“مديرة فرع البنك امرأة، يستأذن منها الموظفين الرجال، شفتوا النفاق عبودية المال؟ يستأذنون من مديرتهم ولا يستأذنون من زوجاتهم، هزلت”، كتبت هذه التغريدة الساخرة ردًا على مقارنة بليدة جاءت في مجموعة تغريدات بدأها دكتور عربي مهاجر، تتمحور جل كتاباته حول تحريض الرجال على عمل المرأة المؤدي بطبيعة الحال لاستقلالها المادي.
يرتعب هذا النوع من الذكور من فكرة أن يكون للزوجة راتب، لأن هذا الراتب سيمكنها من الحصول على أمان مادي غير خاضع لأهواء ومزاجية الزوج مصدر الدخل الوحيد، المنفق شرعًا وقانونًا.
وإن حصلت على هذا الأمان، وكان لديها مصدر إنفاق ذاتي، قلّ اعتمادها على الزوج في الأساسيات والضروريات التي تستلزمها الحياة الكريمة والكرامة الإنسانية.
كما أن هذه الوظيفة والتمكين المالي، سيجعل المرأة قادرة على الخروج من العلاقة الزوجية، إن كانت سامة متى شاءت، لأنها ببساطة قادرة على إعاشة نفسها بعد زوال المنفق.
هذا التمكين الإنساني البديهي يجن له جنون فئة من الذكور، غير القادرين على إبقاء زوجاتهم إلا من خلال البقاء مقابل اللقمة! فتضطر للصبر والتحمل والمكوث مع زوج سيء، فقط لأن ليس لديها مصدر إعاشة غيره!
ولو كانت العلاقة الزوجية مبنية على العدالة والحب والمودة والرحمة، ستبقى الزوجة حتى لو حصلت على مال قارون! ولمَ يكون الزوج الطيب الحنون حسن المعشر مرتعبًا من عمل زوجته وتمكنها المالي؟
لا الطبخ ولا غسل الملابس ولا تنظيف البيت والحمامات، ولا جلي الصحون أمور مذكورة بعقد الزواج!
هذا المغرد (الدكتور الجامعي المهاجر) لا ينفك من مقارنة مديرها بالعمل بزوجها في البيت، ملمحًا إلى طاعتها لمديرها مقابل عدم طاعتها لزوجها، وملوحًا لقبولها بقوامة مديرها مقابل رفضها لقوامة زوجها، وخدمتها لمديرها مقابل تمنعها من خدمة زوجها!
وطبعا لابد ان يأخذ الذكوريين هذه المقارنة القميئة واللامنطقية لأبعد الحدود اللا أخلاقية، ليلمح البعض منهم إلى علاقات جنسية بين المدير والزوجة، وتعاملات لا أخلاقية ظنًا منهم أن الموضوع انتقاص للمرأة وشرفها، مع أنه بالواقع تأكيد حصري على فقر أخلاقهم، ونظرتهم القبيحة لأنفسهم وللمرأة الزميلة العاملة!
هذه المقارنات التي تأخذ أشكالاً عديدة في تويتر، ويتلقاها السفهاء كانتصار فكري يدين تقصير المرأة في واجباتها الزوجية والمنزلية مقابل تفانيها في عملها، ما يؤكد على أن وعي النساء في أبسط حقوقهن البديهية مثل التعليم الجامعي والوظيفة والكارير والاستقلال المادي، وصل لمراحل متقدمة جدًا، أدّت إلى حاجة الرجعيين للدخول في عمق فكر الرجل العربي ونبش رهاب الرجولة من خلال ضرب الرجل بالرجل.
ناهيك عن خلق بؤرة تنافسية بين علاقة رسمية وقتية نفعية، فيها راتب مقابل عمل بشروط محددة ومهام معينة، تقرأ الموظفة بنودها بدقة، وتوافق عليها قبل التوظيف، وبين علاقة إنسانية اجتماعية دائمة ومعمرّة لم تحدد فيها حدود الطاعة، ولا بنود الخدمة، ولا المهام والواجبات المنوطة بزوجة لأخرى وفقا لميول وأهواء وشغف ورغبة وإرادة!
وبعيدًا عن الظروف القهرية وطوارئ الاضطرار، لن تقبل امرأة بوظيفة لا تحبها، ولن توقع على عقد العمل من البداية، فالخدمة التي ستقدمها للمدير تقع رهن موافقتها المسبقة. ونحن نعرف أن إنشاء أسرة، شراكة بين اثنين، ولا تتكون عائلة إلا بجالب لهذه العائلة، وجالب لما تتطلبه هذه العائلة للعيش والاستمرار. فرضيًا وعُرفيًا؛ الزوج بالمال والزوجة بالرحم وكل ما عدا ذلك مشاركة من المفترض أن يتفق عليها الزوجان من البداية.
