هل تتسع ذاكرة الفلسطينيين للمزيد من الإجرام الإسرائيلي؟.. الحرب في غزة وتجليات الصدمة الاستعمارية
أمام الدماء التي تسيل والأشلاء التي جُرفت مع دمار البيوت … أمام الأجساد التي رُصفت جنبًا إلى جنب بدون اسم او تاريخ … أمام الثكالى اللاتي لا يعرفن شيئًا عن أحبائهن…أمام المصابين الذي يفترشون الأرض … والأطباء الذين استخدموا ما تبقى في المحال من مواد تنظيف لتعقيم الجراح … أمام آهات الأطفال الذين بترت أطرافهم بدون مسكنات … وصراخ المحروقين منهم والمولودين دون أن يبصروا النور … أمام مرضى السرطان ومرضى غسيل الكلى … أمام كل ثانية تمر لدى قلوب المفجوعين ساعات.
أمام كل هؤلاء… هل يمكن الكلام عن الوضع النفسي للشعب في غزة؟
قالت الصحافية الغزاوية سُميّة أبو عيطة: “أهل غزة مثل فاكهة الصبر، الظروف القاسية أنبتت لهم أشواكًا، لكن قلوبهم حلوة جدًا..”، قد يُلخص هذا التعبير قصة أهل غزة مع الحياة وحكاية الشعب الفلسطيني، مع الوقت الغادر الذي لم يُسعفهم يومًا لاستعادة إنسانيتهم أمام وحشية الاحتلال؛ فكلما حاولوا استرداد بعض من حقوقهم، كان الشيطان متربصًا لهم.
تكثر المشاهد التي تُربك المراقبين لفهم التداعيات النفسية التي تخلّفها الحروب المستمرة على قطاع غزة؛ فالسيدة التي تُلملم كتب ودفاتر أطفالها من تحت ركام منزلها، تصرخ أمام كاميرات الصحافيين: “رح علّمهم في الخيمة… رح علّمهم”، والرجل الفلسطيني الذي يبحث عمّا تبقى من ذكرياته في بيته المهدّم وهو يُرنّم أغنية الثورة: “أنا صامد صامد، أنا صامد لو هدموا بيتي أنا صامد، لو قتلوا ولادي أنا صامد، “والمرأة التي تهزأ من الصحافيين قائلة: “نحنا مش فرجة لحدا..”
مشاهد لا تُعد ولا تحصى، تتفاوت بين قوةٍ وخوفٍ وتمرّدٍ وانكسارٍ وصمودٍ وصدمةٍ وتجاهلٍ وحزن، ولكنّها جميعًا تعكس المشاعر الإنسانية في ذروة المعاناة؛ فكيف تّفهم الاستجابات النفسية للشعب الغزواي بعد ما شهده ويشهده خلال العدوان الحالي على أرضه ووطنه.
ما تعريف الصدمة الجماعية؟
وفق تعريف الجمعية الأمريكية لعلم النفس؛ فإنّ الصدمة الجماعية هي حدث أو سلسلة من الأحداث تؤثر على مجموعة من الأشخاص، وعادةً ما ترتبط بأنواع مختلفة من القمع أو التمييز تجاه مجموعة الأقلية من قبل مجموعة مهيمنة، وتضعهم أمام مواجهة مصير مشترك، ويتفاوت تأثيرها حسب مدتها وشدتها وظروف السكان الذين يتعرضون لها، وهي تؤثر على حياتهم اليومية وسلوكهم ونظرتهم للحياة.
تفسّر الدكتورة سماح جبر رئيسة وحدة الصحة النفسية في وزارة الصحة الفلسطينية في مقابلتها مع “مواطن”: “الصدمة في السياق الفلسطيني كصدمة تاريخية كولونيالية، وأولى سماتها أنها جماعية، باعتبارها حدثًا تاريخيًا مهمًا يمسّ مجموعة كبيرة من الناس، بسبب قوة مهيمنة تؤثر على حياتهم، ويتوسع ليشمل كافة الشرائح الاجتماعية، أما السمة الثانية للصدمة الجماعية فتكمن في حصول ارتدادات متكررة بسبب الحدث الصادم الأول، ولها وطأة شديدة، لأنها تؤثر على المسار التاريخي الطبيعي لتلك الفئة الاجتماعية بكل ما تسبّبه لها من المشاكل الصحية والاجتماعية والاقتصادية”.
