من تقارُب مع الإمارات إلى حالة من الفتور، ثم استعادة الاتصالات مع قطر، تسعى تشاد إلى موازنة علاقاتها بحثًا عن تحقيق أكبر استفادة ممكنة، مستغلة في ذلك الخلافات العميقة بين الدولتين الخليجيتين.
فبعد اغتيال الرئيس التشادي السابق إدريس ديبي إتنو في أبريل 2021، خلال مواجهات مع حركة فاكت المتمردة شمال البلاد، أخذت قطر على عاتقها تقريب وجهات النظر بين المجلس العسكري الحاكم للبلاد بقيادة ابن الرئيس محمد ديبي، وبين الحركات المسلحة من خلال مفاوضات سلام استضافتها الدوحة، وكان من مخرجاتها الدعوة إلى حوار وطني ووضع الخطوط العريضة للدستور، الذي تمت صياغته بعد ذلك والموافقة عليه، ولكن بعدها بفترة حول محمد ديبي بوصلة بلاده نحو الإمارات ليبدأ التقارب الكبير بين البلدين محدثًا على إثره فتورًا في العلاقة مع قطر.
تقارُب تشاد مع الإمارات كان له عدة أشكال؛ منها زيارات متعددة قام بها محمد ديبي لأبو ظبي، التقى فيها الشيخ محمد بن زايد رئيس البلاد، كما أرسلت أبو ظبي دعما عسكريًا للجيش التشادي لمواجهة الإرهاب، وبلغت ذروة التعاون مع انطلاق الحرب في السودان بين الجيش وقوات الدعم السريع؛ حيث اتهمت عدة تقارير دولية والحكومة السودانية دولة الإمارات باستخدام الأراضي التشادية من أجل تزويد قوات الدعم السريع بالسلاح.
كما قامت الإمارات بإنشاء مستشفى ميداني في منطقة أم جرس على الحدود مع السودان، ليكون ستارًا لتزويد قوات الدعم السريع بالسلاح عبر مطار أم جرس المحلي، الذي تم تطويره وتجهيزه لاستقبال الطائرات العسكرية، وهو الموضوع الذي فصّلت له “مواطن” تقريرًا سابقًا، ولكن يبدو أن هذه العلاقات يشوبها التوتر في الوقت الحالي؛ فقد علمت “مواطن” من مصادر تشادية أن الرئيس محمد ديبي خلال زيارتين أخيرتين للإمارات لم يتمكن من لقاء الشيخ محمد بن زايد، وما جعل النظام التشادي يحاول إعادة تقوية علاقاته مع قطر.
العلاقات مع قطر
في أبريل الماضي، تلقى تميم بن حمد آل ثاني أمير قطر، رسالة خطية من محمد إدريس ديبي إتنو، الرئيس التشادي، تتصل بالعلاقات الثنائية بين البلدين، وسبل دعمها وتعزيزها، وتسلم الرسالة الدكتور محمد بن عبدالعزيز بن صالح الخليفي، وزير الدولة بوزارة الخارجية، خلال اجتماعه اليوم مع إدريس يوسف بوي، مدير المكتب المدني برئاسة جمهورية تشاد.
جرى خلال الاجتماع استعراض لعدد من القضايا الإقليمية والدولية ذات الاهتمام المشترك، لاسيما تطورات الأوضاع في القارة الأفريقية، وفي شهر مايو، أعلنت وزارة الخارجية التشادية في بيان لها تعيين حسن أليمي تشوناي سفيرًا فوق العادة ومفوضًا لدى دولة قطر، خلفًا للسفير داوسا إدريس ديبي.
يرجع جبرين عيسى، سبب التوتر الذي يشوب العلاقات حاليًا مع الإمارات، والتي وصفها بأنها "تمر بفترة غير جيدة في الوقت الحالي"، إلى أن الرئيس محمد ديبي ذهب إلى أبو ظبي مرتين متتاليتين من أجل بحث تقوية العلاقات مع أبو ظبي، ولكن لم يتم استقباله بالشكل اللائق.
John Doe Tweet
يرى المحلل السياسي القطري صالح الغريب أن قطر ساهمت في تقريب وجهات النظر بين الحكومة التشادية والحركات المسلحة خلال مفاوضات السلام التي استضافتها، والتي نتج عنها اتفاق الدوحة للسلام الذي مهد للحوار الوطني الشامل الذي نتج عنه صياغة دستور جديد للبلاد، وتحديد إطار زمني لنهاية المرحلة الانتقالية للدفع بالبلاد نحو الأمن والاستقرار.
وأضاف ؛الغريب؛ لـ “مواطن”، أن “قطر لعبت دورًا في محاولة الجمع بين الحكومة والحركات المسلحة مختلفة المشارب عبر دبلوماسية ناجحة، تجيد العمل في مثل هذه الملفات شديدة التعقيد، كما حدث في ملفات أفغانستان وغزة، من خلال ذكاء المفاوض القطري المتمرس على مثل هذه الأمور، التي تحتاج إلى إعادة ترتيب الملفات والدفع نحو الحوار بين مختلف الأطراف”.
