النفط أو الذهب الأسود، المصدر الوحيد للعراقيين في اقتصاد بلدهم، ولكنه يومًا بعد يوم يزهق أرواحهم؛ إذ يعتمد العراق على إيرادات النفط في تمويل ما يصل إلى 95% من نفقات الدولة، ويعتبر الخامس عالميًا باحتياط نفط؛ حيث يبلغ 148 مليارًا و800 ألف برميل، وثاني البلدان الكبرى المنتجة للنفط الخام في منظمة “أوبك” بعد السعودية، بمتوسط إنتاج يبلغ 4.6 مليون برميل يوميًا، ويخطط لبلوغ إنتاج 8 ملايين برميل يوميًا خلال العقدين المقبلين.
تحتضن مدينة البصرة (جنوب العراق)، أكبر وأفضل حقول النفط الخام في البلاد، أبرزها حقول: الرميلة الشمالية والجنوبية، القرنة، مجنون، ونهران عمر. على سبيل المثال؛ يسكن منطقة نهران عمر قرابة 7 آلاف نسمة، يعمل أغلبهم بالزراعة وأعمال حرة، لكن حقول النفط هددت حياتهم وأنهت الزراعة التي كانت مصدر رزقهم الوحيد.
لم يتوقع أبو زينب، 41 عامًا، الذي يسكن في منطقة نهران عمر (بضعة أمتار عن حقل نهران عمر النفطي–شمال محافظة البصرة)، أن يصاب يومًا ما بسرطان القولون، بسبب عيشه قرب ألسنة النار المشتعلة والغازات المنبعثة منها؛ حيث يعيش في منزله منذ طفولته، وحتى قبل أن تنشأ الحكومة العراقية الموقع النفطي، وبدلًا أن تدر شعلات النفط على ساكني الحي الأموال والخيرات، على العكس تمامًا؛ كان نصيب الناس هو الأمراض والتلوث الهوائي، عدا ذلك، يشكو هؤلاء الناس من الإزعاج الناتج من عملية حرق النفط ومركباته الظاهرة على شكل شعلات نارية مكونة سماء سامة فوق منازل الأهالي والمزارع وقطعان الحيوانات.
يعتمد العراق على إيرادات النفط في تمويل ما يصل إلى 95% من نفقات الدولة
معاناة لا تنتهي
تدير شركة نفط البصرة الحكومية حقل نهران عمر، ولا تعترف الجهات الرسمية بأن شعلات النفط لها علاقة بالأمراض المنتشرة في المناطق القريبة من شعلات النفط oil flares، ورغم المناشدات التي أطلقها الناس مطالبين بالتدخل الحكومي لإيجاد حلول لهم، أو تعويضهم عن الضرر الذي لحق بهم، لكن طالبهم لم تجد آذان صاغية.
قبل عام من الآن تقريبًا، شعر أبو زينب بألم شديد في منطقة البطن، زار على أثرها طبيبًا من أجل تشخيص حالته، أخبره الطبيب أن لديه زائدة دودية appendix، زاد الألم أكثر فأجرى زراعة نسيجية لمنطقة القولون، وأظهر الفحص وجود ورم سرطاني في منطقة القولون، بدأت وقتها سلسلة من المعاناة التي لازالت واضحة على جسد ونفسية أبو زينب، كما أثرت على حياته الاجتماعية والاقتصادية.
يتحدث أبو زينب وهو واقف قرب شعلات النفط، التي يقول إنها السبب في حالته المرضية، يقول لـ “مواطن“: “أنا أقف أمام هذه الشعلات، وأشعر بالحزن الشديد لكونها كانت السبب لما أعانيه الآن، هذه الشعلات أيضا تسببت بوفاة أخي بمرض السرطان عام 2007، وبعدها توفي ابن عمي، وآخرون في المنطقة يشكون الأمراض دون أي اهتمام من قبل السلطات الحكومية“.
يضيف أبو زينب: “بدلًا أن يكون نعمة لنا، تحول إلى نقمة، منطقتنا هي واحدة من أكثر مناطق العراق تلوثًا بالمخلفات الهيدروكربونية، طالبنا كافة الجهات الرسمية، لكنها أعطتنا الأذن الطرشة (دون أي جدوى) في إيجاد حل لنا، والأكثر من ذلك؛ ليس هناك أي تعويضات لنا، ولا حتى علاج المصابين بالسرطانات، نحن نذهب خارج العراق للعلاج وعلى نفقتنا الخاصة“.
