لا يخلو العالم من القضايا العادلة؛ منها قضية المرأة التي لأهميتها لا يكاد يخلو بلد من مجموعة أو تيار أو جمعية مساندة لها، ولا يكاد يخلو خطاب سياسي أو برنامج انتخابي من وعود الانتصار لها. فكيف لا تكون من أمهات القضايا ونحن نعيش في ظل نظام مجتمعي قائم على نموذج ثنائي العناصر (امرأة / رجل)؛ حيث يتواجد الجنسان بنفس الثقل الديمقراطي من مجموع سكان العالم، مما يكسب الموضوع بعدًا عالميًا شاملاً.
يتوافق تاريخ 8 مارس مع اليوم العالمي لحقوق المرأة، ولعل هذه التسمية هي الأقرب لتوصيف موضوعي لقضية النساء؛ فهو ليس عيدًا ولا إقرارًا بنقص في حقوق المرأة في منطقة واحدة دون غيرها من العالم؛ بل في ذلك أيضا إقرار ضمني بأن هذه القضية قديمة متجددة تجعلنا إزاء مفارقة بين وضعية النساء حاليًا، والامتداد التاريخي للقضية. فيما يلي محاولة لتأصيل هشاشة وضعية المرأة تاريخيًا، واستعراض لمعطيات هامة مبررة لتواصل بل لضرورة مواصلة النضال النسوي.
لماذا لا يجب الكف عن إزعاج مناهضي النسوية؟
الأصوات الحانقة والحناجر الصادحة بالشعارات الغاضبة، هو مشهد متكرر في عدة دول في زوايا الكوكب الأربع. قد تتراجع حدة الخطاب وقد تلين شدة الغضب أحيانًا، لكن المطالب ثابتة لا تتزعزع؛ فقضية المرأة أو ما يتعارف على تسميته بالمساواة بين المرأة والرجل هي موضوع جدال وخصومة بين الجنسين تصل إلى حد العداوة؛ فارتفاع منسوب وعي المرأة المعاصرة خاصة تزامنا مع التحولات السياسية العربية وتواصل امتداد الحركات النسوية في بلدان الغرب خلق حالة من الضوضاء والصخب، ووضع الجنسين في قطبين متقابلين، وكأننا إزاء معركة وجودية بالدلالة الحرفية المباشرة للتوصيف.
هذه المطالب تلقى في المقابل رفضًا، -باستثناء بعض العقليات- فإنه يستشف حتمًا من عدد من المعطيات المترابطة عضويًا على اختلاف طبيعتها (اقتصادية واجتماعية وعرفية…..). ورغم أن المجتمعات الرجعية، حيث تسيطر العقيدة أكثر مما يحضر العلم، تمثل المجال الطبيعي الخصب لنمو بذور العداء المتصاعد تجاه النسوية، فإن البلدان المتقدمة في الميدان الحقوقي لا تقل شعوبها ذكورية إلا في الدرجة. لذلك فإن صورة الانزعاج من الخطاب النسوي ذي المطالب المتكررة هي حقيقة واقعية، ولم يكن لهذا الخطاب بأن يكرر نفسه إن هو لقي صدى لمطالبه. إن وضعية المرأة لم تتحسن عما كانت عليه وضعية العبيد في حضارات العصور القديمة، بل لم تتطور سوى القيود والأغلال.
ومن المفارقات أن هذه الوضعية تجد في المقابل ما يشبه اللامبالاة لدى الكثيرين من أصحاب العقليات القروسطية ولدى الجهات الرسمية؛ مما يخلق إحساسًا بالظلم والعدائية لدى معتنقات الفكر النسوي، هنا يصبح من الضروري فهم الأسباب الحقيقية المولدة للذكورية وتحديد الجهة المستفيدة من تواصل سيطرة هذه النزعة عالميًا، رغم ما تم إقراره من قوانين وإجراءات تضمن حقوق المرأة كاتفاقية القضاء على كل أشكال التمييز ضد المرأة واتفاقية الحقوق السياسية للمرأة وإعلان ومنهاج عمل بيجين؛ إذ إنه ليس من المجدي أبدًا لمناصرات ومناصري المرأة أن يدافعوا عن قضيتهم دون فهم الخصم أولا، حتى لا يقعوا في مرتبة أقل من مرتبته فيختفي شرط الندية الذي يمثل للفيلسوف نيتشه أهم شروط الانخراط في مواجهة ما ..