ويشير الغريب إلى أن “الدول الأفريقية عانت كثيرًا من الحروب والصراعات، ويكفي ما حدث لها، وعليها البحث عن حلول جذرية لمشاكلها بمساعدة دول المنطقة، من خلال حل الصراعات على الحكم”. كما يزعم أن ما تقوم به قطر من جهود لتقريب وجهات النظر، تحاول دول أخرى تخريبه عبر تقديم أموال لبعض الحركات المسلحة كما حدث في السودان وليبيا والصومال وغيرها من الدول التي حاولت قطر إحداث تقارب فيها بين أطرافها المتنازعة.
ويتفق معه المحلل السياسي التشادي جبرين عيسى، بالقول: “إن الهدف من زيارة إدريس يوسف بوي مدير المكتب المدني لرئيس الجمهورية محمد ديبي، كانت لمحاولة تنظيم زيارة للرئيس التشادي قبل الانتخابات الرئاسية التي جرت في مايو الماضي، ولم تتم بسبب عطل فني تعرضت لها الطائرة الرئاسية قبل الإقلاع بوقت قليل”.
وأضاف “عيسى” لـ “مواطن”، أن العلاقات بين تشاد وقطر جيدة والدوحة لعبت دورًا محوريًا في استقرار النظام بعد مقتل الرئيس الراحل إدريس ديبي في 2021 على يد حركة فاكت المعارضة في شمال البلاد، بعدما استضافت المفاوضات بين الحكومة الانتقالية والحركات المسلحة، ولعبت دورًا هامًا في جمع الفرقاء التشاديين عبر مفاوضات الدوحة، وتوقيع اتفاق السلام هناك، ثم ساهمت في دعم الحوار الوطني الشامل الذي عقد في العاصمة إنجامينا في مايو 2022، لذلك أرى أن المجلس العسكري وضع ثقته في الحكومة القطرية.
ويرى أن تطوير العلاقات مع قطر مسألة مهمة للحكومة التشادية الجديدة، وفي فترة اقتصادية صعبة تحاول فيها الحكومة ترتيب أوراقها، وتسعى إنجامينا (العاصمة التشادية) للوصول إلى مرحلة التحالف الاستراتيجي مع قطر، ولدى القطريين فرصة استثمارية كبيرة بعد استقرار الأوضاع وعودة الحكم المدني مرة أخرى، وأن هناك فرصة كبيرة للاستثمارات القطرية في تشاد؛ حيث تمتلك مخزونًا هائلاً من النفط والغاز والمعادن النادرة، بما فيها الكوبالت والألماس واليورانيوم والذهب، والجانبان في حاجة إلى بعضهما بعضًا، وكذلك هناك الموقع الجغرافي لتشاد في مجال الطيران، كما يتوقع أن الزيارة الأولى للرئيس محمد ديبي بعد تنصيبه قد تكون نحو الدوحة.
وأشار إلى أن مغادرة السفير التشادي السابق في الدوحة داوسا إدريس ديبي أتت على خلفية احتياج الرئيس لأخيه غير الشقيق؛ حيث تم تعيينه سكرتيرًا خاصًا لرئيس الجمهورية، وهو من يدير الأمور داخل القصر الجمهوري.
توتر العلاقات مع الإمارات
يرجع جبرين عيسى، سبب التوتر الذي يشوب العلاقات حاليًا مع الإمارات، والتي وصفها بأنها “تمر بفترة غير جيدة في الوقت الحالي”، إلى أن الرئيس محمد ديبي ذهب إلى أبو ظبي مرتين متتاليتين من أجل بحث تقوية العلاقات مع أبو ظبي، ولكن لم يتم استقباله بالشكل اللائق.
وكانت المرة الأخيرة التي التقى فيها محمد ديبي مع الشيخ محمد بن زايد في يونيو 2023، عندما استقبله في قصر البحر، وبحثا مختلف جوانب العلاقات الثنائية بين البلدين وسبل تنميتها، والارتقاء بها لمصلحة شعبيهما، إضافة إلى عدد من القضايا الإقليمية والدولية محل الاهتمام المشترك، بحسب وكالة أنباء الإمارات الرسمية.
مواضيع ذات صلة
وأكد الجانبان خلال اللقاء، الحرص المشترك على تعزيز العلاقات بين الإمارات وتشاد، بما يخدم التنمية فيهما؛ خاصة أن البلدين يمتلكان العديد من فرص التعاون في مجالات الاقتصاد والتجارة والطاقة المتجددة والأمن الغذائي والخدمات اللوجستية وغيرها.
ويفصل المحلل السياسي التشادي، البشير حسن صالح، أسباب التوتر بين الإمارات وتشاد، بالقول: “إنه منذ البداية لم تكن هناك علاقة فعلية بين البلدين، وإنما اتفاق لقرض معيّن مقابل الأرض أو النقل “المطارات” (مطاري أبشي وأم جرس الدولي)، ليكونا داعمين لقوات الدعم السريع حتى يصلهم المدد بالسلاح”.