“تعبت نفسيتنا، المنطقة بأكملها –صغارًا وكبارًا- هنا تعبت نفسيتها بسبب الأمراض، المرض يمشي معك، تنتظر بأي يوم تفحص ويظهر لك المرض نفسه، يعني أصبح الأمر عندنا أشبه بمرض الانفلونزا، انتشرت انتشارًا تامًا لدينا في منطقة نهران عمر”، يضيف أبو زينب.
تعتبر المركبات الكربونية الغازية التي تطلقها شعلات النفط، مواد مسرطنة يمكن امتصاصها عن طريق الرئتين والقناة الهضمية والجلد؛ إذ تقوم الهيدروكربونات النفطية بممارسة نشاطها المسرطن على جسم الإنسان من خلال عملية التحول الحيوي للمركبات النشطة كيميائيًا؛ حيث تتحد مع الجزيئات الخلوية الدقيقة (المسماة بـ DNA) مسببة تشوهًا لها، ومن ثم تحصل عملية الإصابة بالسرطان.
بعد سنوات من الغزو الأمريكي عام 2003، تعاقد العراق مع عدد من الشركات النفطية الكبرى من أجل زيادة إنتاجه النفطي؛ ففي عام 2009 بلغ إنتاج العراق للنفط نحو مليون برميل يوميًا، فيما يبلغ إنتاجه الحالي أكثر من 4 مليون ونصف المليون برميل يوميًا، ومع تزايد هذا الإنتاج، تزداد فيه نسب الإصابة بالأمراض السرطانية وغير السرطانية بسبب إنتاج النفط وما يرافق عملية استخدامه من انبعاث مواد كيميائية سامة.
يقول أبو زينب لـ “مواطن”: “إن الامراض تمشي معنا، كثير من الناس أعرفهم في منطقة نهران عمر، يخشون زيارة الطبيب حتى لا يسمع أنه مصاب بالسرطان”، ويضيف: “على الجهات الحكومية أن تعوضنا على الضرر الذي لحق بها والأمراض التي حصدت أرواح الكثير، طالبنا عدة مرات بالتعويض لكن دون جدوى“.
في عام 2009 بلغ إنتاج العراق للنفط نحو مليون برميل يوميًا، فيما يبلغ إنتاجه الحالي أكثر من 4 مليون ونصف المليون برميل يوميًا، ومع تزايد هذا الإنتاج، تزداد فيه نسب الإصابة بالأمراض السرطانية وغير السرطانية.
الخسارة خسارتين
وخلال المقابلة، ذكر أبو زينب أنه منذ بداية مرضه وتلقيه العلاج في داخل وخارج البلاد، أنفق قرابة 30 مليون دينار عراقي (نحو 20000$ أميركي)، دون أن يستلم أي دعم من جهة رسمية أو غير رسمية؛ ما أضاف عبئًا كبيرًا عليه في تحمل تكاليف لا يستطيع تأمينها بنفسه، لولا مساعدة أقربائه والأصدقاء في إجراء عملياته في لبنان؛ حيث أجرى أربع عمليات ولا يزال يخضع للفحوصات الطبية الدورية.
في دراسة قام بها شكري الحسن، أستاذ التلوث البيئي في جامعة البصرة، أظهرت زيادة مقلقة في تركيز ملوثات الهواء في مناطق مختلفة من محافظة البصرة، وتزداد نسب الملوثات بشكل كبير المناطق الصناعية والنفطية، كما تؤثر هذه الملوثات على المزروعات والحيوانات بالقرب من المنشآت النفطية. وكشفت الدراسة أبرز الغازات التي تطلقها شعلات النفط، منها: غاز أحادي أوكسيد الكاربون CO وغاز ثنائي أوكسيد الكاربون CO2، وغاز الميثان CH3، وغيرها من الغازات التي يستنشقها الإنسان بشكل دائم.
وبحسب دراسة شكري، فإن أغلب نسب الوفيات ناجمة عن تلوث الهواء نتيجة الإصابة بالأمراض السرطانية والصدرية والتنفسية والعصبية.
يعاني السكان المجاورون للآبار النفطية التي تعمل فيها شركات عملاقة؛ مثل إكسون موبيل، بي بي، توتال، شِل، من أمراض سرطانية وغيرها بسبب الانبعاثات الهيدروكربونية، منها مركب البنزين؛ حيث يتسبب البنزين بسرطان اللوكيميا لدى الإنسان، ومعظمها لدى الأطفال.
