“لم أشعر يومًا بحضن أمي ولا أذكره، لم تكن مربيتي سيئة للغاية، لكنها كانت تفتقد أي نوع من المشاعر، جامدة وعبوس دائمًا، تنفذ التعليمات مثل جندي ملتزم، دون أن تبتسم، أشعر أنها كانت دمية أو جهازًا آليًا، لا أعرف هل أكرهها لأنها كانت الحاجز بيني وبين أمي؟ أم أشكرها وأكره أمي التي وضعت بيننا ألف حاجز؟”، هكذا تحدث الشاب الكويتي فيصل (23 عامًا) عن تجربة طفولته، وتلقيه التربية بشكل كامل من جانب عاملة المنزل الآسيوية.
يضيف لمواطن أنه نشأ في أسرة ثرية مثل أغلب الأسر في الدول الخليجية، يعمل والده مديرًا لإحدى الشركات العاملة في قطاع الإنشاءات، “كان حنونًا، لكنه منشغل طوال الوقت، حتى أيام الجُمع، لم يخلُ يومه من الاجتماعات والمحادثات الهاتفية حول أمور العمل”.
أما الأم التي تعمل بإحدى المؤسسات الحكومية الخدمية، “كان بمقدورها التخلي عن قليل من النشاط الاجتماعي لصالحي أنا وأخوتي، لكنها فضلت الانهماك في العمل، وترك المسؤولية المربية الأجنبية”.
"يؤدي الاعتماد الكلي على المربيات، مع غياب دور الأم والأب إلى حدوث خلل ومشكلات ثقافية واجتماعية وصحية، وربما حالة من التفكك في الكيان الأسري".
عاش فيصل وإخوته حياة قاسية على المستوى الأسري، كان لها تأثير بالغ على حياتهم الاجتماعية فيما بعد، لم يشعروا بالدفء الأسري -كما يقول-، لا يذكر أنه كانت تجمعه مائدة واحدة بوالدته ووالده سوى مرة أو مرتين أسبوعيًا، وفي باقي الأيام يعيش وفقًا لما تحدده المربية، وكان لفتور العلاقة مع والديه أثر سلبي في نفسيته.
ووجد نفسه في مرحلة المراهقة ضحية للعلاقات الاجتماعية المعقدة و الاختيارات الخاطئة، مفتقدًا النصح والإرشاد من جانب الأسرة؛ الأمر الذي أوقعه في العديد من المشكلات، وكان أخطرها ميله إلى تعاطي المخدرات، كنوع من التجارب الجديدة مع أصدقائه؛ في النهاية فضل العدول عن هذا الطريق.
ونمّا فتور العلاقة بالوالدين داخله الافتقاد إلى الشجاعة، وفقدانه للثقة بالنفس والخوف من أي خطأ يرتكبه، يعرضه إلى مواجهة مباشرة معهم، بسبب عدم قربهم منه في أي فترة من فترات حياته.
تعاني دول الخليج بشكل عام من مشاكل، تزايدت بشكل لافت خلال العقد الثاني من الألفية، نتيجة الاعتماد على العاملات الأجنبيات في تربية الأطفال بشكل كامل، لم تقتصر المشكلات على الضرر النفسي الواقع على الطفل، أو التأثيرات السلبية على المجتمع فيما يتعلق بمفاهيم الثقافة العامة، أو القيم وحتى الولاءات الوطنية، لكنها تجاوزت ذلك بكثير، وصولًا إلى الاعتداء الجسدي على الأطفال من جانب بعض المربيات وصلت للقتل والتعذيب أو الاعتداءات الجنسية في بعض الأحيان.
وظهرت شكاوى إهمال وتعذيب؛ إذ أصيب أحد الأطفال بالربو، إثر تركه من عاملة المنزل في غرفته عاريًا تحت السرير، ودرجة حرارة مكيف الغرفة منخفضة جدًا، كما أقدمت عاملة منزل أخرى على قتل طفلة بتوجيه عدة طعنات في مناطق متفرقة من جسدها أثناء نومها. وفي 2022 محكمة إماراتية تحبس مربية بتهمة، تصوير طفلة عارية وفي أوضاع مخلة، هذه نماذج لجرائم شهدها المجتمع الخليجي من قبل عاملات المنازل في ظل غياب الأمهات.
