“حین كنت في حوالي العاشرة، لم تكن لدي آلة موسیقیة، ولم تكن أسرتي من الثراء بحیث تملك البیانو في البیت، ولم یكن هناك مفر من أن تجد میولي الموسیقیة مخرجا آخر، صنعت آلة بدائیة من صندوق مستطیل من الصفیح، شددت فیه خیوطًا من الجلد أو المطاط الرقیق المستخدم في طرود الأدویة وما شاكلها، وراعیت أن یكون متدرًجا؛ بحیث یكون كل خیط مناظرًا لنغمة في السلم الموسیقى، ولم یكن في هذه الآلة البدائیة أكثر من عشرة أوتار أو اثنى عشر وترًا، لكنها كانت تكفي لكي أعزف علیها ـ أشبه بطریقة عازفي القانون ــ ألحانًا شائعة معروفة للناس”.
تأبد شغف صاحب تلك الكلمات بالموسیقي رغم أن الحیاة اجتهدت في دفعه إلى سبیل مغایر ابتعد به عن غرام طفولته، فدرس الفلسفة وأصبح واحدًا من أبرز الأسماء في عالمها ببلادنا، وكما كان كل همه طفلاً الحصول على آلة موسیقیة یستولد منها النغم، عُني شابًا بجمع معرفة موسیقیة تعوض حرمان طفولته؛ حتى لو على المستوى النظري، واستمر فؤاد زكریا في دراسته للموسیقى بجوار الفلسفة حتى أصبح أستاذًا بجامعة القاهرة یضع المؤلفات ویدبج المقالات والدراسات، من بینها كتابات متخصصة في الفن الموسیقي، بعدما “نمت معرفته به وتطورت على مر السنین حتى بلغت مستوى رفیعًا من النضج والاكتمال”.
تخلى الأستاذ عن معرفة عملیة بالموسیقى عاكسته الظروف في اكتسابها، وتطلع إلى معرفة نظریة داوم على تحصیلها حتى تسنى له وضع أكثر من مؤلف في الفن الموسیقي، حمل أحدها(التعبیر الموسیقي) رؤیة نقدیة غیر تقلیدیة للموسیقى الشرقیة، لیصدر حكمًا قاسیًا على موسیقانا أنها لیست فنًا “بالمعنى الصحیح للفن”، ورغم غرابة الرأي وتطرفه، لكن قیمة صاحبه وما یكشفه الطرح من عمق إلمامه بالموسیقى یغري بالتعرف على مقدمات تلك النتیجة الصادمة، فما “المعنى الصحیح للفن” الذي قصده الدكتور فؤاد زكریا؟. هو الموسیقى الغربیة، حیث اعتمدت أطروحة أستاذ الفلسفة على المقارنة بین ما حققته الموسیقى الغربیة وما توقفت عنده نظیرتها الشرقیة.
انطلق زكریا في رؤیته النقدیة من فرضیة أن الفارق بین موسیقانا والموسیقى الغربیة فارق في الدرجة لا في النوع، من ثم، المقابلة بینهما؛ لیست مقارنة بین نظامین مختلفین لكل منهما طبیعته ومقوماته؛ بل بین نظام قطع شوطًا متقدمًا وآخر مازال أمامه جهود كبیرة كي یلحق بالأول.
في رأي زكریا أن الموسیقى الشرقیة لم تصل بعد إلى حد الاكتفاء الذاتي، فـ”لا زالت فنًا للأغاني”، وهو طور “تجاوزته الموسیقى الغربیة منذ أربعة قرون”، أما الدلالة التي یستخرجها فیلسوفنا؛ فهي أن الموسیقى الشرقیة بذلك لا تستمد المعنى من ذاتها؛ بل من الكلمات، لتخلو الموسیقى نفسها من أي معنى.
هناك أیضا غیاب لوحدة الهدف بین الموسیقى والكلمات، فتلحین أغنیة یصلح لأیة كلمات إذا اتفقت معها في الوزن الشعري، ولن یلحظ المستمع وجود تنافر بین اللحن والكلمات إذا ما حلت أغنیة فرحة محل أغنیة حزینة، في حین أن الموسیقى لدى الأمم المتطورة، وفق رؤیة زكریا، ودعت زمن التألیف بصورة ارتجالیة أو تلقائیة، وأضحت فنًا یستلزم دراسة علمیة جادة وشاقة، وهو ما تفتقده موسیقانا الشرقیة، فمازالت ملتزمة بالارتجال.
