تُعد دول مجلس التعاون الخليجي من بين الأكثر استقرارًا فيما يخص منظومة الأمن الغذائي، وذلك بفضل مواردها المالية الضخمة التي تضمن لها استقرار الإمدادات الغذائية، ومع ذلك فإن هذه الدول تواجه العديد من التحديات الجغرافية والمناخية ومحدودية موارد المياه على المستوى الداخلي، إضافة إلى مخاطر تأمين سلاسل التوريد واضطرابات الأسواق العالمية والظروف الجيوسياسية التي تجعل الدول المُستوردة للغذاء أكثر عُرضة للأزمات.
وهو ما ظهر مع جائحة كورونا في عام 2020، واتباع معظم دول العالم للإجراءات الاحترازية تسبب في تعطیل بعض سلاسل الإمداد وتقیید حركة التصنيع، ثم اشتعال الحرب الروسية الأوكرانية التي كان لها تأثير مباشر على منظومة الأمن الغذائي العالمي، نتيجة تعطل سلاسل الإمداد الغذائية؛ ما أدى إلى ارتفاع معدلات التضخم وزيادة أسعار الغذاء إلى مستويات غير مسبوقة، وتقليل القوة الشرائية للمواطنين. ومن المرجح أن تظل أسعار المواد الغذائية في ارتفاع دائم، ولا يتوقع أن تعود في المستقبل إلى سابق عهدها، وذلك بدعم من الفجوة بين الطلب العالمي، والمعروض من السلع الغذائية.
وتعتمد الدول الخليجية خلال الأزمات على ما تمتلكه من مخزونات ھائلة للمواد الغذائية، والتي عادة ما تكفي لفترات طويلة تصل إلى عام، بالإضافة إلى استخدام الموارد المالية المتوفرة لديهم في ضمان استمرار تدفق الإمدادات الغذائية، حتى مع الارتفاع غير المسبوق في الأسعار؛ ما جعلها تتمكن من تقليل التأثيرات السلبية على الأمن الغذائي، وكانت الدول الخليجية ضمن أقل دول العالم في مؤشرات التضخم.
كما تعتمد محددات الأمن الغذائي على ما لدى الدولة من خصائص جغرافية ومناخية، ووفرة المصادر المائیة، إضافة إلى وفرة الأراضي الزراعية والمراعي والثروة الحيوانية، ووفرة الموارد البشرية والتقدم التكنولوجي. ولسوء الحظ؛ فإن دول مجلس التعاون الخليجي الغنية بالنفط تُعاني من محدودية مواردها المائية؛ حيث تُعد من أكثر مناطق العالم جفافًا، بسبب البيئة الصحراوية القاسية للمنطقة، كما تتسم بانخفاض وعدم انتظام في هطول الأمطار، إضافة لمعدلات تبخر عالية، مما يجعل المياه العذبة المتجددة موردًا نادرًا في دول الخليج.
شحّ الأراضي الزراعية في دول الخليج
أثر كل ذلك على شُح الأراضي الصالحة للزراعة؛ حيث تُعد أكثر من 95 من الأراضي في منطقة شبه الجزيرة العربية عرضة للتصحر، ووفقًا لورقة تحليلية صادرة من جامعة نايف العربية للباحثة صدفة محمد؛ فإن دول مجلس التعاون لديها أدنى حصة من الأراضي الزراعية في المنطقة، بنسبة 1% فقط من الأراضي الصالحة للزراعة، وهي أقل من المتوسط العالمي البالغ 10%.
وفي حديث مواطن مع الباحثة في العلاقات الدولية وصاحبة الدراسة المذكورة، تقول إن دول الخليج تُعاني من ظروف مناخية قاسية لا تمكنها من إنتاج ما يكفي من الغذاء لمواطنيها، وذلك بسبب ندرة المياه وارتفاع تكاليف توفيرها؛ ما يضع متخذي القرار في هذه الدول أمام ضغوط كبيرة من أجل توفير الغذاء اللازم بكميات كافية وبشكل مستقر.
وقد ركزت السياسات الاقتصادية في معظم الدول الخليجية على دعم التنمية الزراعية بهدف تحقيق الأمن الغذائي، والوصول للاكتفاء في بعض المحاصيل الغذائية. وحققت تلك السياسة نجاحًا نسبيًا حينها، إلا أنها جاءت على حساب السحب الجائر للمياه الجوفية، بسبب نوعية المحاصيل المزروعة، والتي كانت عالية الاستهلاك للمياه، مثل الحبوب والأعلاف، إضافة إلى استخدام طرق الري التقليدية ذات الكفاءة المنخفضة؛ ما أدى لاستنزاف كميات ضخمة من مخزونات المياه الجوفية غير المتجددة.
