لطالما ركزت الأوساط الأكاديمية على مخاطر انعدام الجنسية لدى عائلات اللاجئين السوريين، لكن ماذا عن الأطفال الذين لم يسبق لهم أن عبروا الحدود الدولية إلى بلدٍ آخر قط؟
توسعت الأبحاث التي تربط بين مسألة انعدام الجنسية والنزوح القسري بشكل كبير في السنوات الأخيرة؛ ففي العام 2014، أثبتت دراسة محدودة النطاق أجريت من قبل المجلس النرويجي للاجئين وجامعة “تيلبورغ” أن “المجتمعات عديمة الجنسية غالبًا ما تكون أكثر عرضة للنزوح القسري، الذي بدوره قد يساهم في ازدياد خطر انعدام الجنسية“. بعبارة أخرى؛ يمكن أن يكون انعدام الجنسية سببًا ونتيجة للنزوح في آنٍ واحد، كما يمكن لانعدام الجنسية أن ينتج نقاط ضعفٍ إضافية لدى الأشخاص الذين يتعاملون مع حالات النزوح.
غير أن الأوساط الأكاديمية التي تدرس العلاقة بين النزوح وانعدام الجنسية، قد صبت اهتمامها الكامل على حالة اللاجئين حصرًا حتى الآن؛ فعلى سبيل المثال؛ تقدم “ميشيل فوستر” و”هيلين لامبرت”، في دراسة أجرياها عام 2019، تحليلًا قانونيًا شاملًا حول التداخل بين انعدام الجنسية والقانون الدولي للاجئين، كما عارض بحث “جيسون ناكر” بدوره الاستجابات السياسية للاجئين عديمي الجنسية التي اعتبرت أن لجوئهم يجب أن يتفوق على انعدام جنسيتهم، وفي الوقت نفسه، لا تزال المنشورات التي تركز على انعدام الجنسية داخل بيئات النزوح الداخلي نادرة للغاية.
وبالطبع، ينعكس هذا التركيز على حالات اللاجئين أكثر من حالات النزوح الداخلي في بلدانٍ مثل سوريا، التي تعاني أكبر أزمة نزوح في العالم حتى الآن، وتعمل الجهود الرئيسية المتعلقة بهذه المسألة على تحديد الأشخاص الأكثر عرضة لانعدام الجنسية داخل بيئات اللاجئين السوريين، أما في أماكن أخرى؛ فقد عالجت المنح الدراسية الحالات الجديدة وتحديات الحماية للسوريين عديمي الجنسية أصلًا عند نزوحهم إلى بلدانٍ مجاورة، كما ساهم عملي في إجراء الأبحاث المتعلقة بتجارب السوريين عديمي الجنسية النازحين إلى بلدان أوروبا.
يشير تقرير للأمم المتحدة إلى أنه في حين أن "سوريا لديها ضمانات قائمة لمنع انعدام الجنسية بين الأطفال المولودين في المنطقة، [فليس] من الواضح ما إذا كان يتم تنفيذ ذلك عمليًا
وبالنظر إلى جهل سلطات اللجوء في الكثير من البلدان الإقليمية والأوروبية بمسألة انعدام الجنسية لدى السوريين؛ فمن الواضح أن هذه المواضيع قد طرحت في وقتها المناسب، هذا بالإضافة إلى أهمية التركيز على الديناميكيات داخل سوريا؛ حيث يوجد كم من التغييرات في مشهد انعدام الجنسية.
أما على صعيد الحالات المستجدة ومخاطر انعدام الجنسية، اهتمت الكثير من الدراسات بمسألة الأطفال المولودين لعائلات سورية لاجئة، مركزة بوجه خاص على العلاقة بين قوانين منح الجنسية القائمة على نوع الجنس وحالة اللاجئ التي قد تنتج جيلًا كاملًا من الأطفال عديمي الجنسية. هذا وقد أفادت مفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين أن الأطفال النازحين المعرضين لخطر انعدام الجنسية قد “يُحرمون من الوصول إلى الرعاية الصحية والتعليم، وغالبًا ما يتعرضون لعمليات الاستغلال؛ مثل الاتجار الجنسي والتبني غير القانوني وعمالة الأطفال“. وقد حظي متحدث باسم الوكالة باهتمام إعلامي كبير بشأن هذه القضية عندما وصف احتمال تعرض جيل كامل من الأطفال السوريين النازحين لخطر انعدام الجنسية بأنه “قنبلة موقوتة“.