ردود الأفعال حيال الصدمات الجماعية
عادة ما يتحمّل الإنسان فقدَ أحد أفراد أسرته، أو خسارة بعض من ممتلكاته أو عمله، لكن أهالي غزة فقدوها جميعًا، وهذه التداعيات صعبة وشديدة ومستمرة منذ العام 2005. تُوضّح الدكتورة سماح جبر لـ”مواطن” كيفية استجابات الشعوب عند التعرض للصدمات، تقول: “يوجد آليات دفاعية مضادة للقلق يقوم بها الإنسان بطريقة غير واعية، ولا يمكن مقارنتها بردود الفعل التي يقوم بها المجتمع بعد تعرضه لصدمات استعمارية تاريخية”. مضيفةً: “كثيرًا ما شهدنا خلال الظروف التاريخية الهامة تكاتفًا وتضامنًا كبيرًا بين أفراد المجتمع الفلسطيني؛ حيث يوجد العديد من اللحظات التاريخية التي عبّر فيها الفلسطينيون عن هويتهم وإرادتهم الوطنية، من خلال المبادرات التي نلاحظها بين الناس في غزة، والتي يغلب عليها السلوك التضامني بدلاً للسلوك التنافسي والتدافعي، وفي هذا يُسجّل للغزاويين فضائلهم التي تتغلّب على النزعات الإنسانية المرتبطة بإشباع الحاجات الأساسية، والتي يتعمّد الاحتلال حرمانهم منها”.
تصف الأخصائية النفسية د. سلوى الحاج حسن الشعب الفلسطيني بشعب الجبارين، لأنه أثبت مرارًا أنّه شعب محتسب وصابر أمام عمليات وحشية متكررة، يرتكبها الاحتلال الإسرائيلي بهدف كيّ الوعي وإسكات الصوت الفلسطيني
وفي هذا السياق يحضر تصريح عضوة الكنيست عن حزب الليكود تالي غوتليب عندما قالت: “يجب أن نمنع الأكل والشرب والدواء عن الناس في غز،ة وإلا كيف سنجّند عملاء يخبرون عن بعضهم البعض؟”. هذا التصريح يفسّر حرص الاحتلال على هندسة أدوات وطرق تدفع الناس للقتال على لقمة العيش.
ولكن لا تكتمل الصورة بهذه الإيجابية تضيف “جبر”: “هناك ردود فعل سلبية في المجتمع الفلسطيني بسبب قدرة الاستعمار على تحطيم الهوية القومية، وطبعًا هذا نوع من العدوان الثقافي لمحو التاريخ، وكنتيجة لهذه الممارسات العنفية، قد يفقد بعض الناس علاقاتهم السليمة بمجتمعهم، ويشعرون بالاغتراب وعدم الانتماء، وقد يحاولون التعامل مع الاحتلال كنوع من البحث عن خلاصهم المفقود، وجدير بالذكر أن هذه الظاهرة لا تقتصر على فلسطين؛ بل برزت في الكثير من المجتمعات التي تعرضت للاستعمار مثل الجزائر ولبنان وفلسطين، وكلما كانت فترة الاحتلال أطول، فإنها تمكّن من خرق المجتمعات وتقطيع أواصرها والسيطرة على أفرادها، كل هذا يُظهر أنّ ردة الفعل الإنسانية تتراوح بين مقاومة وصمود واستسلام وخيانة”.
المرونة رغم الظروف القاهرة
تصف الأخصائية النفسية اللبنانية الدكتورة سلوى الحاج حسن لـ”مواطن” الشعب الفلسطيني بشعب الجبارين، لأنه أثبت مرارًا أنّه شعب محتسب وصابر أمام عمليات وحشية متكررة، يرتكبها الاحتلال الإسرائيلي بهدف كيّ الوعي وإسكات الصوت الفلسطيني، وتجزم لمواطن “أنّ صاحب الأرض هو دائمًا الأقوى، لذلك نرى العالم مذهولًا بقدرتهم على التحمل بالرغم من أنّهم يواجهون جيشًا لديه قدرات عسكرية هائلة، ويستخدم ضدهم هذا الكمّ من العنف والإبادة بهدف تهجيرهم وإبعادهم عن أرضهم، وهذا ما لم يحصل ، مؤكّدةً أن أي تجربة مؤلمة تنجم عن صراع عسكري تعتبر صدمة حرب، ومن الواضح أن ما شهده أهل غزة هو صدمات حرب مستمرة ومتتالية، لذلك كان الصمود والمواجهة هما الخيار الوحيد أمام أغلبية السكان”.
في دراسة تحت عنوان “الصدمة الجماعية وجودة الحياة والصمود في روايات الجيل الثالث من أطفال اللاجئين الفلسطينيين“، التي قام بها الباحث فايز عزيز محاميد على عينة من (30) طفلًا، تتراوح أعمارهم بين (14-16) سنة، تم اختيارهم حصرًا من خمسة مخيمات للاجئين الفلسطينيين (بلاطة، عسكر، عين بيت الماء، نور شمس، وجنين)، والتي أنشئت بعد نكبة عام 1948 في الضفة الغربية، أظهرت نتائجها أن هؤلاء الأطفال يظهرون مستوى عاليًا من المرونة والكفاءة الذاتية والإيجابية والمسؤولية في التعامل مع الأحداث الصعبة والمجهدة، على الرغم من التجارب المؤلمة الجماعية التي مروا بها.
