ماهر فؤاد، مهندس سوري متقاعد، يرسل له ابنه اللاجئ في ألمانيا مبلغًا شهريًا، يتراوح عادةً بين 100 إلى 200 يورو، لم ينقطع ولده “مهذب” منذ العام 2015 عن إرسال المساعدات لأبيه. يقول ماهر لمواطن: “لولا هذه المساعدات التي تصلني من مهذب شهريًا، لما تمكنت من إعالة إخوته الصغار، ولا استمررنا في العيش، الحمد لله لدينا من يعيننا، لكن ماذا عن بقية شعبنا الجائع؟”.
وبعد بداية الحرب في سوريا والعقوبات المفروضة عليها، أقرّت معظم الدول نظامًا جديدًا وصارمًا على آلية تحويل الأموال إلى سوريا، على أن تكون تحت المراقبة التي تضمن عدم تجاوز القوانين المصرفية، وفي حال تجاوز تلك القوانين وتوجه المرسل لمسار تحويل غير شرعي، لا تكون عمولته مرتفعة، فإنّ ذلك التصرف في حال كشفه يهدد مصير اللاجئ ومستقبله في بلد اللجوء.
تشير المعلومات الإحصائية إلى أن الحوالات التي تصل إلى سوريا بلغت العام الماضي 2022 نحو 1.7 مليار دولار، بمعدل خمسة ملايين دولار يوميًا، ويتضاعف الرقم في الأعياد وشهر رمضان. كما أوضح مصدر اقتصادي مقرّب من الدوائر الرسمية لـ”مواطن” أن 70% من السوريين يعيشون على الحوالات التي تأتي من ذويهم في الخارج، ولكن بشكل غير متجانس؛ فالمبلغ يختلف من أسرة لأسرة، ولربما تكفي تلك المساعدات من بالداخل، لكنها قد تُشكّل إرهاقًا على المرسل.
طلبنا من “فؤاد” تأمين اتصال مع ولده مهذب في ألمانيا والذي قال: “تصل العمولة المقطوعة إلى 5% أحيانًا من مجمل قيمة الحوالة المرسلة، لكن المشكلة ليست هنا؛ فهذه أول 5 يورو اقتطعت من 100 المرسلة مثلًا، لكن كم يورو سيُقتطع حين وصول الحوالة إلى سوريا؟ كم من 100 يورو سيصل لأهلي؟ وكم سنخسر من الحوالة؟”.
ويضيف مهذب لـ”مواطن”: السعر الرسمي لليورو في دمشق هو 10 آلاف ليرة، بواقع أقل بأربعة آلاف ليرة عن السوق السوداء؛ فحين أرسل 100 يورو يستلم أهلي 950 ألف ليرة قبل خصم العمولة السورية، بديلاً عن مليون وأربعمائة ألف ليرة (سعر الــ 100 يورو في السوق السوداء). ومع احتساب العمولة المقتطعة هنا في ألمانيا وهناك في سوريا، إضافة لسعر الصرف الرسمي نكون قد خسرنا نصف قيمة الحوالة”.
يخشى مهذب على إقامته في ألمانيا، ويعمل جاهدًا ألّا يخالف أي قانون حتى لا يواجه مشاكل من أي نوع، لكنّ آخرين اختاروا طريقًا آخر في التحويل ويصعب كشفه، وهذا ما يفعله “ياسين. س” وهو شاب سوري أيضًا لاجئ في ألمانيا.
قانون قيصر، الحرب والانهيار الاقتصادي
توقفت المعارك العسكرية في شكلها المباشر في العام 2018، رغم بقاء مناطق كبيرة خارج سيطرة الحكومة السورية، هذا التوقف العسكري الذي جاء بعد تفاهمات واتفاقات دولية؛ فتبلورت الخريطة السورية بشكلها الحالي الذي تسيطر فيه فصائل عسكرية مدعومة من الأتراك، وبينها “الجيش الوطني”، إلى جانب جبهة النصرة على مدينة إدلب شمال غرب سوريا، وعلى بعض أرياف حلب. في حين تسيطر القوات الكردية عبر قوات سوريا الديمقراطية ومعهم القوات الأمريكية التي تدعمهم لوجستيًا وبشريًا على عموم مناطق الشمال الشرقي من سوريا المسمى “الجزيرة” أو شرق الفرات، وهي مساحات واسعة وفيها سلّة سوريا الغذائية والنفطية.
