المخيم التاسع.. رُغم الخيام والوضع اللا إنساني، يكفي أننا لا زلنا على أرض غزة
رغيفا خبز وعلبة تونة أو فاصولياء أو فول حبّ وبعض المياه، هي الوجبات التي ينتظرها النازحون الغزاويون من موظفي الأمم المتحدة الذين يشرفون على تسكينهم في خيام بيضاء مصفوفة بجانب بعضها البعض، لتعيد للذاكرة نكبة العام 1948.
لم يحتمل المسن عبد الرحمن الكحلوت (90 عامًا) تلك الأجواء بعد أن فرّ مضطرًا، من منزله في شمال قطاع غزّة إلى جنوبه بناء على أمر جيش الاحتلال خلال عدوانه المكثف على القطاع، والذي بدأ في السابع من أكتوبر الماضي.
“انزحوا إلى جنوب الوادي”، النقطة الفاصلة ما بين شمال القطاع وجنوبه، هذا الأمر الذي وُجِّه لأكثر من مليون فلسطيني لترك منازلهم في القطاع، متجهين للجنوب خوفًا من قصف منازلهم، لتمتلئ شوارع منطقة الجنوبية ومدارسه ومستشفياته بالعديد من النازحين في مدينة خان يونس ورفح، لتضطر وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين التابعة للأمم المتحدة -الأونروا- لبناء مخيم في أحد مواقف السيارات التابع لبلدية خان يونس.
أصيب المسن عبد الرحمن الكحلوت بأزمة قلبية بمجرد أن رأى تلك الخيام التي أعادت لذاكرته أحداث العام 1948 – التي هُجّر فيها من قرية نعليا مع والديه وأخته، نُقل على إثرها للمستشفى ليخضع لفحوصات ويقدم له العلاج، ويرفض بعدها العودة لمخيم النازحين مفضلاً أن يبقى هو وأحد أحفاده في مستشفى ناصر معايشًا آلام نكبة ثانية وهو في عمر التسعين.
أما أبناء الكحلوت، عدي ومحمود وزوجتاهما وابنته هدى وأولادهم؛ فقد حصلت كل أسرة منهم على خيمة. يقول محمود (40 عامًا – أب لخمسة أطفال): ” طلبنا أنا وإخوتي أن نحصل على خيامنا جانب بعضنا بعضًا حتى نشعر بالقليل من الأمان، ونستطيع التكافل فيما بيننا ومساعدة بعضنا بعضًا في حالة حدوث أي أمر”.
وعمّا حدث لوالده قال لـ “مواطن“: منذ زمن ويحدثنا والدي عن المعاناة التي عايشها هو وعائلته خلال الهجرة عام 1948م، وكيف عاشوا أيامًا من الجوع والعطش والخوف، لذلك بمجرد أن رأى الخيام عادت لديه الذاكرة بالماضي، فأصيب بجلطة دموية والحمد لله كانت خفيفة، لكنه رفض بعدها مشاركتنا تلك الخيام.
إن دور الأونروا ليس إقامة خيام لمن يقتل ويذبح، ولمن ينزح داخل قطاع غزة استعدادًا لتهجيره خارج القطاع؛ بل المطلوب من هذه الوكالة هو أن تتحمل مسؤولياتها كجزء من منظومة الأمم المتحدة في حماية هؤلاء النازحين
كما يرى أن الخيام أفضل من المكوث في العراء، يقول: “بحثنا عن صفّ أو مكان مناسب في مدارس الأونروا (التي فتحت أبوابها لاستقبال اللاجئين بعد نزوحهم) فلم أجد؛ كانت جميع الصفوف ممتلئة واضطررنا للجلوس في ساحة المدرسة قبل أن يتم إنشاء المخيم.
بينما تشتكي مريم، زوجة محمود من عدم توافر مقومات الحياة الأساسية، وبشكل خاص المرافق الصحية ودورات المياه، تقول لـ “مواطن“: هي معاناة مركبة وصعبة جدًا، ننتظر لساعات حتى يحين دورنا، وهي دورات غير صالحة ولا تكفي العدد الموجود، كما أننا نفتقد للنظافة الشخصية والاستحمام، ونجد صعوبة في توفير مياه الصالحة للشرب، وعدم توفير الخبز”.
“ليس هذا فقط؛ فالعيش في الخيام كأنك في العراء، ولا خصوصية فيه؛ فالبرد الشديد يدق العظام أيضًا، وأي قصف يشعرون به بشكل كبير، ولديهم تخوف من اشتعال النيران فيه بسبب استخدام المواقد لإعداد الطعام، وسكان المكان يفكرون بشكل دائم في حالهم؛ وبشكل خاص أن غزة مقبلة على فصل الشتاء، كما أن ما يقدمه موظفو الأمم المتحدة للاجئين غير كاف؛ خاصة أنه لا يُشبع، ورغم الأوضاع المادية السيئة للاجئين، إلا أنهم يحاولون شراء بعض الطعام لتعزيز ما يحصلون عليه”. تضيف مريم.