التمييز بين الجنسين في قوانين الجنسية وانعدام الجنسية
ربما ساهمت القراءات الظاهرية لبعض الأحكام الواردة في القانون السوري في زيادة الوعي على مخاطر انعدام الجنسية لدى الأطفال المولودين خارج البلاد؛ فسواء كان داخل الحدود الوطنية أو خارجها، ثمّة تمييز واضح فيما يتعلق بمكان الولادة ضمن نص القانون السوري الخاص بالجنسية، في حين أنه ينص على أن أي شخص يولد لأب سوري يعتبر مواطنًا سوريًا بغض النظر عن مكان ولادته، تنص الأحكام التمييزية بين الجنسين في المادة 3 من هذا القانون على أنه يمكن للأم السورية نقل جنسيتها إلى طفلها في ظروف محدودة فقط، وبشكل ملحوظ فقط إذا ولد الطفل على الأراضي السورية، ومع ذلك؛ فإن التنفيذ والسياسة في كثير من الأحيان لا يتبعان نصوص القانون.
بعد عجز الأمهات عن منح جنسياتهن لأطفالهن داخل سوريا وخارجها، ما أهمية فهم القانون بشكلٍ عملي؟
في سياق الحكم الاستبدادي؛ حيث تتوارث الأحكام التشريعية الرئيسية على أنها إرثٌ استعماري، كان من الضروري استجواب تنفيذ الدولة لهذه الأحكام، وعدم الاعتماد على النص القانوني باعتبار أنّه يعكس الواقع المعيش. في الواقع، يشير تقرير للأمم المتحدة إلى أنه في حين أن “سوريا لديها ضمانات قائمة لمنع انعدام الجنسية بين الأطفال المولودين في المنطقة، [فليس] من الواضح ما إذا كان يتم تنفيذ ذلك عمليًا”. وتقول المحامية والمستشارة المتخصصة في مسائل انعدام الجنسية “زهرة البرازي”، بأن إمكانية منح الأم الجنسية للطفل في سوريا نادرًا ما يُنفذ، لأنه “غالبًا ما يكون من الصعب اجتماعيًا للعديد من النساء محاولة تسجيل طفل مولود خارج إطار الزواج بسبب الوصم المحلي ضد ذلك، كما أن السلطات غير مستعدة في الغالب لتطبيق هذا البند من القانون، أو غير مدركة لوجوده “.
بالإضافة إلى ذلك، قد يؤدي الانتشار المتزايد للعنف الجنسي والعنف القائم على النوع الاجتماعي في الظروف المعيشية غير المألوفة للنزوح الداخلي إلى حالات انعدام الجنسية للأطفال الذين يولدون نتيجة عمليات الاغتصاب. على هذا النحو، قد يكون التمييز بين الجنسين سببًا محتملًا لانعدام الجنسية للأطفال المولودين داخل البلد (وكذلك في المنفى).
