقة عبلة والشاب/الرجل الذي تحاول التقرب منه: “عبلة قابلتني، وقالتلي: نفسيتي تعبانة أوي يا أبو يوسف، واليومين اللي غبتهم، حسسوني بعدم الأمان، يعني فجأة مالاقيش الراجل اللي رميت عليه كل حمولي، ونبي ما تزعل مني أنا بقول اللي في قلبي، والله كنت هاخدها بالحضن”
ويبدو أن القارئ يخاف التورط والسقوط داخل بؤرة تصنيف العلاقة، بالقدر نفسه من الحرص الذي قصده مؤلف العمل، وهُنا نرى ذاك الحرص -من جانب المؤلف- من أكثر من زاوية وهي محض اجتهادات من كاتب السطور وأحد متابعي العمل بشغف، ويمكن أن تكون الزاوية الأولى متعلقة برغبة المؤلف في إعطاء عمر أكبر لبطلَيْ القصة، حيث إن كشف طبيعة العلاقة يعني إظهار لأهم خيوط العمل، وحينها من الممكن أن يكون السرد القادم مفتقدا للإثارة وهي أهم مقومات استمرار متابعة القارئ للقصة، والزاوية الأخرى تتعلق بغلبة عنصر الحوار ولغة العمل العامية المُستقاة من شوارع وأزقة وحواري مصر ومن الممكن أن تكون اللغة ذاتها مكمن اهتمام المؤلف أكثر من مضمون العمل وشكل أبطاله وتعقد مصائرهم داخل القصة ويبدو أن قارئ العمل لديه الاهتمام ذاته.
اقرأ أيضا: طه حسين في مرآة الاستشراق الروسي
ضمن أهم الملاحظات والتي يستوعب بها شعبان اليوسف بدهاء آخر إمكانية وقوع عالم الأدب عموما وتيار الكتابة الورقية بالأخص في الفخ نفسه الذي استمد منه الأدب المرقمن قوته (الملل من أشكال الكتابة الأدبية التقليدية واستنفاذ التقنيات مهما كانت حداثتها) ألا وهي إضفاء أكبر جانب من الواقعية على أبطال العمل لا في التمسك بتقليد انتشالهم من الواقع وإضافة الرموز الواقعية.. إلخ، بل إحياء هذه الشخصيات فمنهم من يقابلهم ويلتقيهم بشكل شخصي، ومنهم من يعتب عليه -أي الكاتب- ومنهم من يشاركه همومه ويستشيره في أموره الخاصة، ونرى أمثلة على ذلك مما كتبه شعبان يوسف، فتجده ينشر إحدى صوره الشخصية، يعلوها تعليق يحمل أحد سطور القصة في تكامل واضح: “يعني انتي يا بلبلة جاية وسط المعازيم والدنيا والدين، وتقوليلي: ربنا يقرب البعيد، وتحرجيني قدام الناس كلهم: عزيزة نايلو ورشيدة أم كحلة وتركية البيضا ورزقة وأم عبد النبي بتاعت الفول، ينفع كدة! وتلقي سيرتنا بقت على كل لسان في الشارع، عموما يا بنت الناس، أنا مش هتخلى عنك، وأنا راجل دوغري، بصتلي، وقالت: طيب، لما نشوف، أنا مستنياك ونبي انت عسل”.
وفي موضع آخر سابق له؛ متهندمًا في بذلة أنيقة تليق على الموقف، يكتب ناشرًا إحدى صوره وكأنه يقرأ الفاتحة: “ولا الضالين آمين، النهاردة قرينا فاتحة أحمد نجل فتحي الطعمجي، على الآنسة رشا بنت بحبح الكهربائي الله يرحمه، وكانت أم وائل موجودة بتبارك لأهل العريس وأهل العروسة، وقالتلي بدلع، عقبال اللي في بالي أما يتلحلح، وخبطتني على كتفي الشمال، وقالت بصوت عالي: قادر يا كريم تقرب البعيد”.
وكثير من الأسلوبيات والجماليات التي يمكن عبر الأيام اكتشافها في النص الإبداعي الرقمي الذي يستمر شعبان يوسف بإمتاعنا به يومًا بعد يوم، والذي أظن أنه شهادة ميلاد وحياة لهذه الظاهرة الأدبية الفنية في وطننا العربي، وبالطبع نعلم أن تجربة شعبان يوسف سبقتها محاولات كثيرة جدا قد بدأت منذ سنين في النشر الأدبي على فضاءات التواصل، سواء كانت النصوص المنشورة تحمل القوالب التقليدية للشعر والقصة والدراما أو تمردت على النوع والجنس الأدبي، إلا أن محاولة الكاتب شعبان يوسف متفردة فيما تضيفه لتقنيات الكتابة الرقمية عموما، وللنص الواقعي الحديث خصوصًا، وأظن بما أنه ثمة نُموًا في الدراسات والأبحاث النقدية التي تتناول النص التفاعلي الرقمي الحالي، فمن المؤكد أن قصة شعبان يوسف الحالية “أو وائل” وما سيتلوها من محاولات وتجارب ستكون عمادا مهما وركيزة رئيسية لهذه الدراسات، كما أعانت وأمتعت في الوقت ذاته كاتب سطور هذه الدراسة وكانت مُلبية بشكل كبير لكثير من النتائج التي كان يرغب في الوصول إليها.