وقد قوبلت تلك الخيام التي أقامتها الأونروا لإيواء مئات النازحين برفض وزارة الصحة في القطاع، وهذا ما أكده المتحدث باسم المكتب الإعلامي الحكومي بغزة؛ حيث حذر من الخضوع لأوامر الاحتلال الإسرائيلي الذي يسعى لتهجير الفلسطينيين، وأضاف: إن دور الأونروا ليس إقامة خيام لمن يقتل ويذبح، ولمن ينزح داخل قطاع غزة استعدادًا لتهجيره خارج القطاع؛ بل المطلوب من هذه الوكالة هو أن تتحمل مسؤولياتها كجزء من منظومة الأمم المتحدة في حماية هؤلاء النازحين، بالإضافة إلى توفير كل مقومات الصمود والعيش ليبقوا في منازلهم أو في مناطق قريبة منها، وليس امتثالاً لأمر الاحتلال بالتهجير والنزوح.
من جهتها أطلقت الأونروا في التاسع من نوفمبر/ تشرين الثاني الجاري نداء إنسانيًا عاجلاً، ناشدت فيه توفير 481 مليون دولار لتلبية الاحتياجات الإنسانية الحيوية، حتى نهاية العام الحالي للأشخاص المتضررين من الصراع في قطاع غزة والضفة الغربية. وقالت الأونروا في بيان لها إن نصف منازل غزة دمرت أو تضررت بسبب “القصف بلا هوادة من قبل القوات الإسرائيلية”. وشددت الوكالة على أن سكان القطاع كافة “يتعرضون لعقاب جماعي”؛ مما اضطر حوالي 70% من الأشخاص إلى الفرار من منازلهم، ويعيش 720 ألفًا منهم في ظروف مروعة في ملاجئ الأونروا.
كما أكدت في بيان لها أنّ “المخيم ليس دائمًا، وأنّها وزّعت الخيام والبطانيات على عشرات الأسر النازحة في خان يونس، من الذين لم يتمكّنوا من الإقامة في مرافق أخرى تابعة للأمم المتحدة، بهدف حمايتهم من المطر وتوفير الكرامة والخصوصية”.
وتضمّ غزة ثمانية مخيمات دائمة هي (مخيم جباليا، الشاطئ، البريج، النصيرات، غازي، دير البلح، خان يونس، ورفح)، تحوّلت تلك المخيمات على مرّ السنين إلى أحياء حضرية متهالكة ومزدحمة يسكنهم 600 ألف من أصل مليون وخمسمئة ألف لاجئ فلسطيني في قطاع غزة، البالغ تعداده مليونين ومئة ألف نسمة.
وبعد إنشاء هذا المخيم الجديد بشكل مرتجل في مدينة خان يونس، عبرّ العديد من الاشخاص عبر وسائل التواصل الاجتماعي عن الحزن وعدم التصديق والاستنكار والغضب في جميع أنحاء العالم العربي؛ من بينهم محمود عبد الله، مهندس برمجيات من المملكة العربية السعودية والذي قال: “ما تم إنشاؤه أمر لا يصدق؛ حيث نجد أن الأمم المتحدة مشاركة في هذا الإجرام الذي يحدث في غزة، وهذه الخيام هي أكبر دليل”. ولا يحمل عبد الله في حديثه لـ “مواطن” اللوم على الشعب الغزي بقبول هذه الخيام: “كون ما يمرون فيه صعب وهم على دراية بالوضع الذي يعيشونه”، ولكن يتمنى ألا يشاهد مثل هذه المشاهد مستقبلاً؛ وبشكل خاص خارج قطاع غزة.
وعما تقدمه بلدية خان يونس لهذا المخيم قال مسؤول الإعلام في لجنة الطوارئ ببلدية خان يونس، صائب لقان: “إنه ومنذ بدء العدوان الإسرائيلي على أبناء شعبنا في قطاع غزة، تقوم البلدية بتقديم الخدمات الأساسية للسكان، والحفاظ عليها قدر المُستطاع في ظل صعوبة الظروف الميدانية؛ سيما وأن الاحتلال يعمد خلال قصفه المتواصل على المنشآت السكنية إلى تدمير كل مقومات الحياة”.
وأضاف لـ “مواطن“: “إن فرق الطوارئ بالبلدية تساند فرق الدفاع المدني في التعامل مع البيوت المستهدفة وانتشال الشهداء والمصابين وفتح الشوارع المغلقة”.
وأهم ما تقدمه بلدية خان يونس لهذا المخيم وغيره من مراكز الإيواء وفق “لقان“، أنها تجمع النفايات بشكل يومي وترسل عمال النظافة إلى المخيم لتنظيفه ومتابعة أموره البيئية، كما قامت بتوصيل وضخ المياه لهذا المخيم بشكل منتظم وغيره من مراكز الإيواء، كما أنها ترسل تنكات المياه الصالحة للشرب إلى المخيم لتزويد السكان فيه بشكل يومي. كما لا تدخر بلدية خان يونس جهدًا من أجل ضمان استمرارية تقديم خدماتها الأساسية للمواطنين، ومساندتهم في ظل الظروف الراهنة التي خلفها العدوان، وبشكل خاص اللاجئون والأماكن المتواجدون فيها.