وبالنظر إلى هيمنة النظام الأبوي على كل القوانين والأعراف المحيطة بمسألة نقل الجنسية إلى الأطفال في سوريا؛ فإنّ فصل الآباء عن أسرهم في معظم الأحيان في أماكن التشرد الداخلي يشكل تحديات واسعة أمام منح الجنسية للأطفال. وبالعودة إلى تقرير اللمحة العامة للأمم المتحدة لعام 2022 عن الاحتياجات الإنسانية الخاصة بسوريا، الذي يشير إلى أن ما يقرب من خُمس (18٪) أسر النازحين داخليًا تعولها نساء، ومن المرجح أن يكون حجم هذا التحدي كبيرًا. وعلى سبيل المثال بهذا الشأن، فقد أوضح تقرير مشترك قدمه تحالف المنظمات السورية غير الحكومية إلى مجلس حقوق الإنسان، أن “النساء النازحات في كثير من الأحيان لا يمكنهن ممارسة حقهن في نقل جنسيتهن إلى أطفالهن بسبب الصعوبات في الحصول على الوثائق المدنية اللازمة من الهيئات القضائية المختلفة، لا سيما في المناطق غير الخاضعة لسيطرة الدولة”، فإذا تعذر في نهاية المطاف توثيق هويتهم القانونية، سيصبح أولئك الأطفال عديمي الجنسية. وبالإضافة إلى التمييز بين الجنسين؛ فإن زيادة مخاطر انعدام الجنسية خصوصًا لدى الأطفال المولودين في بيئات النزوح الداخلية يعود لعدة عوامل أخرى، التي من المحتمل أن تتفاقم بعضها بسبب ديناميات الصراع الواسعة.
تقاطع النزوح الداخلي ومخاطر الصراع الأوسع لانعدام الجنسية
قد تشمل عوامل الخطر المرتبطة بالنزوح الداخلي التي تجعل الأطفال عرضة بشكل خاص لانعدام الجنسية فقدان وثائق الهوية أثناء الهروب، أو عدم القدرة على الحصول على وثائق جديدة في موقع النزوح، وبالنسبة لهذا الأخير، تعتبر العقبات التي تحول دون استكمال إجراءات تسجيل المواليد حرجة بشكل خاص.
بينما قد يكافح الآباء اللاجئون للتنقل في إجراءات التسجيل المدني غير المألوفة في البلد الأجنبي، يمكن أن يواجه أولئك الذين يعيشون في أماكن النزوح الداخلي حواجز متساوية. قد تكون هذه في بعض الحالات أكبر من ذلك، على سبيل المثال؛ قد يكون من الخطير أو المستحيل عمليًا على النازحين الوصول إلى المكاتب الحكومية، لا سيما إذا تطلب ذلك عبور خطوط النزاع.
تم توثيق تحديات مماثلة في السياق العراقي في فترة ما بعد الصراع؛ حيث “تفرض مخاوف الأمن ونقاط التفتيش والقيود العملية الأخرى قيودًا شبه مستحيلة على قدرة النازحين داخليًا على الوصول إلى الوثائق التي يحتاجونها لتلبية احتياجاتهم الأساسية والبقاء آمنين.. “. وقد تلجأ بعض العائلات إلى استخدام السماسرة للحصول على مثل هذه المستندات، بينما لا يستطيع البعض الآخر تحمل التكاليف.
لذلك، من نواحٍ معينة، من الصعب تحديد المخاطر الخاصة بالعائلات النازحة داخليًا في مثل هذه السياقات بما يتجاوز مخاطر أي عائلة تعيش خارج سيطرة الحكومة السورية. ومع ذلك، تشير الإحصائيات المتاحة إلى أن الأطفال المولودين لأبوين نازحين سيكونون أكثر عرضة لخطر انعدام الجنسية. في الواقع، وجد تقييم للأمم المتحدة اعتبارًا من عام 2021 أن السكان المشردين داخليًا المقيمين خارج المواقع / المخيمات (ما يقدر بنحو 3.3 مليون شخص) “لديهم أدنى مستوى من الوثائق المدنية الصادرة عن الحكومة (44 في المائة)”. على هذا النحو، هناك حاجة ملحة لمزيد من الدراسة لمخاطر انعدام الجنسية في مشهد النزوح الداخلي في سوريا، ويجب استجواب الأطر القانونية، وفهم الحقائق المعيشية بشكل أفضل. ما هو واضح هو أن انعدام الجنسية لا يمثل خطرًا على عائلات اللاجئين وحدها، ويجب إيلاء اهتمام أكبر للأطفال النازحين داخليًا.