التبرع بالأعضاء امتداد لوجود الجسد بعد وفاة صاحبه، كانت هذه الفكرة التي دفعت صالح سالم، مواطن سعودي وباحث في الفلسفة، راغب في التبرع بكل ما يمكن من جسده، مؤكدًا: “أنا متبرع بجميع أعضائي بعد الموت، وإذا وصل العلم إلى نقل الدماغ، فأنا متبرع بها”.
يعتقد صالح أن التبرع بالأعضاء -خاصة بعد الوفاة- عملية توحد الوجود البشري، ويضيف لمواطن: “سيكون جسدي ضمن جسد أخي الإنسان، أيًا كان هذا الإنسان، لأن العضو الذي سيتبرع به يمكن أن يعيش في جسد إنسان مسلم، مسيحي يهودي، بوذي؛ أو كان لادينيًا أو ملحدًا”.
ويعتبر من مسألة التبرع هذه رد اعتبار للجسد، الذي غيب في الفلسفة القديمة التي حصرت بدرجة ما الخلود في الفكر: “أنا أجعل الجسد هو من يوجد الوجود من خلال جسدي ومن خلال عضو من أعضائي”.
لعبت فلسفة صالح الحياتية والثقافية دورًا هامًا في إقباله على خطوة التبرع بأعضائه، إلا أن لموضوع التبرع بالأعضاء في المملكة تاريخًا طويلًا من التسارع والتطور والانتشار، جعل “صالح” وغيره من السعوديين يقبلون على فكرة التبرع.
السعودية، من الأكثر "حالات للتبرع بالأعضاء" بين دول العالم
وكان عدد المتبرعين الأحياء بالأعضاء في المملكة 145 سعوديًا، مايعادل 8.5 متبرع لكل مليون نسمة في عام 1993، وهو ما ارتفع في 2022 لـ 1396؛ أي ما يعادل 41 متبرعًا لكل مليون نسمة؛ ما يعكس مدى انتشار ثقافة التبرع بالأعضاء في المملكة، والتي جاءت في المرتبة الرابعة بين الدول الأكثر عالميًا في حالات التبرع من الأحياء عام 2021 بـ 1308؛ ما يعادل 38 متبرعًا لكل مليون نسمة.
"سيكون جسدي ضمن جسد أخي الإنسان، أيًا كان هذا الإنسان، لأن العضو الذي سيتبرع به يمكن أن يعيش في جسد إنسان مسلم مسيحي يهودي، بوذي؛ أو كان لادينيًا أو ملحدًا".
انتشرت ثقافة التبرع بالأعضاء، بفضل الجهود التوعوية للمركز السعودي لزراعة الأعضاء ووزارة الصحة السعودية، والتشجيع الحكومي وجهود المتطوعين في مجال التبرع، إلا أن كل هذه الجهود، لم تكن لتؤثر بنفس الوتيرة، لولا فتوى بإباحة التبرع بالأعضاء للمسلم أو غير المسلم، صدرت من رئاسة البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد، بالأمانة العامة لهيئة كبار العلماء في السعودية عام 1984؛ إذ شهدت المملكة أول عملية زراعة كلى في 1979.
“قضية زراعة الأعضاء قُتلت بحثًا وحوارًا مجتمعيًا على مدار عقود طويلة، وانتهت بالقوانين المنظمة لزراعة الأعضاء والتبرع بها، هذه القوانين التي من شأنها حماية جميع الأطراف وتحقيق المصلحة العليا للبشرية، وأنه لطالما هناك قوانين وأنظمة تدير عمليات التبرع بالأعضاء، وهذه القوانين تعتبر قوانين حاكمة من شأنها منع إحداث الجدل والبلبلة من جديد”. حسبما علق لمواطن الدكتور سعد الدين الهلالي، أستاذ الفقه المقارن بجامعة الأزهر.
ويضيف الهلالي: “لم يعد يصلح ولا يجوز فقهيًا لأي فقيه أن يفتي بما يخالف ما جاء في القوانين، وإلا كان خارجًا عن القانون ويجب معاقبته”، كما وضح أنه من حق المواطن أن يبدي رأيًا مخالفًا أو يطالب بتعديل قانون ما، ولكن هذا الحق لا يعتبر فتوى، ولا يجب أن يعمل بها؛ إذ يصفه بأنه مجرد رأي يمارس بموجب حرية التعبير.
القانون السعودي، وتنظيم عمليات التبرع بالأعضاء
ومثلما ختم د. الهلالي حديثه بأن القوانين حاكمة ومنظمة لحياة المواطنين، وتطرح نظمًا تسيير شؤون الأفراد، ومن بينها نظم إدارة عمليات التبرع بالأعضاء، شمل النظام القانوني السعودي 27 مادة تنظم عملية التبرع بالأعضاء وزراعتها.
و تشترط أن تجرى عمليات الزراعة والاستئصال للأعضاء البشرية في المنشآت السعودية المرخصة فقط، إضافة إلى إخضاع المتبرع للفحص الطبي النفسي والاجتماعي والصحي، للتأكد من عدم تأثير التبرع عليه سلبًا، وجاهزيته الصحية على التبرع.