لم تكن مكتسبات الحداثة الشكلية إلا صورة مخادعة مخاتلة للإيهام بتحرير المرأة من أغلال الظلم
إن المستفيد الأول والأخير هو النظام الرأسمالي الذي يشبه الدراجة الهوائية؛ أولى عجلاتها الطبقية وثانيهما الذكورية؛ فمجرد التحام القوى العاملة أو المضطهدة يشكل خطرًا محدقًا على النظام. لذلك؛ طالما اقتنص هذا الأخير كل فرصة لتأجيج التفرقة العرقية والطائفية ولتكريس التفاضلية بصفة عامة مهما كان قوامها؛ قد لا يكون النظام الرأسمالي هو الذي خلق الذكورية؛ بل إن الظاهرتين تطورتا تاريخيًا بشكل متوازٍ رغم اختلاف نقطتي الانطلاق. وقد تكون مجموعة عوامل قد تضافرت، فاصطبغ التاريخ كله بذكورية منحازة. لكن في الأثناء وظف النظام كل ما توفر من مرجعيات وأفكار وعقائد وقوانين باستعمال الدعاية والإعلام وسياسات التوجيه للحطّ بمنزلة المرأة أو بالأحرى ضمان مواصلة تدني وانحطاط درجتها.
ولم تكن مكتسبات الحداثة الشكلية إلا صورة مخادعة مخاتلة للإيهام بتحرير المرأة من أغلال الظلم، نستشف ذلك من طريقة طرح قضية المرأة ومن الحلول المقترحة؛ فمثلا مسألة خروج المرأة للعمل لا تهدف إلى مجرد السماح للمرأة بتجاوز عتبة المنزل والظهور للمجتمع مقتدية برجل في حرية التنقل بقدر ما تهدف إلى التمكين الاقتصادي للمرأة. هذا الطموح يتعارض حد التناقض مع وضعية النسوة حاليًا اللواتي وحسب بيان أونتونيو غوتيريش، الأمين العام للأمم المتحدة، بأن 60 % من اليد العاملة التي تعمل في الاقتصاد الموازي، هي من صنف النساء؛ ذلك أن النسوة يفضلن التخلي عن حقوق التغطية الاجتماعية والامتيازات مقابل أي مدخول قد يحمي عائلتها من الحاجة.
حاليًا؛ أصبحت المرأة في مواجهة جملة من الأعداء؛ كالتحرش في العمل والاستغلال الاقتصادي والعنف بأنواعه، والسلعنة في الإشهارات الاستهلاكية والإرهاق الجسدي والضغوط النفسية، وحتى الإنهاك الذهني بسبب تعدد الواجبات. هذه الوضعية؛ إضافة إلى تعارضها مع ما تفترضه الحداثة المزعومة للإنسان؛ فإن آثارها تنسحب على كل المجتمع، وهذا ما كان يعيه أيضًا أفلاطون منذ أكثر من 23 قرنا.
اعتراف أم العلوم بضرورة تمكين المرأة: أفلاطون مثالاً
ليس أفلاطون مجرد فيلسوف ذي إرث وفير، ولم يكن من أكبر فلاسفة الإغريق ولا حتى من أكبر فلاسفة البشرية فقط، بل هو أيضًا من يمكن وصفه بمرجع جميع الفلاسفة. إن ما وصلت إليه البشرية من تطور وما بلغه الغرب حاليًا من قدرة على قيادة العالم يعود فيه الفضل الكبير إلى أفلاطون وترجمة كتب أفلاطون. يعود ذلك إلى تنوع المسائل أو المباحث الفلسفية في آثاره، حتى شملت كل ما يهم الإنسان، وإلى فرادة أسلوبه. إذًا يمكن التأكيد بكل ثقة بأن الاستئناس برأي شاعر ورياضي وعالم مخضرم ( بحكم سفره الطويل وانتمائه الأرستقراطي ) يكسب قضية المرأة شرعية قادرة على نسف رجعية العقول الظلامية. في كتاب الجمهورية (6) الذي يعتبره الشراح والفلاسفة أهم كتاب له، خص المرأة ومسألة مكانة المرأة في المجتمع بجزء مستقل. وإن دلّ هذا على شيء فهو يدل على الصلة الوثيقة بين وضعية المجتمع ووضعية المرأة.
