تحلية المياه "الخضراء":
كيف نحل أزمة المحلول الملحي؟
تحقيق: إيمان منير
تحقيق: إيمان منير
هذا التحقيق هو الجزء الرابع من سلسلة تحقيقات "ثمن الماء العذب في الخليج العربي" والتي أنتجت بالشراكة مع شبكة التقارير المحيطية التابعة لمركز بوليتزر(ORN).
بات من المعلوم أن المحلول الملحي الناتج عن عمليات تحلية المياه يشكل تحديًا بيئيًا خطيرًا، يهدد الموارد البحرية والنظم البيئية. قصص الصيادين والمجتمعات المحلية والباحثين الذين التقتهم "مواطن" أثناء إنتاج سلسلة تحقيقات: "ثمن الماء العذب في الخليج العربي"، سلطت الضوء على حجم المشكلة، ولكن في المقابل، تفتقر هذه الأزمة إلى استراتيجيات حاسمة أو حلول عملية يمكن تطبيقها على نطاق واسع.
على مدار عام كامل، أجرت "مواطن" حوارات مكثفة مع نحو عشرين باحثًا وعالمًا متخصصًا في تكنولوجيا تحلية المياه، معظمهم قد أمضى سنوات طويلة في العمل داخل دول الخليج الست. كما شاركت في فعاليات مؤتمرات متخصصة، أبرزها مؤتمر "Euromed 2024 – التحلية من أجل مياه وطاقة نظيفة"، الذي نظمته الجمعية الأوروبية للتحلية (EDS) بمدينة شرم الشيخ، مصر خلال الفترة من 6 إلى 9 مايو 2024.
شهدت أيام المؤتمر زخمًا كبيرًا، والكثير من الأوراق العلمية التي قدمها الباحثون، سعيًا لإيجاد حلول فعّالة لمشكلة المحلول الملحي الناجم عن عمليات التحلية. غير أن هذه الحلول، وفق ما رصدته "مواطن" وما أكده خبراء، ظلت حبيسة الأدراج الأكاديمية، ولم تجد طريقها إلى التطبيق إلا في مشروعات محدودة وبسيطة.
أجمع الباحثون الذين التقتهم "مواطن" على أن أزمة "المحلول الملحي" معروفة من قبل الحكومات، وهناك سعي واضح لحل هذه الأزمة. يشرح كارلوس دوارتي، أستاذ علوم البحار في جامعة الملك عبدالله للعلوم والتقنية (KAUST): أن الاتجاه الحالي في مجال تحلية المياه يركز على البحث عن نهج يتجنب تصريف المحلول الملحي تمامًا. ويعود ذلك إلى الرغبة في تجنب التأثيرات البيئية السلبية، فضلًا عن السعي وراء كفاءة أعلى في استخراج المياه العذبة.
وفقًا لورقة بحثية منشورة عام ٢٠٢٣ بمجلة "الموارد المائية والصناعة"، بعنوان "حوكمة تحلية المياه وإدارة المحلول الملحي: مراجعة وتنظيم القضايا التنظيمية والاجتماعية والتقنية"؛ فهناك سبع حلول مقترحة لحل أزمة المحلول الملحي، تندرج تحت ثلاثة قطاعات أساسية، وهي؛
ولكن ورغم تعدد الخيارات، تواجه هذه الحلول تحديات كبيرة على أرض الواقع، تتنوع بين القيود القانونية واللوائح التنظيمية، والتكاليف المرتفعة، وصعوبة الوصول إلى التكنولوجيا اللازمة لتطبيقها.
يمكن استخدام المياه المالحة في الأغراض العلاجية مثل أحواض الاستشفاء.
لا يعالج مشكلة التخلص من المحلول الملحي بشكل كامل.
استخدامه في ري التربة المالحة، أو استعادة الأراضي الرطبة.
قد يؤدي إلى تملح التربة، وهو ما يشكل تحديًا بيئيًا.
تهدف إلى تحويل النفايات السائلة إلى مواد صلبة وإعادة استخدام المياه بشكل شبه كامل.
هذه التقنيات معقدة ومكلفة، وتستهلك الكثير من الطاقة.
تصريف المحلول الملحي في آبار عميقة أو خزانات تحت الأرض.
مكلف وصعب التنفيذ بسبب خطر التسرب والتآكل.
تصريف المياه المالحة في مواقع منظمة تخضع لمعايير بيئية صارمة.
يتطلب تخطيطًا وتنظيمًا دقيقين.
استخدام المحلول الملحي في تخزين الكربون والحد من انبعاثاته.
قد يتطلب تقنيات مكلفة وتجريبية.