بين الحقيقة والإهمال
يؤكد مدير عام دائرة البيئة في محافظة البصرة، الدكتور وليد الموسوي، أن هناك علاقة وثيقة بين حالات السرطان وزيادة الاطلاقات الهيدروكربونية التي تصدرها شعلات النفط النارية؛ حيث تأثر السكان الذين يعيشون في المناطق القريبة من حقول النفط، وأضاف الموسوي إلى أن هناك عددًا كبيرًا من المواطنين قد توفوا بسبب الغازات المتصاعدة من شعلات النفط.
في عام 2020، عمدت شركة نفط البصرة (الرسمية) إلى تقليل حجم الإنتاج النفطي من حقل نهران عمر بسبب التلوث والانبعاثات الغازية الناتجة من عمليات استخراج النفط، حسبما أشارت إليه وكالة رويترز. على أي حال، فإن زيادة الإنتاج أو نقصانه لن يغير أي شيء من حال أبو زينب وغيره ممن تدهورت حالتهم الصحية نتيجة إصابتهم بالأمراض السرطانية، أو عودة الحياة لمن فقد حياته بسبب نقمة الذهب الأسود.
وجدت جمعية السرطان الأمريكية أن مركب البنزين يسبب السرطان الدم وسرطانات أخرى في خلايا الدم، كما وجدت الدراسة أن معدلات الإصابة بسرطان الدم، وخاصة سرطان الدم النخاعي الحاد، أعلى في الدراسات التي أجريت على العمال المعرضين لمستويات عالية من البنزين؛ مثل تلك الموجودة في الصناعات الكيميائية وصناعة الأحذية وتكرير النفط.
هناك علاقة وثيقة بين حالات السرطان وزيادة الاطلاقات الهيدروكربونية التي تصدرها شعلات النفط النارية؛ حيث تأثر السكان الذين يعيشون في المناطق القريبة من حقول النفط
السرطان.. كأنه أنفلونزا
سعيد حميد، 33 عامًا، عامل فني في حقل الرميلة النفطي، يقول: “في الـ 10 من فبراير عام 2018، شعرت بضيق تنفس شديد تصاحبه حمى قوية، اعتقدت أنها نزلة برد أو كأنه انفلونزا، استمرت الأعراض لأكثر من شهر حتى بدأ نزيف حاد بالأنف، وعند مراجعتي للطبيب المختص، تبيّن إصابتي بسرطان الدم، كانت صدمة بالنسبة لي.سافرت إلى إيران لكونها أقرب بلد ويتمتع بخدمات صحية أفضل من العراق، كما أني لم أقتنع بالتشخيص الذي أجراه الطبيب في العراق ولما شكلّه لي من صدمة، لكنه للأسف الطبيب الإيراني أكدّ لي إصابتي ذاتها، حملت قناعاتي لوجهتي الاخيرة وهي تركيا، في اسطنبول تم إعادة فحوصاتي حتى يتأكد الطبيب مني وتأكدت الإصابة، هنا قررت أن أبدأ برحلة العلاج”.
ويكمل حميد حديثه لـ “مواطن”: “من خلال سلسلة الزيارات التي قمت بها للأطباء والمستشفيات داخل وخارج العراق، يؤكدون لي شفهيًا أن سبب مرضي هو عملي في الحقول النفطية واستنشاق الغازات والمركبات الهيدروكربونية، لكنهم لا يذكرون هذه الأسباب على الورق. لقد خسرت عملي ومصدر الدخل الوحيد لي ولأسرتي، ولم أتلق أي تعويض من قبل الشركة التي أعمل فيها. ما حصل معي لا أتمناه أن يحصل لغيري“.
رغم المعاناة التي يعيشها العراقيون بسبب النشاطات النفطية في مدنهم الغنية بالنفط، ومع وجود موازنات الدولة الانفجارية، لما تعود به الثروة النفطية من أموال ضخمة، لكنهم مسلوبون من أبسط حقوقهم الدستورية والإنسانية، كما حرموا من الرعاية الصحية أو حتى مساهمة الدولة والشركات النفطية في تحمل تكاليف العلاج داخل وخارج العراق، وتتهرب الشركات الأجنبية من تعويض المتضررين من التلوث النفطي بحجة أن لا علاقة للنفط بالأمراض. وما يزيد الجرح ألمًا؛ هو تجاهل الحكومات المتعاقبة منذ عام 2003، في تحسين الظروف المعيشية وتوفير برامج طبية خاصة لعلاج المرض أو حتى في فرض القانون ومحاسبة الشركات المتسببة بالتلوث الهوائي الذي خنق العراقيين.