لم يكن المجتمع اليوناني مختلفًا عن غيره من أغلب المجتمعات التي سبقت ظهور مفهوم الملكية الخاصة والعائلة الأبوية، وكانت المرأة في وضعية حرمان من الحقوق المدنية ومن الحظوة الاجتماعية مقابل سيطرة ذكورية وهيمنة على كل مظاهر الحياة العامة، بخلاف إسبرطة التي يمكن عدها شاذة عن هذهِ القاعدة؛ حيث ساوت المرأة بالرجل إلى حدٍ ما في الأعمال العامة؛ مثل التدريبات العسكرية وبخلاف المجتمعات الأنثوية التي مازالت دلائل حقيقة وجودها في فترة زمنية ما ثابتة إلى الآن.
إن طرح تصور جديد لوضعية المرأة من طرف فيلسوفين من قيمة أفلاطون وديكارت دليل ثابت على شرعية قضية المرأة وإلزامية القطع مع الظلامية الداعية إلى تحقيرها
كان العرف اليوناني يقول بسيادة الرجل واضطلاعه بالمناصب العليا؛ حيث تمارس الأدوار المهمة والمحددة لوضع المجتمع في الداخل والخارج حاضرًا ومستقبلاً. وعلى عكس ما كانت تقره القوانين والأعراف اليونانية، طرح أفلاطون تصورًا مباينًا لما عايشه من مثال مجتمعي ومختلفًا حتى عن آراء سابقيه من الفلاسفة بمن فيهم أستاذه نفسه. كان أفلاطون يتصور مجتمعاً مبنيًا على أساس طبقي فكري ثقافي؛ حيث تسير الدولة وتدير أعمالها وتحافظ على أمنها وحتى استقرارها مجموعة من المثقفين المكونين والمقتدرين ذوي المؤهلات الطبيعية اللازمة. وكما تتوفر في الرجال استعدادات طبيعية، جبلة معينة تجعله يميل إلى نشاط ما ويتقنه كذلك.
والأمر بالنسبة للمرأة؛ يقول إن فيها ما في الرجل من كفاءات لمختلف الأعمال؛ فإذا نجحت مجموعة من الرجال في بلوغ أعلى مراتب التعليم وأصبحت مؤهلة؛ إما لحماية الدولة (الجنود؛ أي القوات المسلحة) أو لإدارتها فلا شيء يمنع المرأة من الحصول على نفس الحق في التعليم للقيام بنفس الواجب. وهنا نقصد بالمرأة مجموعة من النسوة، إذ إن أفلاطون لا يعتقد في وجود مؤهلات طبيعية تخص جنسًا معينًا دون الآخر؛ بل إن الاختلاف موجود بين الرجال أنفسهم وبين النساء أنفسهن. وفي هذا إقرار بوجود مستوى آخر للاختلافات غير المظاهر الفيزيولوجية المرادفة للأعضاء التناسلية.
من الفلاسفة الآخرين الذين انتصروا للمرأة، نجد ديكارت. مثّلت لحظة ديكارت جسرًا نحو التطور، ولازال يعتبر أول من بشر بالحداثة وصاغها فلسفيًا حين قطع مع المدرسانية ومع عصور طويلة من هيمنة فلسفة الخرافات والكنيسة. فصلت نظريته بين العقل والجسد، وهذا ما قطع مع الفكرة الأرسطية عن أن الجسد والروح هما واحد، وبالتالي أصبحنا إزاء تصور يستخدم المرأة، وهو أن العقل لا جنس له. إن دماغ الرجل بالنسبة لهذا الفيلسوف وتلاميذه، مساوٍ لدماغ المرأة، ويعملان بالنجاعة ذاتها. كما كان من الأوائل الذين درسوا النساء الفلسفة.
إن طرح تصور جديد لوضعية المرأة من طرف فيلسوفين من قيمة أفلاطون وديكارت دليل ثابت على شرعية قضية المرأة وإلزامية القطع مع الظلامية الداعية إلى تحقيرها. هذه الظلامية لا تنحصر في انعكاسها على العلاقات الذاتية فقط بل؛ إنه من السذاجة توقع عدم توظيف النظام العالمي لها.
لن تتحرر المرأة إلا بانخراط جميع النسوة في نضال منظم مستقل ملتزم إلى أقصى الحدود. وهنا مفهوم أن التحرر يعني كسر القيود وتحطيم الأغلال الاقتصادية والاجتماعية المبنية على الوصاية الأبوية. لن يكون ذلك إلا بتمكين تعليمي واقتصادي ونقابي وسياسي. أما الحركات المشبوهة الممولة من أطراف معلومة ومجهولة، والتي تدعو إلى تحرير جسد المرأة بما يحط من قيمته، دون التعرض للتهميش الاقتصادي والإقصاء السياسي فهي كما قالت نوال السعداوي، حركات لا تخدم القضية ولا تدفع بها نحو الأمام.