من الهنات التي أخذت على أرسطو وسخر منها مفكر معاصر مثل برتراند راسل افتراض الفيلسوف اليوناني أن عدد أسنان المرأة أقل من عدد أسنان الرجل، فبرغم كونه تزوج مرتين، لكن لم يخطر على باله استدعاء أي من زوجتيه حتى يختبر فرضيته، وفي رأيي أن الأحق بالسخرية بشرية سلمت بمقولة أرسطو قرونا طويلة.
أسنان المرأة أقل من أسنان الرجل، هل أسنان المرأة أقل من أسنان الرجل؟ الفرق بين الجملة الأولى والسؤال قرابة ثمانية عشر قرنا، فأول من وضع فرضية أرسطو موضع تساؤل كان الطبيب وعالم التشريح البلجيكي أندرياس فيزاليوس (1514 ـ 1564)، وهي معلومة تدعو للدهشة أن يستمر هذا الوهم تلك الفترة الزمنية البالغة الطول دون أن يتقدم أحدهم ليختبر مدى صدق المعلومة البسيطة، فما الذي جد خلال القرن السادس عشر؟.
ما جد هو رغبة في الفكر سادت عصر النهضة، والرغبة في الفكر تترجم بطبيعة الحال إلى أسئلة، فالسؤال هو رغبة في الفكر أو “رغبة الفكر” التي يمكن أن نرتحل داخلها، لنتعرف على ما يجري خلال تشكل هذه الرغبة، عبر فرضية أرسطو وسؤال فيزاليوس.
حين حول الطبيب البلجيكي صيغة الإثبات في مقولة الفيلسوف اليوناني “أسنان المرأة أقل من أسنان الرجل” إلى صيغة سؤال “هل أسنان المرأة أقل من أسنان الرجل؟” تراجع اليقين إلى عتبة الشك. لم ينف سؤال فيزالوس فرضية أرسطو بل أثرى ـ عند إضافة الاستفهام ـ ما بالجملة من إمكانيات، فهناك إمكانية أن تكون أسنان المرأة أكثر من أسنان الرجل، وهناك إمكانية أن تكون أسنان الطرفين متساويين، علاوة على فرضية المعلم الأول أن أسنان المرأة أقل من أسنان الرجل.
لم يحذف سؤال فيزاليوس إذن من إجابة أرسطو شيئا، بل أضاف لها رغم كون السؤال تعبير عن النقص، في حين أن الإجابة انعكاس للاكتمال، لتنفي كل فرضية أخرى، أما السؤال فيفسح المجال لكل الفرضيات.
سؤال فيزاليوس أظهر كذلك المسألة للوجود ودفع بها للصدارة بعدما كانت محتجبة ومختفية، لكنه في ذات الوقت تهددها بالاختفاء مرة أخرى عند تقديم الإجابة؛ لتملئ فراغا أفسحه السؤال لها، فراغا أثرى العبارة بإمكانيات أخرى، وبمجرد النطق بالإجابة “أسنان المرأة مساوية لأسنان الرجل” حتى نحرم من ثراء الإمكانية وانفتاحها، حيث تنغلق الإجابة على إقرار أن الطرفين يتساوان في عدد الأسنان، فالسؤال نقص يتطلع إلى الاكتمال، وهو ما وقع عند تقديم فيزاليوس إجابته.
إذن السؤال نقص والإجابة اكتمال، السؤال شك والإجابة يقين، السؤال حركة والإجابة سكون، السؤال انفتاح والإجابة انغلاق، السؤال تعدد والإجابة نفي له، السؤال دعوة للفرقة بينما الإجابة نزوع إلى الوحدة، هذه الطبيعة للسؤال تجعل كل ثقافة تميل إلى اليقين وتنزع إلى الوحدة وتطمئن إلى الانغلاق تعارض دوما السؤال بما هو رغبة في الفكر، وهي صورة لا تخرج ثقافتنا عنها.
أول ما يرد للذهن من صور معاداة ثقافتنا للسؤال ـ في العصر الحديث ـ صورة طه حسين حين طرح سؤاله حول انتحال الشعر الجاهلي، ليواجه اتهامات بالزندقة والكفر ويفصل من الجامعة ثم يقدم للمحاكمة.