ويعتمد القطاع الزراعي في دول مجلس التعاون الخليجي على المياه الجوفية بنسبة تصل إلى 87%، ولذلك كان إدراك الدول الخليجية لمحدودية مواردهم المائية، وتقليص المملكة حينها الزراعة عن طريق المياه الجوفية، وأوقفت زراعة السلع التي تستهلك الماء بكثافة، لتعتمد هي وسائر دول مجلس التعاون بشكل شبه كلي على استيراد السلع الأساسي الغذائية من الخارج، والاستثمار بالزراعة في الخارج.
كما يرى د. وليد الزباري أستاذ موارد المياه في جامعة الخليج العربي، وفي حديثه مع مواطن، أن حل هذه المشكلة يأتي من خلال استخدام التقنيات الزراعية الحديثة والزراعة الذكية لرفع كفاءة الري، ورفع إنتاجية المياه للحد من استنزاف المياه وتقليل خسائر ما بعد الحصاد، كما أن إنتاج الغذاء محليًا سيكون عبر دعم البحث والتطوير.
وفقًا لأحدث تقارير البنك الدولي الخاصة بالأمن الغذائي؛ فإن الصراع والمناخ والاقتصاد هي المحركات الرئيسية لانعدام الأمن الغذائي، ولقد غيرت جائحة كورونا والحرب الروسية الأوكرانية الأنماط العالمية للتجارة والإنتاج الغذائي، وعلى سبيل المثال؛ فقد قامت كازاخستان، وهي ثاني أكبر مورّد للدقيق في العالم بوقف صادراتها للخارج خلال الجائحة، وأوقفت فيتنام ثالث أكبر مصدّر للأرز في العالم صادرتها، ومع اشتعال الحرب الروسية الأوكرانية بين أكبر موردي الغذاء في العالم، سارعت 21 دولة بفرض حظر كامل على صادرات المواد الغذائية والأسمدة؛ في حين قيدت 6 دول تصدير بعض المنتجات الزراعية، وهو الأمر الذي أدى إلى حظر نحو 11% من أسواق السعرات الحرارية العالمية.
إذ دفعت التأثيرات التي أحدثها الوباء الحكومات والمستهلكين العاديين، إلى تخزين وتأمين المواد الغذائية، ومنذ ذلك الحين أدركت جميع الدول أن قطاع الموارد الغذائية هو قطاع استراتيجي؛ حيث تعزز هذا الإدراك بشكل أكبر مع بداية الحرب الروسية الأوكرانية، وبسبب اضطراب وخسائر سلاسل الإمداد للأنظمة الغذائية؛ فقد أصبح هناك المزيد من التعقيدات والتحديات أمام كل دولة تسعى إلى إطعام سكانها، كما تضخمت أسعار الغذاء إلى مستويات غير مسبوقة
وهو ما يتفق معه د. وليد الزباري؛ إذ يقول: “إن اعتماد الدول الخليجية بشكل رئيسي على بلدان العالم في إطعام سكانها يُمثل تهديًا للأمن الغذائي، وذلك بسبب الزيادة المستمرة في الفجوة الغذائية مع تزايد عدد السكان، ومحدودية القدرة المحلية على إنتاج الغذاء في ظل نمط استهلاكي مرتفع، ما يؤدي إلى ارتفاع فاتورة الواردات الغذائية بوتيرة سريعة”.
ووفقًا للبنك الدولي، تستورد دول مجلس التعاون الخليجي ما بين 80%- 90% من احتياجاتها الأساسية، ونجد أن كل كميات الأرز المُستهلكة يجري استيرادها، إضافة إلى 93% من الحبوب و62% من اللحوم و56% من الخضراوات.
وبحسب تقرير المركز الإحصائي لمجلس التعاون لدول الخليج العربية؛ فإنه بالرغم من القوة المالية التي تتمتع بها دول الخليج؛ فإنها أكثر عرضة بشكل دائم لمخاطر الأسعار المتمثلة في تقلب أسعار الواردات، ومخاطر العرض المتمثلة في تعطل أو إيقاف الاستيراد من الخارج.