مواضيع ذات صلة
تبيّن الدكتورة ” الحاج حسن” لـ “مواطن” كيف أن عامل المرونة مهمّ جدًا من حيث تطوير آليات التكيف الإيجابية بين الأفراد، أي القدرة على التعامل بشكل جيد نسبيًا في المواقف الصعبة، وتلخّص مفهوم المرونة بأنه قدرة الفرد على التأقلم؛ سواء بشكل فردي أو بالتفاعل مع الآخرين، نفسيًا واجتماعيًا وثقافيًا، على الرغم من تعرضه للمحن والظروف القاهرة.
وفي هذا السياق، تركّز دراسة تحت عنوان “تداعيات الضغوط النفسية المرتبطة بالحرب بين الشباب الفلسطيني في قطاع غزة“، نشرها موقع science direct على أنّ تعزيز العلاقات الإيجابية بين الأقران يساهم في زيادة القدرة على الصمود، ويخفف من التأثير السلبي للصدمات المرتبطة بالحرب بالإضافة، إلى ذلك فإن الشباب الفلسطيني يستخدم استراتيجيات للتكيف مع التجارب المؤلمة؛ مثل تطوير الاعتماد على الذات والحصول على الدعم الاجتماعي والدعم الأسري.
ومن هذا المنطلق تجيب الدكتورة “جبر” على سؤالنا حول إذا ما كان الصمود يعتبر مؤشرًا نفسيًا وسياسيًا لصلابة الشعب الفلسطيني، وقدرته على تجاوز الأزمات والصدمات، مشيرةً إلى أنّ: “الصمود ليس حكرًا على الفلسطينيين فقط؛ بل هو مفهوم دينامي يشمل أبعادًا عديدة اجتماعية سياسية اقتصادية ونفسية، ونركّز عليها كأفعال وطريقة حياة تسمح للإنسان بالثبات وتحمّل الصعاب، للمثابرة في البقاء من خلال المرونة والصبر والجلد، لكّنه يعني للفلسطينيين الثبات رغم كل الجهود التي ترمي إلى اقتلاعهم من أراضهم، لذلك يواجه الفلسطينيون الصدمة التاريخية والاحتلال المستمر من خلال هذه الاستجابات، ويزخر الأدب الفلسطيني منذ الاستعمار البريطاني بمفردات الصمود والثورة والمقاومة، والتي انتشرت وشاعت بكثرة خلال نكسة 67 بعد خيبة الأمل بقدرة الجيوش العربية على تحريرهم من الاحتلال”.
الذاكرة الجماعية الأليمة
لم تعد ذاكرة الفلسطينيين تتسع لمزيد من الإجرام الإسرائيلي، تطاردهم ذكريات النكبة، الصراع حول الهوية والأرض والتهديد المرتبط بانتمائهم، ورغم أنهم بعد كل حرب وقمع وعنف ووحشية يستطيعون النهوض مجدّدًا، إلا أن ذاكرتهم تتمسك بكل التفاصيل المؤلمة التي مروا بها، لأنها الدليل على ذكريات وعذابات الشعب الفلسطيني الذي يواجه السردية الإسرائيلية من خلال ما ترويه الجدات والأجداد، عن تفاصيل تشريدهم من بيوتهم، وفي هذا الاطار تشدّد الدكتورة “جبر” على أنّ حياة الفلسطينيين معبأة بالصدمات المتلاحقة، والتي قد تؤدي ببعض الأفراد إلى مرحلة العجز، ولكنها تفسر أن ما نشهده في غزة يعرف بpost traumatic growth، أي نمو ما بعد الصدمة على الرغم من أن ما يحصل الآن هو أصعب مما حصل في إبان النكبة، وليس مقارنة بالأرقام والإحصائيات؛ بل من خلال حجم العدوان ومدته الهائلة أمام مرأى ومسمع العالم، الذي فشل بوقف هذه الابادة وتخفيف الظلم عن كاهل هذا الشعب.
عندما حصل هجوم أكتوبر، برزت تحليلات عديدة تقول إن أطفال حرب 2014 قد كبروا وهم يحملون شعورًا جماعيًا بالخسارة والحزن والغضب، وما حصل في الحروب السابقة لم يكن قابلًا للشفاء، وندباته سترافق الأجيال لأن العالم لا ينسى أبدًا والتاريخ يعيد نفسه، والكرة تتكرر.