ویأبى صاحب “التفكیر العلمي” المغرم بالموسیقى الغربیة أن تتمایز نظیرتها الشرقیة بأي میزة؛ فهو یرفض أن یكون تعدد السلالم في الثانیة موضع تفاخر على الأولى، بما أنها(الغربیة) لا تضم غیر سلمین رئیسیین: الكبیر والصغیر، فالعبرة لدیه بالمقطوعات المؤلفة لا بكثرة السلالم، التي هي برأیه في مقام حروف أي لغة، لا یعني تعددها وكتابتها بخط جمیل تفوق آدابها على آداب اللغات الأخرى.
راصدًا أن تطور الموسیقى الغربیة عبر مدى زمني طویل أدى إلى ضغط السلالم الموسیقیة المتعددة في السلمین الرئیسیین المعروفین، ولم یتعارض هذا الاختزال مع عملیة إبداع روائع الموسیقى الكلاسیكیة؛ بینما تفقد الموسیقى الشرقیة میزة تعدد سلالمها لعاملین، أطلق علیهما فؤاد زكریا عاملي “التلاصق والتماثل”.
والمقصود بعامل التلاصق مثلما یوضح زكریا أن “كل صوت في اللحن هو الصوت التالي ارتفاعًا وانخفاضًا للصوت السابق علیه”، وهذه الصفة انتزعت من اللحن الشرقي أحد العناصر الهامة للغة الموسیقیة، وهو التوافق الصوتي؛ حیث حرمت الأصوات المتلاصقة اللحن من علاقات أساسیة كانت لتوجد بین قرار السلم وأصوات معینة داخله “كالصوت الثالث والخامس مثلا”.
وتدخل الغالبیة العظمى للألحان الشرقیة تحت نطاق تلك القاعدة. تلك البساطة في التركیب یصورها زكریا بأنها تصبغ كل الألحان بصبغة التشابه والتجانس، لینتفي عنصرا الجدة والتنوع، في المقابل تمتاز الموسیقى الغربیة (الكلاسیكیة) بالقفزات الصوتیة الجریئة في ألحانها، فیبدو كل لحن مختلفا عن غیره، جدیدا كل الجدة.
أما عامل التماثل فیظهر من خلال اعتماد الملحن الشرقي في انتقاله من جزء في اللحن لجزء آخر، على النزول درجة بالسلم الموسیقي مثلاً؛ ما یقلل من القیمة الفنیة للمقطوعة، ویبعث”في الأذن الخبیرة قدرا غیر قلیل من الملل”، كذلك یتسبب الإیقاع البطيء في شعور المرء بالخمول؛ حیث تندر الإیقاعات السریعة بالموسیقى الشرقیة، لهذا السبب لا یوجد بین ألحانها لحن یبعث في الجسم الإنساني “حركة نشیطة متصلة”، وهذه القاعدة في رأي زكریا تصدق على معظم الألحان الشرقیة، لكنها لیست عامة.
الإیقاع الشرقي "ظاهر صریح "بینما الغربي "ضمني باطن"، أما لماذا اعتبر فیلسونا صفة البروز بالإیقاع أو بتعبیره "استقلال الإیقاع الشرقي بمعنى ما عن اللحن"، وإن تماهى معه نقصا؟
لأن تطور الموسیقى بصفة عامة انطلق من تسید الإیقاع، كما في الموسیقى الإفریقیة البدائیة، بل كان منها ما هو إیقاع صرف، ثم تطورت الموسیقى نحو مزید من إدماج الإیقاع ضمن بقیة العناصر الموسیقیة؛ مثلما هو علیه الحال في الموسیقى الغربیة، حیث لا یحتاج الموسیقار للتنبیه إلى الإیقاع، ومعظم الضربات الإیقاعیة تكون خافتة، لا تستطیع الأذن تمییزها بسهولة، لـ”تُترك مهمة الكشف عن الوزن الإیقاعي إلى اللحن ذاته في مساراته وانعطافاته”.