وظيفة المرأة تضمن لها تأمينًا اجتماعيًا ثابتًا يتمثل براتب تقاعدي مدى الحياة، يعينها ويساعدها على الحياة الكريمة بعد التقدم بالسن، والوصول لسن التقاعد، فلا تجد نفسها بلا دخل.
فلا الطبخ ولا غسل الملابس ولا تنظيف البيت والحمامات، ولا جلي الصحون أمور مذكورة بعقد الزواج! وإذا كانت النفقة الشرعية مقتصرة على الأساسيات، المأكل والملبس والسكن، وكل ما عدا ذلك تفضل وتكرم من الزوج؛ فالإنجاب هو الواجب الرئيسي للزوجة، وكل ما عداه تفضل وتكرم من الزوجة هي غير ملزمة به.
ولكي يكتمل الرد على هذه المقارنة، لابد من التعريج على مفهوم الخلاص والانحلال من العقد القائم بين الموظفة والمدير مقابل الخلاص والانحلال من العقد القائم بين الزوجة والزوج.
في الحالة الأولى؛ المرأة حرة نفسها، إن لم يعجبها العمل ولم تتوافق مع المهام المنوطة به، أو شعرت بسوء المعاملة، تستطيع وبكل بساطة أن ترمي كلمة خلاصها: “أنا مستقيلة”، وتخرج من الباب بلا رجعة، بإرادة منفردة ومشيئة ذاتية.
هذه الميزة ليست موجودة في العقد الثاني (الزواج)، فسخ العقد يخضع للكثير من التعقيدات الشرعية والقانونية، وتصل حتى لافتداء النفس بالمال للخروج من علاقة لم تعد تريدها.
ناهيك عن المنافع والحقوق المدنية اللاحقة التي يحصل عليها الموظفون وفقًا لما تقدمه كل دولة؛ فوظيفة المرأة تضمن لها تأمينًا اجتماعيًا ثابتًا يتمثل براتب تقاعدي مدى الحياة، يعينها ويساعدها على الحياة الكريمة بعد التقدم بالسن، والوصول لسن التقاعد، فلا تجد نفسها بلا دخل، ولا تشكل ثقلاً ماديًا على أبنائها عندما تكبر.
كما أن عمل المرأة يضمن لأبنائها راتبًا حياتيًا إن توفيت أثناء سنوات الخدمة، مخلفة أبناء تحت السن القانوني وبنات لم يتزوجن بعد. في الكويت مثلاً يشملها برنامج تأمين صحي فائق بعد التقاعد مدفوع بالكامل من قبل الحكومة، يمكنها من الاستشارات الطبية والعلاجات الصحية، وإجراء العمليات الجراحية في أحسن مستشفيات القطاع الخاص، مما يتيح لها اختيارات أفضل ولا يلزمها في العناية الصحية الحكومية دون غيرها.
فمن البلادة أن تكون كل هذه الحقوق والامتيازات حكرًا على الرجل دون المرأة؛ فالمستقبل لا أحد يعلمه، ولا أحد يضمنه لكي تبقى المرأة تحت رحمة وجود معيل واحد للأسرة، على اعتبار أنها خُلقت للمنزل ومكانها المطبخ، بينما هي قادرة تمامًا على العمل والاستقلال المادي والسعي لتوفير مدخول إضافي يعلّي مستوى معيشة الأسرة ويرفع جودة حياة الأبناء.
وفي وقتنا الحالي، تتطوّر قوانين الأسرة، ويضع المشرع اعتبارًا واضحًا لاحتياجات الأم العاملة وطفلها، وضرورة تواجدها مع الرضيع لأطول مدة ممكنة بعد الولادة؛ فهناك إجازة الوضع، وإجازات الأمومة التي تمتد لسنة كاملة بعد الإنجاب، بالإضافة للحضانات المعتمدة.
شيطنة وظيفة المرأة بهذا الأسلوب البدائي، ودغدغة غيرة الرجل، وضربه بهلاوسه الجنسية، وجعله في منافسة دنيئة مع المدير في العمل، أو الزميل فيه، لن يعود على منظومة الزواج إلا بالإضرار الكامل بالثقة بين الزوجين، وهدم أواصر الاحترام المتبادل ونقض مبادئ المودة والرحمة. توقفوا عن مثل هذه الأحاديث فالمقارنة غبية لا تنم إلا عن جهل مدقع.
- الآراء الواردة في هذا المقال تُعبّر عن رأي الكاتب ولا تعكس بالضرورة مواقف وآراء “مواطن”.