وترى د. صدفة محمد أن الدول الخليجية خلال الأزمات الأخيرة نجحت في تأمين موارد الغذاء، ولم تتعرض للأزمات التي تعرضت لها العديد من الدول العربية مثل مصر ولبنان، وبالإضافة إلى تمتع هذه الدول بالوفرة المالية اللازمة لاستيراد الغذاء؛ فقد عملت الاستراتيجية الخليجية منذ سنوات طويلة على تنويع شركائها التجاريين الذين تعتمد عليهم في استيراد المواد الغذائية، كما أنها لم تكتف بذلك، وقامت بالاستثمار الزراعي في الخارج من خلال شراء مساحات كبيرة من الأراضي الزراعية.
استراتيجية الزراعة بالخارج
عملت الدول الخليجية وفي مقدمتها السعودية والإمارات، على تحقيق الأمن الغذائي والتغلب على مشكلة محدودية الموارد المائية وشُح الأراضي الزراعية، من خلال نهج واستراتيجية تتضمن الاستحواذ على أراضٍ زراعية بمساحات شاسعة في دول تتمتع بأراضٍ خصبة وموارد مائية، مثل مصر والسودان وأثيوبيا. وذلك بهدف تأمين الغذاء بدون استنزاف الموارد المائية الشحيحة، وباستخدام الثروات المالية الضخمة التي تمتلكها، وصناديق الثروة التي تمتد نشاطاتها إلى معظم دول العالم، إضافة إلى العلاقات السياسية الجيدة مع الدول التي تستحوذ فيها على الأراضي الزراعية.
وقد تمكنت الإمارات من الاستحواذ على مساحة شاسعة من الأراضي الزراعية تصل إلى 4 ملايين و250 ألف فدان في 60 دولة حول العالم، كما استحوذت المملكة العربية السعودية على مساحة مماثلة تُقدر بنحو 4 ملايين فدان في العديد من الدول حول العالم. ويكشف تقرير لمركز “حلول للسياسات البديلة” التابع للجامعة الأمريكية بمصر، عن حيازة شركات سعودية وإماراتية على نحو 450 ألف فدان من الأراضي الزراعية في مصر؛ ما يُعادل نحو 5% من إجمالي المساحة الكلية المزروعة في مصر، منهم 143 ألف فدان تستحوذ عليهم شركة الظاهرة الإماراتية المملوكة لصندوق أبو ظبي السيادي، والتي تمتلك أراضي زراعية في أكثر من 30 دولة أخرى حول العالم، بالإضافة لشركة “جنان” السعودية، والتي تستحوذ على مساحة 153 ألف فدان من الأراضي الزراعية في مصر.
وتسعى السعودية والإمارات إلى أن تساعدها هذه الاستراتيجية في التحوط ضد اضطراب سلاسل الإمداد وتقلبات السوق وارتفاع الأزمات الغذائية، مع السماح بقدر أكبر من السيطرة.
ويُظهر تقرير لجريدة “البيان” التقارب بين سياسة الدولة والأنشطة الاستثمارية، حيث يعرض تجمع من الشركات أطلق عليه: “شبكة شركات الأمن الغذائي الوطنية“، وتضم هذه الشبكة أكثر من 20 شركة إماراتية تستثمر في شراء أو استئجار أراضٍ أجنبية لإنتاج الغذاء للاستهلاك المحلي، وتجلب منتجاتها إلى الإمارات بدون قيود لتوفير الغذاء للمواطنين وإعادة تصدير الفائض منه للخارج وفقًا للتقرير. ويُساهم هذا النهج متعدد الجوانب في تعزيز سلطة الدولة والشركات التابعة لها على إنتاج الغذاء، وهو ما تجلى في كلمة الرئيس التنفيذي لشركة “الظاهرة” الإماراتية، عندما قال: “من المزرعة إلى مائدة الطعام، نحن نسيطر على سلسلة القيمة بأكملها”.
ويرى الكاتب “ميرزا حسن القصاب” في كتاب “ما بعد النفط” أن هذا النوع من الاستثمارات له مخاطر، تتمثل في ظهور أنظمة سياسية جديدة في البلدان التي أجريت فيها الاستثمارات، والتي قد ترفض قبول الشروط والأحكام التي تم التفاوض في شأنها، والخاصة بهذه المشاريع. ومن ناحية أخرى فإن الاستثمار الزراعي في البلدان الغنية بالمياه شكل من أشكال استيراد الأغذية من وجهة نظر الكاتب البحريني.
أما د. وليد الزباري فيرى، أن التعاون والتكامل العربي في إنتاج الغذاء مع الدول التي لديها ميزة نسبية في الزراعة والمياه، وتلك التي لديها الموارد المالية والطاقة، هو من الحلول المجدية والأكثر ضمانًا، إلا أن ظروف العديد من الدول العربية التي تمتلك ميزة نسبية في الزراعة مثل السودان وسوريا والعراق القريبة من دول المجلس غير مستقرة حاليًا.