استرداد معادن ثمينة مثل الليثيوم أو المغنيسيوم.
معظم التقنيات غير جاهزة للتطبيق التجاري وتحتاج إلى دراسات إضافية.
استغلال الطاقة الناتجة عن اختلاف تركيز الأملاح (تدرج الملوحة).
هذه التقنيات مكلفة وضعيفة الأداء حاليًا.
جمع الأملاح بعد تبخر المياه في برك مخصصة.
قد يلوث المياه الجوفية ويتطلب مساحات كبيرة.
خلط المحلول الملحي بمياه البحر قبل تصريفه.
يقلل من التأثير البيئي، ولكنه لا يحل مشكلة الملوحة بالكامل.
لزيادة كمية المياه المحلاة المستخرجة، وتقليل كمية المحلول الملحي الناتج.
يتطلب تقنيات جديدة أو تعديلات مكلفة على الأنظمة الحالية.
في عمليات التحلية واستبدالها ببدائل صديقة للبيئة.
يتطلب دراسة تأثير البدائل على جودة المياه المحلاة واستدامة النظام.
"لطالما تساءلت عن سبب عدم حل مشكلة "المحلول الملحي"، ربما بسبب كلفتها، ولكن دول الخليج غنية بما يكفي لتحمل تلك الكلفة، خاصة أنها ليست قضية معقدة من الناحية التقنية. وتأكدنا من ذلك عندما أنشئت محطات تحلية جديدة مثل محطة "أم الحول"، بتقنيات أقل تلويثًا وقمنا بمراقبتها؛ فلم نجد هناك أي أثر لها؛ حيث استخدمت تقنيات مثل التبخر والتخفيف لمعالجة المحلول الملحي، وجعل تأثيره أقل ضررًا. ولكن، تكمن المشكلة في عدم استثمار محطات التحلية في هذه التقنيات؛ خاصة في دول الخليج التي تحتوي على أكبر نسبة من محطات التحلية في العالم.
ويضيف السعيدي: التحدي الأكبر يكمن في البنية التحتية الحالية، حيث يصعب إدخال تقنيات جديدة في المحطات الضخمة، دون التأثير على إمدادات المياه. لذلك، تتطلب الحلول تدخلًا تدريجيًا وتحديثًا للبنية التحتية، مع التركيز على تحسين تقنيات التخفيف.
يشير العديد من الباحثين ممن تواصلتْ معهم "مواطن"، أن تغيير التكنولوجيا يمكنه أن تحل أزمة المحلول الملحي الناتج عن محطات تحلية المياه، ولكن ما قد يعوق الاستفادة الكاملة منها، هو غياب اللوائح التنظيمية الصارمة التي تضمن استدامة النهج الأخضر. تختلف الأدوات التنظيمية الخاصة بإدارة ملوحة المياه المالحة بين الدول، تبعًا للمتطلبات البيئية والظروف المحلية. إلا أن هناك نقصًا ملحوظًا في اللوائح التنظيمية في منطقة الخليج.
يقول "السعيدي": "نحن بحاجة إلى وضع معايير واضحة وفعّالة، وكذلك إلى مراقبة تطبيق هذه المعايير. لكن إذا نظرنا إلى الأدبيات المتوفرة لدينا، نلاحظ أنه من غير المتبع دائمًا الالتزام بتلك المعايير بشكل صارم، حتى لو كانت هناك معايير موجودة في بعض الدول مثل المملكة العربية السعودية؛ فهي بحاجة إلى مراقبة فعالة، مع ضرورة تحديد ما يجب فعله في حال عدم الالتزام بهذه المعايير.
يضيف "السعيدي"، قمنا بمراجعة بعض الدراسات، ووجدنا أن التنظيم البيئي كان المحرك الرئيس لتطوير التكنولوجيا؛ فبمجرد أن تفرض على محطات تحلية المياه الالتزام بالحدود البيئية وتقديم خطط مراقبة، يتحول هذا إلى عنصر تكلفة مهم بالنسبة لهذه المحطات، وبالتالي يحفزهم على الابتكار. هذا يشمل تقنيات جديدة أو حتى استخراج المعادن من المياه المالحة وبيعها. وهذا بدوره يؤدي إلى تطور التكنولوجيا.
ويقول: في الخليج، نحن بحاجة إلى تعزيز هذه الأنظمة البيئية، لكن كصانع سياسات، يجب أن ندرك أن الواقع مختلف؛ فهناك مدن مثل الرياض وأبو ظبي ودبي تعتمد على عدد قليل من المحطات لتلبية احتياجاتها. لذلك، من الممكن العمل بشكل وثيق مع هذه المحطات، لأن عددها محدود، ولكن لا يمكننا فرض تشريعات بيئية صارمة، إذا كانت تلك المحطات غير قادرة على تنفيذها عمليًا.