هناك ردود فعل سلبية في المجتمع الفلسطيني بسبب قدرة الاستعمار على تحطيم الهوية القومية، وطبعًا هذا نوع من العدوان الثقافي لمحو التاريخ، وكنتيجة لهذه الممارسات العنفية، قد يفقد بعض الناس علاقاتهم السليمة بمجتمعهم، ويشعرون بالاغتراب وعدم الانتماء، وقد يحاولون التعامل مع الاحتلال كنوع من البحث عن خلاصهم المفقود
يقول الدكتور شوقي عازوري، وهو طبيب ومعالج نفسي لبناني لـ “مواطن”: إن “الفلسطينيين يعيشون منذ عام 1948، صدمة لا تتوقف أو تنتهي، وتتجسد بحروب متكررة وتهجير مستمر”. ويضيف إن “الشعب الفلسطيني يرزح تحت وطأة المعاناة النفسية بسبب الصدمات السياسية الجماعية التي يتعرض لها”.
تعتبر الدكتورة “جبر” أنّ الحروب المتكررة والجرائم وسياسة الفصل العنصري والمعابر وتفاصيل الحياة اليومية التي شتّت الأسر عن بعضها في مناطق موزعة بين غزة ورام الله والقدس وغيرها، بالإضافة إلى حرمان الفلسطينيين من هويتهم ومنعهم من اعتماد مناهجهم العربية في المدارس والقضاء على تراثهم، ناهيك عن الأزمات الاقتصادية نتيجة الحصار المفروض وتحكم الاحتلال بموارد السلطة الفلسطينية، أصبحت كلّها جزءًا من يوميات وذكريات الفلسطينيين.
البنية الثقافية والعقائدية لشعب غزة
ترى الدكتورة سلوى الحاج حسن، أنّ الحرب الحالية على غزة لا تشبه سابقاتها، ولذلك يجب النظر إليها بشكل موضوعي وتصنيفها على أنها إبادة وتطهير عرقي لشعب بكل مكوناته ومؤسساته، وتدمير كل ما بناه ودفعه نحو الهاوية، من خلال القضاء على كل شرايين الحياة، من خلال ما يعرف بسياسة الأرض المحروقة، والتي يتعمّدها الاحتلال بهدف كسر إرادة الشعب الفلسطيني بسياسة تجويع ممنهجة؛ حيث يرى المساعدات الغذائية على مقربة منه ولا يستطيع الوصول إليها.
لكنّ قدرته على الصمود والمرونة في مواجهة هذه الظروف يشيران إلى قوة المعنى الذي يتبنّاه هذا الشعب حول معاناته، وإلى قوة إيمانه بالانتماء للوطن وإن كان هذا الإيمان منطلقًا من عقيدة دينية أو قيمة أخلاقية، لذلك فمن الصعب جدًا الحكم على الاستجابة السيكولوجية لهؤلاء الناس، وإن استجابة الإنسان ترتبط بعدة عوامل؛ منها البنية الشخصية والثقافية والعقائدية، لأننا نستجيب عندما ندرك، والإدراك يعتمد على منظومة متكاملة من العوامل المذكورة سابقًا“.
وفي سؤالنا للدكتورة سماح جبر عن دور الدين في الاستجابة النفسية للشعب الفلسطيني، وهل العادات والتقاليد تؤثر على استجابتهم أيضًا؛ خصوصًا أنّ عبارة حسبنا الله ونعم الوكيل نسمعها كثيرًا لدى الأهالي المفجوعين بخساراتهم، تؤكد أنه: “إن القيم الدينية والإيمانية والوطنية -بلا شك- هي الركائز الأساسية في الصلابة النفسية والجلد والصبر والصمود لدى الشعب الفلسطيني، وهذه الكلمات لها عمق ومعنى لمن ينطقها ومن يسمعها، هذه العبارات تساعد الأفراد في تخطي معاناة الفقد، حسبنا الله ونعم الوكيل، وهم يُذكّرون أنفسهم بأن الله كافيهم وهو نعم الوكيل، وأدرك الناس معنى الخذلان والتخلي من الحكومات والشعوب المجاورة.
قد يكون من الصعب تجاوز الصدمة، ولكن بحسب الدكتورة سلوى الحاج حسن المتخصصة بالعلاج النفسي، يجب تفعيل الممارسات الإغاثية؛ فكلما كانت إعادة البناء وعودة مسار الحياة لطبيعته أسرع، وتأمين ظروف حياة كريمة ووصول سهل إلى الحاجات الأساسية، كلما ازدادت نسب التعافي، بالإضافة إلى الضرورة المُلّحة للمواكبة من أطباء ومختصين نفسيين وجمعيات مدنية وجهود رسمية، وقطعًا لا يمكن استعادة الصحة النفسية بدون ضمان الحقوق الإنسانية الأساسية، وعلى رأسها حقه في وطنه وأرضه وتاريخه وثقافته.