هذه المحنة ردعت عميد الأدب العربي، لينحرف عن طريق السؤال، فجاءت أعماله التالية ملتزمة بمسار الإجابة “هامش السيرة” و”الشيخان”…، واستنتج مفكر إسلامي مثل: محمد عمارة من ذلك أن الرجل تاب وندم على آراء سجلها بكتاباته الأولى، في مقدمتها “في الشعر الجاهلي” أي ندم على السؤال، كأنه رجس من عمل الشيطان، وهو في ثقافتنا كذلك بالفعل، رجس اقترفه أيضا علي عبد الرازق حين طرح سؤاله حول الخلافة، فاستُبعد من الأزهر وفُصل من عمله في القضاء الشرعي!.
سؤال آخر فجره نصر حامد أبو زيد حول النص القرآني وتاريخيته، فرُمي الرجل بالكفر وطرد من الجامعة وصدر ضده حكما يقضي بالتفرقة بينه وزوجته!.
تستطيع ضم أيضا اسم مثل فرج فودة لدى طرحه سؤال العلمانية، ليدفع حياته ثمنا لذلك، هذه الحوادث تفضح مدى معاداة ثقافتنا للسؤال بما هو بحث عن الجذور، وهو في النهاية ـ مثلما يذهب موريس بلانشو ـ استئصال لهذه الجذور، والجواب في هذه الحالة “شقاء السؤال”، بمعنى أنه يكشف عن الشقاء الذي يضمه السؤال، فـ”ليس الجواب شقي في ذاته”، فهو يتمتع بشيء من السمو والرفعة، تلمس ذلك ـ في ثقافتنا ـ بثنائية الشيخ والمريد أو المستفتي، فإذا كان السؤال محتفى به في الثقافة الغربية بأن أوقفت مهمة الفلسفة على طرح السؤال دون اعتناء بالحصول على جواب نهائي، فإن ثقافتنا انحازت إلى الإجابة ووقرتها (ربما لأنها تجد فيها نعيما يعفيها من شقاء السؤال).
في ثقافتنا، ثقافة الإجابة، يستفتي المرء الشيخ ليمنحه إجابة "شافية وافية"، "جامعة مانعة"، إجابة نهائية، جاهزة، منصوص عليها، فيمتثل لها السائل، والإجابة هنا لها من السمو والرفعة ما ليس للسؤال، وما السؤال في هذه الحالة بإطاره المحدود ومنطقه البسيط إلا صورة من صور الإجابة.
نحن أصحاب ثقافة الإجابة، بغرض التقليد والاقتداء، في تأكيد على أنه ليس في الإمكان أبدع مما كان، على عكس الثقافة الغربية التي كانت منذ فجرها – مع سقراط – ثقافة سؤال، في تعبير عن الشك والنقص وعدم الاكتمال، وفيما تتطلب الأولى التسليم ثم الاقتداء، لتتعصب إلى اليقين والإيمان تدعو الثانية إلى التأمل والتفكر، في انحياز إلى النقد والنقض، لهذا الأولى ثقافة اطمئنان محرِّض على الركود، والثانية ثقافة قلق باعث على التغيير.
ارتباط ثقافتنا بالإجابة أو اليقين يميل بدفتها نحو الماضي بينما ارتباط الثقافة الغربية، بالسؤال أو بالشك المفتوح على جميع الاحتمالات، يجعل ديدنها التقدم والتطلع إلى المستقبل، وفي حين يدعو السؤال إلى التعدد والانفصال والقطيعة تقف الإجابة عند عتبة الوحدة والاتصال والاستقرار.
لكل هذا فعادة ما يكون مجرد طرح السؤال في ثقافتنا، بما هو دعوة للتحرر وتوليد للشك أمرًا مثيرًا للاستياء والغضب، ليُقبل أصحاب هذه الثقافة دائما على ما لا حاجة لمعرفته أو ما سبق معرفته، فيقرأون المقروء ويحتفون به احتفاء من لا يرغب في مغادرة مساحة درج عليها. كل معرفة خارج دائرة إجابتهم زائدة عن الحاجة، وكل سؤال يؤرق إجابتهم مدان، وكل رغبة في الفكر منبوذة، ليكون الجواب على التعبير الدارج ـ الفطن ـ في عاميتنا، عنوان المقال “هو السؤال حُرُم؟” نعم، في ثقافتنا “حُرُم”.
- الآراء الواردة في هذا المقال تُعبّر عن رأي الكاتب ولا تعكس بالضرورة مواقف وآراء “مواطن”.