مربيتي اللادينية "مثلت لدي هاجسًا وتضاربًا في أفكاري"
ظهرت موضة الاعتماد على المربيات في دول الخليج، تزامنًا من الطفرة الاقتصادية والاجتماعية التي شهدتها تلك الدول بعد اكتشافات البترول، وما صاحبها من رفاهية اجتماعية وتوسع بتعليم الفتيات، ومن ثم الاعتماد على المرأة في مجالات العمل بشكل تدريجي، كلها أمور ساعدت على زيادة الاعتماد على المربيات في المنازل؛ خاصة من الدول الآسيوية وبعض الدول الأفريقية.
وكانت “بدور”، والتي تعمل اليوم مدرسة، من الجيل الأول للسعوديات اللائي تأثرن سلبًا بسبب التربية على يد عاملة أجنبية: “واجهت مشكلات كثيرة في طفولتي، نتيجة الثقافة المغايرة تمامًا لمربيتي الآسيوية، والتي كانت “لادينية”؛ فلم تكن تعلم أي تفاصيل حول الإسلام أو أي دين آخر، وكلما سألتها عن أمر ما يتعلق بدراسة الدين في المدرسة، كانت ترد بأنها لا تعلم، أو أنه أمر غير حقيقي”.
وتستطرد: ” وعلى الرغم من بساطة الموضوع؛ إلا إنه كان يمثل هاجسًا وتضاربًا في الأفكار عندما كنت طفلة، وكذلك كافة التفاصيل التي تتعلق بقيم المجتمع الدينية أو الثقافية أو غيرها”.
يقول الدكتور خالد الغامدي، دكتور الإرشاد النفسي والمستشار الأسري السعودي لمواطن: "في بعض الحالات، أصبح الاعتماد على المربية نوعًا من الرفاهية، حتى في أوقات تواجد الأم، أو عدم انشغالها بوظيفة أو عمل آخر".
وتضيف بدور لمواطن: “أمي كانت معتمدة على المربية بحكم ظروف عملها، كان الموضوع صعبًا كثيرًا علي أنا وأخوتي”. وتؤكد أن البنت كمراهقة تحتاج أمها؛ خاصة في الأمور الأنثوية وغيرها.
وتختم حديثها: “قررت أني لن أكرر التجربة مع أولادي أبدًا، وأجرب حلولاً بديلة، مثل تقليل ساعات عملي، أو الاعتماد على مراكز التعليم قبل المدرسي، أو ترك أعمال البيت للعاملات لتسهيل على نفسي عملية التربية”.
أثار غياب الأم والاعتماد على المربيات
أشارت الخبيرة التربوية القطرية؛ فاطمة بنت يوسف الغزال في مقالة منشورة على جريدة الشرق القطرية، إلى أن هناك آثارًا سلبية مفزعة بسبب التربية على يد المريبات؛ إذ يدفع الأطفال للميل إلى الانطواء والعدوانية والخمول والكسل، بسبب فقدان العلاقة بين الطفل والمربية للجانب التربوي الذي على الأم أن تلعبه.
ويذكر كتاب “أثر المربيات الأجنبيات في تربية الطفل”، للباحثة عنبرة حسين الأنصاري، أن المريبات لديهن ثقافة مختلفة عن الأسر الخليجية تؤثر في الأبناء، كما يغيب عن المريبة رابطة الحب الأمومي؛ فعلاقتها بالطفل علاقة نفعية على مقابل مادي، وترفع تربية العاملة المنزلية من روح الاتكالية لدى الأطفال، وهو ما يستمر إلى ما بعد الطفولة. *تتحفظ مواطن على لفظ خادمات.
كما أن الجانب التربوي في العادة لا يكون منضبطًا؛ إذ تستخدم بعض المربيات الأجانب ألفاظًا خارجة مع الأطفال، كما قد تأخذ المريبة صورة الـ mother figure – الأم البديلة، ما يزيد من تهميش دور الأم في حياة أبنائها.
وقد تؤدي سطوة المربيات في الخليج إلى التقاط الأطفال كلمات لهجة المربية، قبل أن ينطق لهجة أهله، ما يسبب تأخرًا في النطق أو تلعثمًا أو الحديث بعربية غير سليمة.