ومنذ بداية الحرب عام 2011 والحكومة السورية، تواجه العقوبات الاقتصادية والسياسية الدولية، ولكنّ نقطة التحول كانت في أواخر عام 2019 حين أقرّت الولايات المتحدة الأمريكية حزمة عقوبات أسمتها بـ “قانون قيصر” الذي أطبق الحصار على سوريا تمامًا ومنع قشّة من الدخول إليها.
تمنع السلطات السورية رعاياها من استلام الحوالات الواردة (دون الـ500 دولار) بالنقد الأجنبي، وتُصرف لهم حوالاتهم بالليرة السورية حسب سعر الصرف الرسمي، نظرًا لحاجة البنك المركزي الذي يعاني نقصًا في العملات الأجنبية
انهارت الليرة السورية خلال العشرية بين 2011-2022، انهيارًا كارثيًا، ليسجل سعر صرف الدولار أمام الليرة في شهر تموز/ يوليو من العام الحالي 260 ضعفًا قياسًا بسعر الصرف في العام 2011. (كان الدولار عشية الحرب في العام 2011 يساوي 47 ليرة سورية، أما اليوم فيعادل حسب السعر الرسمي 14 ألف ليرة سورية – بلغ ذروته منتصف آب/ أغسطس الفائت بوصوله لـ 16 ألف ليرة سورية).
جاءت هذه الانهيارات المتسارعة تزامنًا مع انهيار اقتصادي في لبنان بُعيد انفجار مرفأ بيروت في آب/ أغسطس 2020؛ ما جعل عملية تدارك ما يحدث أصعب، وفي نفس الوقت أكثر إلحاحًا، ولكن دون نتيجة. على اعتبار أنّ لبنان كان متنفسًا نسبيًا لسوريا في حصارها عبر حلفائها المتواجدين هناك.
قبل إقرار “قانون قيصر” من قبل الولايات المتحدة الأمريكية، كان عامة الناس نسبيًا قادرين على التأقلم وإيجاد سبل ووسائل لاستمرار دفع عجلة الحياة نحو الأمام، لكنّ المشكلة أنّ مرتب الموظف السوري تجمد وسطيًا عند حدود مئتي ألف ليرة سورية (حوالي 14 دولار أمريكي)؛ ما جعل الحياة أكثر صعوبة، والاستمرار بها أكثر استحالة مع الوقت.
لم يصب الأثر الرجعي لانهيار قيمة العملة مرتبات الموظفين فقط؛ بل تعداهم ليغلق مهنًا ومصالح كان يجري العمل بها تاريخيًا في البلاد؛ حيث صارت تكلفة الصناعة أعلى من أرباحها غالبًا. ويمكن هنا إيراد مثال بسيط عن أسعار السلع التي ترتفع بين الصباح والمساء، ومن المعروف أن أي أسرة طبيعية تحتاج أكثر من مليوني ليرة سورية شهريًا (أكثر أو أقل من 200 دولار بقليل) لتعيش بشكل لا تموت فيه جوعًا.
وهنا ظهرت أهمية ورقة اللاجئين؛ في خضم موجات الهجرة واللجوء المتتابعة دون توقف؛ فمن خلال تحويلاتهم المالية قد يستطيع ذووهم الاستمرار في الحياة وسط تلك الظروف الاقتصادية الطاحنة.
حوالات مالية بطرق غير شرعية
تمنع السلطات السورية رعاياها من استلام الحوالات الواردة (دون الـ500 دولار) بالنقد الأجنبي، وتُصرف لهم حوالاتهم بالليرة السورية حسب سعر الصرف الرسمي، نظرًا لحاجة البنك المركزي الذي يعاني نقصًا في العملات الأجنبية، وهنا يبدأ دور السماسرة الذين يتكفلون بالأمر.
رأى ياسين أنّ التحويل عبر “الوسطاء” في ألمانيا أيسر وأكثر سلاسة وأقل كلفة. يقول لـ”مواطن”: ” تعرفت إلى أحد الوسطاء السريين هنا، أعطيه المبلغ مع عمولة تتراوح بين 4 إلى 7%، وهو بدوره يتصل بأحد الأشخاص العاملين معه في سوريا ويطلب منه إعطاء أهلي المبلغ، وطبعًا يتم خصم القليل منه هناك في سوريا، ولكن ليس الشيء الكثير، وبالطبع يستفيد أهلي بفرق سعر صرف العملة في السوق السوداء”.