وأضاف “صالح” لـ “مواطن”: “هذه كانت في بدايات الحرب السودانية، لكن فيما بعد تغيّر الحال واستطاعت قوات الدعم السريع أن تسترجع عدة مناطق في دارفور، وأعادوا فتح المطارات “الجنينة ونيالا والضعين”، وهناك مطارات أخرى في ولايات دارفور وكردفان تعمل الآن، وأصبحت قوات الدعم السريع ليست بحاجة إلى مطار من منطقة أخرى خارج السودان لتوفير الإمدادات.
وتابع: “من قبل كانت الإمارات تدعم “ديبي الابن”، لأن قوات الدعم السريع كانت بحاجة إلى مطاري أم جرس وأبشي، أما الآن فليسوا بحاجة إلى المطارين، وكان الرئيس يعتقد أن هذا الدعم سيستمر لفترة أطول، وهذا ما جعله يذهب مرتين إلى الإمارات، لكنهم لم يستقبلوه لأنهم في الأصل لم يكونوا بحاجة لتوطيد علاقات معه، إنما كان دعمه بقليل من السيارات العسكرية؛ “المدرعات” والمشافي الميدانية فقط لتغطية الإمدادات التي تصل إلى مطار أم جرس.
مقاربة جديدة في السودان
بعد فوز محمد ديبي في الانتخابات الرئاسية التي جرت في مايو الماضي، والتي وضعت حدًا للمرحلة الانتقالية، وعادت البلاد للمسار الدستوري بعد 3 سنوات انتقالية، قرر تشكيل حكومة جديدة، كان الأبرز فيها تعيين المتحدث باسم الحكومة عبد الرحمن غلام الله وزيرًا للخارجية خلفًا للوزير محمد النظيف؛ في خطوة يراها محللون أنها تأتي ضمن مقاربة تشادية للحرب في السودان؛ حيث أن “النظيف” لم يكن يتمتع بعلاقات جيدة مع الحكومة السودانية، وشهدت فترة الأخيرة تلاسنًا بين البلدين، بينما غلام الله، وهو من أصول جعلية سودانية، هاجر والده إلى تشاد في الأربعينات، ومعروف عنها ميله لموقف الجيش السوداني.
تراقب إنجامينا عن كثب تطورات الساحة السودانية، وما ستؤول إليه الأمور؛ خاصة بعد مقتل "اللواء علي يعقوب"، وتسريب وثائق أمنية خاصة أبرزت حجم الانشقاق والتخاذل الذي أحاط بفرق المليشيات
John Doe Tweet
ويرى المحلل السياسي التشادي سعيد أبكر، أن هناك عدة أسباب لقيام محمد ديبي بالتخلي عن وزير الخارجية السابق، على رأسها رغبته في تلطيف الأجواء مع السودان بعد أشهر طويلة من التوتر، لعب فيها النظيف دورًا مهمًا، ووصلت العلاقات التشادية السودانية إلى منحدرٍ خطير.
وبعد أيام من توليه المسؤولية، اجتمع غلام الله، مع طالب بن محمد المنخس، سفير دولة قطر لدى تشاد، لبحث المجالات ذات الاهتمام المشترك وتقوية العلاقات بين البلدين.
بدورها ترى الدكتورة أمينة العريمي، الباحثة الإماراتية في الشأن الأفريقي، أن إنجامينا تراقب عن كثب تطورات الساحة السودانية، وما ستؤول إليه الأمور؛ خاصة بعد مقتل “اللواء علي يعقوب”، وتسريب وثائق أمنية خاصة أبرزت حجم الانشقاق والتخاذل الذي أحاط بفرق المليشيات، بعد إطلاق “يعقوب” نداء رجاء واستغاثة، تبين بعد ذلك أن صداه لم يتعد حدود حواس اللواء الخمسة؛ في إشارة واضحة على وجود قصور وارتباك وضعف بات يطال مستوى تأمين قادة الدعم السريع.
وأضافت العريمي؛ في مقال لها، أن هناك حالة من الترقب للوقت الذي سيبدأ فيها الرئيس محمد ديبي تنفيذ وثبة الإقدام “المؤجلة”، للحفاظ على خط رجعة مع الخرطوم قبل فوات الأوان، وهذه حقيقة قالها ويقولها ديبي الابن وإن لم ينطق بها؛ فإذا كان هناك توافق مشترك بين الرئيس والشعب التشادي؛ فهو توافقهم الكامل على خطورة الدعم السريع على مستقبل الدولة التشادية والجوار الإقليمي لها، وضرورة اجتثاثها والقضاء عليها، ولكنها التقاطعات التي فرضت واقعًا مختلفًا لا تريده تشاد، ولا يريده رئيسها ولا يريده شعبها.
وتابعت: “في ظل التقارب السوداني الروسي، وقناعة الخرطوم بتطوير رؤيتها لمفهوم الأمن الإقليمي، والتوجه غربًا لدول الساحل الإفريقي مؤخرًا، والذي لاقى ترحيبًا تشهد له الأوساط الشعبية في تلك الدول، أرى أن ذلك سيساهم قريبًا في إعادة فتح ملف الطلب التشادي للقاء القيادة السودانية، “وهي بلا شك فرصة الخرطوم الذهبية لتولي الدفة”.