يقول الدكتور خالد الغامدي، دكتور الإرشاد النفسي والمستشار الأسري السعودي لمواطن: “في بعض الحالات، أصبح الاعتماد على المربية نوعًا من الرفاهية، حتى في أوقات تواجد الأم، أو عدم انشغالها بوظيفة أو عمل آخر، نجد أن الاعتماد كله يكون على المربية”.
ويكمل، “يؤدي الاعتماد الكلي على المربيات، مع غياب دور الأم والأب إلى حدوث خلل ومشكلات ثقافية واجتماعية وصحية، وربما حالة من التفكك في الكيان الأسري”.
تتكون عادات الطفل التي تؤثر فيه بقية حياته، من خلال محيط تعاملاته الأولية، وغياب الوالدين ينقل عملية تشكيل السلوك للمربية، كما يشير عالم النفسي الألماني إريك فروم؛ في كتابه “فن المحبة”، إلى ضرورة لعب كل من الأب والأم أدوارهما التربوية، حتى تتوازن نفسية الطفل، الذي يحتاج لتعلم النظام من والده والرعاية والاهتمام من أمه.
ويذكر الغامدي أيضًا تعرض عدد كبير من الأطفال للعنف النفسي والجسدي على أيدي المربيات، وصلت في بعض الحالات للقتل، والتعذيب العنيف؛ فضلًا عن انتشار الكثير من الأمراض النفسية والعضوية؛ نتيجة تعرض الأطفال للعنف، بسبب الاعتلالات النفسية والأخلاقية لدى المربيات.
وترى المحامية الإماراتية هدية حماد في تقرير بعنوان “ترك الأطفال مع المربيات تهديد لصحتهم النفسية والجسدية” على موقع الخليج، أنه في حالة تعرض الطفل لأي مخاطر أو عنف نتيجة وجوده مع المربية أو الغرباء؛ فالسبب الرئيسي هو الوالدان، بسبب عدم قدرة الطفل على حماية نفسه.
وأكدت أن القانون الإماراتي، يعاقب الوالدين بالغرامة أو الحبس في حالات الإهمال أو اعتياد تركه دون رقابة أو متابعة، أو التخلي عن إرشاده وتوجيهه، أو عدم القيام على شؤون الطفل. وهو ما يلزم الأهالي بمتابعة أطفالهم.
كما يربط الغامدي بين حالات الطلاق المرتفعة في دول الخليج، وانتشار المفاهيم الخاطئة حول منظومة الزواج، ما أفرز نوعًا من “الهشاشة الزوجية”، تسبب في انهيار القيم المؤسسة للأسرة؛ سواء نتيجة التربية الخاطئة، أو غيرها من العوامل التي تؤثر على الأسرة بشكل مباشر.
وحذرت الباحثة السعودية عنبرة الأنصاري من الاستهانة بظاهرة الاعتماد على المربيات، لما لها من آثار وخيمة، مطالبة بوضع ضوابط لسلبيات الظاهرة؛ بل واتخاذ إجراءات احترازية، وانتهت في بحثها إلى ضرورة انتقاء عمالة جيدة بمعايير مرتفعة، تتناسب مع متطلبات الحياة في الخليج، ونصحت بالاعتماد على الحضانات بدلاً من المربيات، واقترحت وجود تسهيلات للنساء العاملات، تمكنهن من مباشرة تربية أطفالهن دون اللجوء إلى المربيات.
ولمسألة الاعتماد على المربيات في الخليج أبعاد عدة ومربكة بشكل معقد، ومع هذا تبقى أمر لا مفر منه، وتتعلق الأزمة بتحديد الأدوار للمربيات من أجل إعانة الأم العاملة على تربية أبنائها، دون الإخلال بحالة الترابط الأسري، أو القيم المجتمعية لما تخلفه من آثار على الأطفال تلازمهم فيما بعد.
شعور فيصل بالوحدة والاغتراب وغياب والديه عن حياته، لا يقل عن ربكة الهوية التي عاشتها بدور مع مربية لا دينية تخبرها بأفكار صادمة عن الدين وفي سن صغير، وهما مثل العديد من أبناء الخليج، الذين تربوا على يد مربيات أجنبيات، وعانوا من غياب الأم عن حياتهم، وما له من أثر سلبي، بالإضافة إلى التنشئة على ثقافة أجنبية، تسبب لهم مشاكل نفسية واجتماعية، يصعب التخلص منها.