كما يحظر التبرع حال كان له أثر سلبي على صحة المتبرع بأعضائه، كما يحظر التبرع بالأعضاء إذا كانت هناك أسباب علمية تمنع نجاح عملية زراعة العضو في جسم الشخص المراد التبرع له، كما يمنع التبرع في حال أن يكون المتبرع شخصًا فاقدًا الأهلية؛ فلا يتم الأخذ بموافقة الوصي عليه.
ويمنع أيضًا النظام السعودي المنشآت الصحية، التصرف بأي عضو بشري للمتبرع خارج إطار المتفق عليه، إلا في حالة استثنائية، عندما يتعذر زراعة العضو في جسم المريض، وقبل التصرف في العضو يتم الرجوع إلى المركز الطبي لإعطاء القرار الأفضل.
يحظر النظام السعودي، مطالبة المتبرع أو ورثته بأي مقابل مادي نظير تبرعه؛ سواء من المؤسسات الصحية التي أجرت عملية زرع العضو، أو من أهل المريض نظير الموافقة على أخذ أحد أعضاء المتوفى، الذي وافق على التبرع بها قبل وفاته.
آليات التبرع بالأعضاء في المملكة
بنقرة واحدة على أيقونة التبرع من خلال تطبيق “توكلنا”، الذي أطلقته هيئة “سدايا” للبيانات والذكاء الاصطناعي بالسعودية، لتقديم خدمات مختلفة للمواطنين والمقيمين بالمملكة تصل إلى 140 خدمة، من بينها الخدمات الصحية، والذي تم تفعيله بهدف مساندة الأداء الحكومي بالمملكة لمواجهة جائحة كورونا، ومنح التصاريح الطبية والخدمات الصحية إلكترونيًا، كما يستطيع الراغبون في التبرع بالأعضاء تسجيل أسمائهم من خلال الموقع الرسمي لوزارة الصحة السعودية، أو المركز السعودي لزراعة الأعضاء.
يتم التبرع عن طريق الأحياء أو المتوفين دماغيًا، وتكون الأجزاء الصالحة للتبرع، في حالة المتوفين دماغيًا؛ الكليتين، الكبد، الرئتين والبنكرياس، والقرنية وصمامات القلب، بينما المتبرعون وهم على قيد الحياة، يمكنهم التبرع بجزء من الكبد أو كلية واحدة، ونخاع العظام. ولا يفرض نظام التبرع السعودي على الذين أعلنوا عن رغبتهم في التبرع إتمام عملية استئصال أحد الأعضاء المراد التبرع به، وإنما من حقه الرجوع عن قراره في أي وقت.
كما يراعي النظام السعودي كرامة المتبرع ورغبته ويحميه من التشويه عند استئصال عضو منه، ولا يتم إفشاء أي معلومة تتعلق بجسمه سواء كان على قيد الحياة أو توفي. وبالنسبة للمتوفيين دماغيًا، يكون التبرع، بعد موافقة الورثة وأولياء الأمور؛ فيتم توزيع أعضائهم التي تم التبرع بها قبل الوفاة حسب احتياجات المرضى.
ويحظر النظام السعودي، مطالبة المتبرع أو ورثته بأي مقابل مادي نظير تبرعه؛ سواء من المؤسسات الصحية التي أجرت عملية زرع العضو، أو من أهل المريض نظير الموافقة على أخذ أحد أعضاء المتوفى، الذي وافق على التبرع بها قبل وفاته.
وإذا كان ينهي الموت حياة إنسان، لكن هذا الإنسان قد يكون سببًا في إنقاذ حياة أشخاص آخرين؛ فعند التعرض للموت الدماغي، يظل جسم المتوفى يعمل، ما يمكّن من استخدم بعض أعضائه عن طريق نقل الكبد أو القلب أو غيره من الأعضاء الصالحة للتبرع بعد الوفاة.
تقدم الحكومة السعودية مكافأة تشجيعية؛ وسام الملك عبدالعزيز من الدرجة الثالثة لكل من يتبرع بأعضائه لإنقاذ حياة إنسان؛ سواء كان المتبرع حيًا أو متوفى دماغيًا.
ويعلق شادي خيري لمواطن، وهو طبيب قلب: “التبرع بالأعضاء يحول المريض إلى شخص جديد قادر على الحياة، ويصبح عضوًا منتجًا في المجتمع”، ثم يضرب مثالاً بأثر التبرع على المريض، قائلًا: “لو أن المريض تم زراعة كلية له، فإن المتبرع له وفر عليه تكلفة الغسيل الكلوي ومعاناته وعلاجه، وساعده في تحسين نمط حياته، ونفس الأثر أيضا حال زراعة أي عضو آخر لمريض”.
نشاط مجتمعي "غير كافٍ!"