وضحت ورقة بحثية عمل عليها السعيدي عام ٢٠٢٣، أن هناك ست طرق تنظيمية شائعة في العالم للتعامل مع المحلول الملحي بطريقة تنظيمية.
المصدر: ورقة بحثية Governing desalination, managing the brine: A review and systematization of regulatory and socio-technical issues
ينبّه السعيدي أنه من المهم تذكر أن القوانين واللوائح على الورق، لا قيمة لها إذا لم يكن هناك آلية فعّالة لإنفاذها. لذا يجب أن نتجنب فرض قوانين غير قابلة للتنفيذ، وأن نركز بدلاً من ذلك على دعم هذه المحطات تدريجيًا، وتطوير البنية التحتية للمياه بشكل شامل. يجب أن يشمل هذا ليس فقط الإنتاج، ولكن أيضًا إعادة الاستخدام والتخزين. من خلال هذا النهج التدريجي، يمكننا دعم محطات تحلية المياه وتحفيزها على تحسين استدامتها البيئية، دون التأثير بشكل سلبي على سير العمل، أو زيادة الأعباء بشكل مفاجئ.
قبل أربع سنوات، أطلقت جامعة الملك عبد الله للعلوم والتقنية (كاوست)، بالتعاون مع شركة ريد سي جلوبال، تحديًا لأفضل كليات الهندسة في جميع أنحاء العالم، يُدعى "عقول من أجل محلول ملحي"، للحصول على أفضل الأفكار لاستخدام المحلول الملحي. وقد ساهم بأكثر من 125 فكرة. وكان الفائز بالمركز الأول هو مشروع "تشكيل المستقبل بالملح"، الذي اقترح حلاً دائريًا للمحلول الملحي، باستخدام التكنولوجيا لإنشاء مادة بناء جديدة وصديقة للبيئة. كما استلهمت أيضًا من حل يتضمن توصيل محلول ملحي إلى البحر الميت، المتصل بنظام الصدع الذي يستمر شمال خليج العقبة. إن البحر الميت يشهد خسارة كبيرة في الحجم، وهي مشكلة كبيرة في المنطقة، بسبب عمليات سحب المياه من الحوض، ويبلغ مستوى سطحه حوالي 470 مترًا تحت مستوى سطح البحر.
يرى "كارلوس دوارتي،" أنه مع ملوحة تبلغ 250 جرامًا من الملح لكل لتر من الماء، فإن إضافة محلول ملحي من شأنه أن ينعش البحر الميت ويعوض خسارة الحجم، في حين أن فرق الارتفاع سيمكن الجاذبية من نقل المحلول الملحي الناتج. وعلى الرغم أن هناك تحديات جيوسياسية واضحة للقيام بذلك، ولكن مع ذلك؛ فإن الحل مثير للاهتمام وقابل للتطبيق من الناحية الفنية.
ويوضح دوارتي: "الغرض الأساسي من تحلية المياه، وهو الحصول على المياه العذبة كمنتج رئيسي؛ فالمياه المستخلصة من البحر في شبه الجزيرة العربية تحتوي على نحو 40 جرامًا من الأملاح لكل لتر، بينما يتراوح تركيز المحلول الملحي المفرغ ما بين 70 إلى 80 جرامًا لكل لتر. وهذا يعني أن كل لتر من مياه البحر المضخوخة يحتوي على 960 جرامًا من المياه الخالية من الملح، بينما يحتوي المحلول الملحي المفرغ على 920 جرامًا. وبالتالي، يُستخرج من كل لتر من مياه البحر حوالي 40 جرامًا فقط من المياه العذبة".
ويضيف: "إذا كان بالإمكان استغلال كل الأملاح الموجودة في مياه البحر؛ فسيمكن ذلك من استخراج جميع المياه العذبة المرتبطة بها، مما سيؤدي إلى تقليل كميات مياه البحر التي يجب ضخها، إضافة إلى التقليل من المخاطر المرتبطة بإعادة المحلول الملحي إلى المحيط".
ويؤكد دوارتي أن البحث في كيفية استخدام المحلول الملحي كموارد خام سيكون له فوائد كبيرة؛ خاصة لدول الخليج التي تنتج أكثر من نصف إجمالي المياه المحلاة في العالم؛ ما يشكل تحديًا كبيرًا على مستوى استهلاك الطاقة في المنطقة.
العودة للصفحة الرئيسية