أما العنصر الموسیقي الأخیر “القالب” بحث عنه الدكتور فؤاد زكریا في الموسیقى الشرقیة فلم یجده، وما عرف بهذا المسمى في موسیقانا (حیث البدء باللیالي یلیها الموال أو “الدور” تسبقه تقاسیم من الآلات الموسیقیة قبل الغناء) لم یعتبره زكریا قالبًا “بالمعنى الصحیح”؛ بل هو “شكل تقلیدي لا یحتاج إلى تحلیل أو دراسة”.
فالموسیقى الشرقیة التقلیدیة ما كانت بحاجة إلى أكثر من هذا قدیمًا، لكن افتقاد “القالب” أضحى جلیًا في الموسیقى الحدیثة، حیث تجاور اللحن الشرقي بما فیه من “ربع صوت” مع اللحن الغربي داخل المقطوعة الواحدة، دون أن یتكبد الملحن أو الموسیقي أي عناء لتسلیس الانتقال، وربما دون بحث إمكانیة المزج بین اللحنین (الشرقي والغربي) داخل أغنیة واحدة؛ خاصة وأن غالبًا ما كان الملحن الشرقي على غیر درایة بالقالب الموسیقي وما قد ینجم عن مزج نظامین مختلفین من مشكلات.
وللموسیقى الشرقیة صفة ذات أبعاد نفسیة یسمیها زكریا “الرجوع الدائم إلى القرار”، ووظیفتها بعث شعور بالإشباع لدى المستمع حین یقف اللحن عند عتبة القرار، وهذا “الرجوع للقرار” یكون مع كل فقرة قصیرة، خاصة في غناء اللیالي والمواویل التقلیدیة، كذلك في التقاسیم، وتتكرر الدورة طوال اللحن عدة مرات، وهذا یدلل على رغبة في المتعة السهلة، تتماشى مع نفاذ صبر المستمع وعدم قدرته على تتبع اللحن في تطوره وتقلباته الطویلة، بینما”الرجوع إلى القرار” بالموسیقى الغربیة یكون في نهایة اللحن فقط أو في ختام جزء هام منه.
وبهذا لا یستثني زكریا المستمع الشرقي من النقد، فهو “یبحث دائما عن النشوة العاجلة والطرب الرخیص”، وهذا راجع إلى تعود على عدم بذل أي جهد في الفهم والتعمق، وله العذر فما یقدم له من موسیقى “بسیط وسطحي وسهل الهضم”، لهذا فالاستماع لدى الشرقي، كما یصور زكریا، نشاط صاخب یرتبط بالهتاف والصراخ الدائمین، ولمسایرة تلك الحالة یقدم له اللحن مجزأ إلى أجزاء صغیرة.
لم یترك الدكتور فؤاد جانبًا من جوانب الموسیقى الشرقیة (الكلاسیكیة)؛ إلا وهوى فوقها بمطرقته المعرفیة، وامتدت قسوته النقدیة ـ إذا جاز التعبیر ـ إلى تجاهل إیجابیات ألمح لضرورة استحضارها من أجل التطویر والتجدید، وكان لموسیقانا منها نصیب بالفعل؛ من ذلك إدخال آلات الأوركسترا الغربیة إلى التخت الشرقي، واستحداث مسألة المقدمات الموسیقیة الطویلة واللزم والفواصل، فهناك ما قدمه محمد عبد الوهاب -على سبیل المثال-، كذلك ما وضعه المحدثون من قوالب جدیدة أضفت الكثیر من الحیویة، مثل قالب “الطقطوقة”، وقالب “الدویتو” الذي بدأ في المسرح وكان من رواده سید درویش ثم انتقل “الدویتو” إلى السینما لیطوره موسیقار الأجیال، هذا بجانب “المونولوج” الذي أسس له محمد القصبجي.
برغم علمیة الدكتور فؤاد وعمق طرحه وقوة حججه وبراهینه في إثبات وجهة نظر تفرد بها؛ لكن رؤیته بخصوص الموسیقى الشرقیة حملت بعدًا ذاتیًا لا یخدش متانة الطرح بقدر ما یساعد على فهم خلفیته، فكأن فؤاد زكریا أراد تعزیة نفسه عن حیلولة ظروفه الاجتماعیة دون تعلمه آلة موسیقیة وتنمیة موهبته في مجال شغفه منذ الصغر، فأثبت لنفسه ولنا أن موسیقانا حصرم.
- الآراء الواردة في هذا المقال تُعبّر عن رأي الكاتب ولا تعكس بالضرورة مواقف وآراء “مواطن”.