فهد سعد القنياوي، 29 عامًا، وناشط في العمل التطوعي لنشر ثقافة التبرع بالأعضاء، بدأت رحلته من منطقة حائل بالسعودية، عندما تبرع بكليته لسيدة كانت تطلب متبرعًا، ولما أحس أنه أعطى حياة جديدة لإنسانة، كانت على وشك فقد حياتها، قرر أن يكرس حياته لخدمة هذا العمل الإنساني.
ويضيف خلال حديثه لمواطن: “قررت التبرع بالأعضاء بعد مناشدة إحدى بنات الوطن الغالي، لا أعرفها ولا أنتمي لقبيلتها، تبرعت بكليتي ووقعت على التبرع بكامل أعضائي بعد الوفاة”.
بدأت دعوات فهد بين المحيطين به من الأهل والأصدقاء، وكانوا هم أنفسهم المتبرعين الأوائل بالأعضاء في الجمعية، ويضيف: “واجهت في نفس الوقت رفضًا من البعض، لكن هؤلاء الرافضين تحولوا بعد ذلك إلى أعضاء في الجمعية، وقرروا التبرع بأعضائهم بعد الموت”. وهو ما يعزز انتشار ثقافة التبرع بالأعضاء بين السعوديين متأثرين بحالات حرجة بحاجة للتبرع، أو متأثرين بحملات التوعية الحكومية ومن قبل مواطنين متطوعين بخصوص التبرع.
ليس فهد وحده الناشط في مجال التبرع بالأعضاء؛ فهناك العديد من السعوديين والسعوديات ناشطين في هذا المجال، ومنهم قبلان القحطاني، مؤسس جمعية “فريق متشافي الكلى”، بهدف دعم مرضى الكلى ودعمهم نفسيًا ومعنويًا ونشر ثقافة التبرع بالأعضاء.
وتنظم الجمعية زيارات للمستشفيات لتقديم الدعم النفسي للمرضى والتعرف على الحالات التي تحتاج إلى زراعة أعضاء والتنسيق بينهم وبين المتبرعين، ويقول القحطاني، خلال حديثه لمواطن، إن الجمعية تطلق مبادرات متنوعة توعوية لنشر ثقافة التبرع بين أفراد المجتمع، إضافة إلى التعريف بخطر الإصابة بالفشل الكلوي.
كما أطلق مواطن سعودي آخر يدعى، “أبو عبدالعزيز”، موظف حكومي، 47 عامًا، حساب “تبرع بأعضائك” على تويتر للتشجيع على التبرع بالأعضاء عام 2017، وذلك بعد إصابته بالفشل الكلوي، وشعوره بالتعب، وكانت محاولة منه لإنقاذ المرضى الآخرين؛ خاصة أنه لم يجد متبرعًا له حين مرضه، ويقول خلال حديثه لمواطن: “بعد إصابتي بالفشل الكلوي أصبحت غايتي إني أساعد في إنقاذ حياة إنسان”.
تمكن أبو عبدالعزيز، من مساعدة بعض الحالات عن طريق نشر طلباتهم لإيجاد متبرعين عبر حساب “تبرع بأعضائك”. وزاد ذلك من حماسه لإنقاذ حياة آخرين، وقرر أن يتبرع بجميع أعضائه بعد الموت، ويختم حديثه بأن: “التبرع بالأعضاء في رأيي من الخصال الحميدة للمتوفي وأهله”.
ومع كل هذه الجهود المبذولة حكوميًا، إلا أن هناك عجزًا في المملكة ما بين عدد حالات الانتظار وأعداد المتبرعين؛ إذ نشرت وزارة الصحة السعودية في 13 فبراير 2012 في إحدى تقاريرها حول أمراض الكلى، بأن هناك 21 ألف مريض على قوائم الانتظار بسبب ندرة الأعضاء؛ مثل حالة “أبو عبدالعزيز” التي دفعته فيما بعد لأن يكون ناشطًا في مجال التبرع.
وعلى الرغم من الأرقام المرتفعة للتبرع بالأعضاء بين الأحياء في السعودية، والتي لا تتناسب مع حجم قوائم الانتظار من المرضى؛ إلا أن حالات التبرع بعد الوفاة قليلة جدًا؛ إذ كانت 120 حالة في 2022، ما يعادل 3.30 لكل مليون نسمة، وهو رقم منخفض جدًا.
ويرجع ذلك الانخفاض في التبرع بالأعضاء بعد الوفاة، إلى أفكار اجتماعية ودينية بين الأسر عن حرمة الميت، ووجوب دفنه دون التعرض لجثته، ما يعني أن هناك المزيد من الجهد يجب أن يبذل لترسيخ ثقافة التبرع بالأعضاء أكثر وأكثر بين السعوديين، لأنه ومع كل هذا التسارع في ارتفاع معدلات التبرع بالأعضاء من 1993 إلى 2022، إلا أن كل هذا الارتفاع غير كافٍ مقارنة بقوائم الانتظار الخاصة بالمرضى المحتاجين للتبرع بأعضاء.