وبالنسبة لــ “رقية. ن” لاجئة في ألمانيا فهي أيضًا تعتمد على نظام الوسطاء، وفي حديثها مع “مواطن” تشير إلى أنّ تلك الطريقة تحفظ قيمة الحوالة قدر المستطاع، وهي تستخدمها منذ عامين على الأقل، منوهةً بأنّ لاجئين كثرًا يتبعون تلك الطرق وطرقًا ممنوعة، وربما مشبوهة من نوع آخر، معلّلةً أنّها تكدّ وتجتهد في جني المال، ولا تريد أن يسرق نصفه بين ألمانيا وسوريا.
وكانت السلطات الألمانية قد بدأت في نيسان/أبريل الفائت بمقاضاة لاجئ سوريّ اعترف بعمله ضمن شبكة منظمة للحوالات المالية غير الشرعية إلى سوريا، وقد تولى إرسال أكثر من 12 مليون يورو؛ في حين توقعت مصادر حقوقية حبسه لأربع سنوات بعد اعترافاته أمام هيئة المحكمة.
لونا سمير، مهندسة ديكور هجرت بلادها واختارت الاستقرار في بغداد، تقول لـ “مواطن”: “يمكنني تحويل الأموال إلى أهلي شهريًا عبر القنوات الشرعية ولكنّها ستفقد شيئًا كثيرًا من قيمتها، ولأسباب خاصة أفضّل أن تصل لأهلي الحوالة بالدولار كما هي وهنا أدفع بحدود 20 دولار للوسيط في بغداد، وهو بدوره يؤمن وصولها خلال أيام لأهلي”.
ومثل “لونا” يفعل آخرون، لديهم أسباب متعددة؛ منها تفاوت صرف السعر اليومي، ومنها إرسالهم لأهاليهم حاجتهم وفوقها مبلغ يجري ادخاره أو استثماره أو أشياء أخرى تتعلق برؤية كلّ منهم، على اعتبار أنّ أيّ دخل خارج سوريا يجعل صاحبه مستثمرًا مستقبليًا مفترضًا، حين تنصلح أحوال بلده، ولعلّ هذا الكلام يخص على وجه الدقة المهاجرين في الدول العربية أكثر من أولئك الذين حصلوا على الجنسيات الأوروبية.
شبكات غير شرعية لتحويل الأموال
نجحت “مواطن” في تتبع إحدى الحوالات التي خرجت من أوروبا ووصلت إلى سوريا مؤخرًا، “رفيق” اسم مستعار لوسيط يقيم في إحدى الدول الأوربية، طلب عدم ذكر اسمه لأسباب تتعلق بتجريم عملهم ذلك، بيد أنّه يعتبر أنّه يسدي خدمة للآخرين تساعدهم في التهرب من خسارة قيمة أموالهم.
يقول: “شبكتنا تتألف من حوالي 30 إلى 35 شخص بين أوروبا وسوريا، ونتواصل حصرًا عبر خدمات واتس آب دون الاقتراب من الماسنجر والفيس بوك وبقية التطبيقات أبدًا، وننسق بين بعضنا لنجمع القدر المطلوب في كل مرة من المال؛ سواء من بلد واحد أو عدة بلدان، ويختلف المبلغ في كل مرّة، وهنا يبدأ ترتيبنا لإرسال تلك الأموال ولدينا عدة طرق”.
ومن بين تلك الطرق، يذكر رفيق تعاملهم مع تجار معينين ولهؤلاء التجار مصالح في أوروبا؛ فيقوم الوسطاء بالدفع لقاء إتمام مصالح التاجر هناك، والذي بدوره يقوم بتسليم وسطاء سوريا العاملين مع وسطاء أوروبا المبالغ المتفق عليها ليسلموها لأصحابها.
وإذا كان تسليم المستفيدين من الأهالي بالعملة المحلية؛ فإنّ التاجر يسلم الوسيط الأموال بالعملة السورية، وفي حال كان التاجر والوسيط في مدينة معينة، ويجب تحويل الأموال إلى مدن أخرى؛ فهنا يتجه الوسيط إلى أحد مكاتب التحويل الداخلية الرسمية، ويقوم بإتمام تحويل الأموال مستخدمًا كلّ مرّة بطاقة شخصية مختلفة لأشخاص يعملون معه، وقد يصل مجموع الهويات المستخدمة تحت إشراف كل وسيط لنحو 100 هوية، وذلك يضمن عدم لفت انتباه السلطات وتشتيت جهودها الرامية لمطاردتهم.