وفي مصر التي تُعد واحدة من أكبر الدول التي تستحوذ بها الشركات الخليجية على أراضٍ زراعية؛ فقد دفعت أزمة ارتفاع أسعار الغذاء ونقص السلع، إلى قيام الحكومة بفرض حظر على تصدير بعض المحاصيل الزراعية الأساسية مثل القمح والبصل، بالإضافة إلى منتجات غذائية مثل السكر. كما تُعاني السودان هي الأخرى من حرب أهلية دامية؛ ما يهدد بإيقاف أو تعطيل الإنتاج الزراعي الخاص بالمشاريع التي تملكها دول الخليج. وتُشير التقديرات إلى امتلاك الإمارات مساحة تُقدر بنحو 400 ألف فدان، مخصصة للأعمال التجارية الزراعية.
استدامة الغذاء في دول الخليج
يواصل الطلب العالمي على الغذاء بالارتفاع، مع استمرار زيادة عدد السكان، وتُشير دراسة أجرتها جامعة بيل الأمريكية في عام 2015، إلى أن هناك 21 سلعة أساسية تُغذي العالم قد بلغت ذروة الإنتاج بالفعل، ومنهم الأرز الذي بلغ ذروته عام 1988، وبلغ كل من الحليب والقمح ذروته عام 2004، وبلغت ذروة الدجاج في عام 2006 واللحوم في عام 1996. لذلك من المتوقع أن تستمر أسعار المواد الغذائية الغذاء في الارتفاع.
وتشير ذروة الإنتاج إلى النقطة التي يبدأ عندها نمو المحصول أو الحيوان أو أي مصدر غذائي آخر في التباطؤ، وليس النقطة التي ينخفض عندها الإنتاج فعليًا. ومع هذا، يعتبر ذلك بمثابة إشارة رئيسية إلى أن انخفاض الإنتاج مسألة وقت، على الرغم من أنه من غير الواضح كم من الوقت يمكن أن تستغرق العملية.
وتُشكل العناصر السابقة الفئة الغذائية الأعلى استهلاكًا في دول مجلس التعاون الست؛ حيث يُعد الأرز والقمح عنصرين رئيسيين. لذلك فإن الاعتماد الكبير على واردات الغذاء يجعل الخليج أكثر عرضة لتقلبات الأسعار، ورهن السياسات المتغيرة في الدول المُصدرة.
ويتفق الخبراء الذين تحدثت معهم “مواطن” على التهديدات التي تُمثلها التغيرات المناخية على الأمن الغذائي لدول مجلس التعاون؛ إذ يقول د. وليد الزباري: “مع ارتفاع درجات الحرارة في الكرة الأرضية سيزيد الطلب على المياه في القطاع الزراعي بسبب زيادة البخر، وكذلك ستزداد الحالات المتطرفة للمناخ من سيول وجفاف مع الوقت، وفي الحالتين ستؤدي إلى العديد من المخاطر على عملية إنتاج الغذاء؛ سواء في دول المجلس أو خارجها، لذلك تتوقع د. صدفة محمد الباحثة في العلاقات الدولية، أن تقلص إنتاج المحاصيل الزراعية سيدفع العديد من الدول إلى تقييد وحظر صادراتها من السلع الغذائية”.
ومن ناحية أخرى، يرى “الزباري” أن الاعتماد الكبير على الواردات يحمل معه تحديات كبرى، أولها المخاطر الجيوسياسية؛ حيث يمر الغذاء إلى دول المجلس بواسطة الشحن البحري بثلاث مضائق؛ قناة السويس وباب المندب ومضيق هرمز، وفي حال وجود أي مشكلة سياسية يمكن أن يؤثر ذلك على تدفق الغذاء.
لذا تكمن المخاوف من أن قدرة الدول الخليجية على تأمين إمدادات الأغذية مرهونة بالإيرادات التي تجنيها من النفط، على الرغم من أن عائدات النفط قد مكنت دول الخليج من تفادي أية أزمات غذائية، إلا أن استمرار تدفق واردات الغذاء لن يكون مضمونًا إلا بتدفق إيرادات تصدير النفط؛ ما يعني أن انخفاض أسعاره سينعكس على انخفاض الإنفاق الحكومي، ويُقید قدرة الدولة على استيراد الغذاء، ما يهدد مستقبل دول مجلس التعاون في المستقبل.
hiI like your writing so much share we be in contact more approximately your article on AOL I need a specialist in this area to resolve my problem Maybe that is you Looking ahead to see you