أما في المناطق التي تقع خارج سيطرة الحكومة السورية، وفي إدلب على وجه الخصوص، شمال غرب سوريا، هناك ينتشر أكثر من 250 مكتب صرافة وتحويل، وكلّها لا تتبع لشركات معينة؛ إنما تتبع أشخاصًا في المنطقة، وغالبًا لقيادات عسكرية.
أمنت تلك المكاتب ربطًا مع بضعة شركات في تركيا لتلعب دور الوسيط في إتمام عمليات التحويل تلك، وعلى اعتبار أنّ التعامل بالدولار في إدلب طبيعي؛ فهذا بالضرورة يعني إجراءات أكثر ليونة في إتمام استلام الحوالات من قبل الأشخاص هناك.
ولكن مؤخرًا بدأت تسوء الأوضاع أكثر بعد فرض هيئة تحرير الشام (جبهة النصرة) أكبر الفصائل هناك قيودًا صارمة على تلك المكاتب؛ ما دفع بالكثير منها للإغلاق، قيودًا تتعلق بضرائب عالية ورسومًا وغرامات وغيرها، وكلّها جاءت تحت مسمى “الزكاة” الشرعية.
سنّت الحكومة السورية قوانين صارمة لمطاردة السماسرة والوسطاء ومستلمي الحوالات بالطرق غير الشرعية، وكذلك كل من يتعامل أو يدفع أو يشتري بالدولار في الحياة العامة.
وشملت تلك الضوابط منع تسلم الأشخاص لحوالات من عدة دول خليجية، وحصر الإرسال هذا إلى تركيا، وكذلك منع تسلّم أي شخص غير سوري حوالة أيّا كان مصدرها، دون مراجعة مكتب الأمن للجبهة، والجدير بالذكر أنّه يوجد في إدلب آلاف المقاتلين المناوئين للحكومة السورية من جنسيات متعددة.
والمكاتب التي استمرت بالعمل حتى اليوم، فإنّها صارت تتأخر كثيرًا بتسليم الحوالات أو تسليم جزء منها فقط، بعد ادعاء شح السيولة في مدينة تقوم كلّها على التعامل بالدولار.
أما شمال شرق سوريا في منطقة الجزيرة وسيطرة الأكراد والأمريكيين؛ فهناك يقبض المقاتلون أساسًا، -السوريون وغيرهم- بالدولار، وبشكل شهري دونما انقطاع، وعلى الدوام يتوافر لديهم كل ما ينقص بقية سوريا من غذاء ومشتقات نفطية على اعتبار أنّ منطقتهم هي الخزان الاستراتيجي للبلد.
لا شك أن فقراء كثرًا يعيشون في الجزيرة، ولكن انسيابية الدولار هناك وانخفاض تكاليف المعيشة مقارنة بمناطق أخرى يجعل مضاضة العيش أقلّ، ولو بشيء بسيط، وبالضرورة؛ ثمة من يستلم حوالته من أولاده في الخارج عبر قنوات متشابهة مع بقية السوريين.
محاولات حكومية للسيطرة على "الدولار الأسود"
سنّت الحكومة السورية قوانين صارمة لمطاردة السماسرة والوسطاء ومستلمي الحوالات بالطرق غير الشرعية، وكذلك كل من يتعامل أو يدفع أو يشتري بالدولار في الحياة العامة، ومجمل تلك العقوبات نصّت على السجن 20 عامًا للمتعامل بالدولار بأي شكل.
يكفل القانون السوري حرية حيازة الدولار وبقية العملات الأجنبية، طالما أنّها في إطار الادخار دون أي استخدام نهائي، حتّى إنّه إذا تعرض منزل شخص للسرقة، وكان بين المسروقات عملات أجنبية قليلة أو كثيرة، فإنّ السلطات تتكفل باستمرار ملاحقة اللص حتى استرجاع تلك الأموال وإعادتها لصاحبها.
رغم ذلك؛ تطارد الحكومة، عبر أدوات متعددة، أيّ دولار موجود في السوق، وتمنع التسعير والتعامل به، علمًا بأنّ سوريا وكل السلع والخدمات فيها تقوّم على أسعار الدولار الأسود، ومن غرائب القوانين تلك أنّ جريمة من يتعامل بــ 100 دولار كمن يتعامل بمليون دولار، كلاهما مدانان أمام القضاء بأشد العقوبات.