في قاعة الطعام الرئيسية بمدينة السينما على ضفاف نهر السين، والتي تحولت (بقُدرة قادر) إلى القرية الأولمبية في باريس، يجتمع الرياضيون والرياضيات من مختلف البلدان قبالة بعضهم البعض، ليتشاركوا أطباق “الفواجرا” الفرنسية، المصنوعة بعناية من أجود أنواع كبد البط والإوز، ويتبادلون القصص والضحكات، وكؤوس الشمبانيا، ويستعدون لافتتاحية الأولمبياد، نعم؛ إنها الأولمبياد يا سادة، المحفل الإنساني العظيم، والمنطقة الوحيدة في العالم التي ستجد فيها كل ذلك التنوع الحضاري والثقافي، وكل تلك التعددية. تلك هي الصورة التي حاول المنظمون لأولمبياد باريس تصديرها للعالم، لكن الحقيقة، ليست على هذا النحو مطلقًا.
لكن الحقيقة أن الإنسان العربي، ليس له مكان في هذا العالم، كما أن المصالح السياسية، وشوارب ضُباط اللجنة الأولمبية، ستظل أقوى من قدرة الإنسان، عامةً، على انتزاع حقوقه، نعم؛ لقد مُنعت اللاعبات المحجبات، (الفرنسيات)، من اللعب في البطولة، رغم أن اللجنة الأولمبية الدولية أقرّت أن الرياضيين/ات يمكنهم تمثيل أنفسهم ودينهم وبلادهم، وبالزي والعادات الملائمة بلا أدنى مشكلة، كما أوضح المتحدث باسم اللجنة الأولمبية في تصريحات لجريدة “رويترز”: “أنه لا توجد أي قيود على ارتداء الحجاب، أو أي ملابس دينية أو ثقافية أخرى خلال الأولمبياد”.
إلا أن الفريق الفرنسي ضربَ بكل تلك الأمور عرض الحائط، وقرر من تلقاء نفسه منع الرياضيات المسلمات من ارتداء الحجاب، وبلا أي أسباب منطقية، وهو الأمر الذي وصفته “منظمة العفو الدولية” بأنه قرار تمييزي ومنافق. كما صَرحت وزيرة الرياضة الفرنسية، أميلي أوديا كاستيرا، لصحيفة “رويترز” تقول فيها: “إن مبادئ البلاد وقواعدها تعمل على صد أي محاولة لإظهار الرموز الدينية أو الانتماءات العِرقية خلال الأحداث الرياضية، ولذلك سوف يُطبق منع الحجاب على الرياضيات الفرنسيات خلال دورة الألعاب الأولمبية”، ويأتي ذلك القرار متناغمًا مع ثلة من القرارات المتحيزة ضد النساء المسلمات، قد انتابت فرنسا منذ فترة بعيدة؛ حيث حظرت الحكومة الفرنسية ارتداء الحجاب في المدارس العامة منذ عام 2004.
"المسيرة النسائية إلى فرساي"
"جاء في بيان منظمة العفو الدولية، أن السلطات الفرنسية بشكل قاطع ودون خجل، أن جهودها المعلنة لتحسين المساواة بين الجنسين، والشمول في الرياضة، لا تنطبق على مجموعة واحدة فقط من النساء والفتيات، ألا وهنّ المسلمات المحجبات".
الغريب أن تلك العنصرية الواضحة، لم تمنع اللجنة المنظمة من اختتام دورة الألعاب الأولمبية هذا العام بحدث مذهل، ألا وهو سباق الماراثون النسائي الذي سيقام على نفس خطا مسيرة النساء إلى فرساي عام 1789، حين انطلقت حوالي 8 آلاف امرأة باريسية بمسيرة ضخمة نحو قصر فرساي لملاقاة الملك لويس السادس عشر، مطلقين أعنة السيوف والخيول والبنادق، ومطالبين بالمساواة والحرية الكاملة بين البشر. ولكن هل الأمر مقتصر على النساء الشرق أوسطيات فقط، أم النساء عامةً؟
لقد تعذبت كثيرًا، وأنا أرى دمعات اللاعبات المقهورين بفعل فاعل، وعندما قلبت صفحات التاريخ، وجدت أن مسيرة النساء للوصول إلى الأولمبياد أصلًا، كانت أطول من مسيرتهن إلى قصر فرساي، نعم؛ فعندما أُقيمت أول دورة أولمبية عام 1889 في مدينة “أثينا” باليونان، مُنعت النساء عمدًا من المشاركة؛ حيث صرح مؤسس اللجنة الأولمبية الدولية، بيير دي كوبرتان: “أن الألعاب الأولمبية أنشئت لإبراز القدرات الرياضية للرجال بشكل مهيب، أما النساء فليس لهن حق إلا في التصفيق للرجل الفائز”. ولم يسمح لهن بالمشاركة إلا في أولمبياد باريس 1900.
وفي عام 1928، سُمح لهنّ بالمنافسة في ألعاب القوى للمرّة الأولى، لكن جرى استبعادهنّ مرة أخرى لأسباب مختلفة 1968، أهمها الادعاء بعدم قدرتهن على التعامل مع المتطلبات البدنية للماراثون، وبعد مرور أربعين عامًا، مُنعن مرة أخرى من المنافسة في أي سباق تزيد مسافته على 200 متر، وحتى في عام 1976، كانت المنافسات النسائية لا تُشكّل سوى 25٪ من البرنامج الأولمبي.
وعلى مدى السنوات الخمس والعشرين الماضية، وفي وقت أصبحت فيه المساواة بين الجنسين أكثر أهمية من أي وقت مضى، أعادت اللجنة الأولمبية الدولية التأكيد على التزامها بالتوصيات التي تهدف إلى تعزيز التنوع والمساواة والشمول في جميع أنحاء الحركة الأولمبية؛ حيث شُجّعت اللجان الأولمبية الوطنية والاتحادات الدولية لزيادة مشاركة الإناث، كما أضيفت العديد من الأحداث المختلطة لتعزيز التنوع والمساواة بين الجنسين.
وبدءًا من أولمبياد 2018، بُذلت جهود لتحقيق التوازن بين إجمالي عدد ساعات المنافسة للرياضة النسائية والرجالية، والألعاب المختلطة، وبفضل الالتزام المتزايد من جانب اللجنة الأولمبية الدولية، استمرت هذه الأرقام في الارتفاع، لتمثل النساء ما يقرب من 49% من الرياضيين البالغ عددهم نحو 11 ألف رياضي في دورة طوكيو 2020، وفي باريس، ولأول مرة في تاريخ الألعاب الأولمبية، سيكون لدى الرياضيات نفس عدد الأماكن في الألعاب مثل الرياضيين الرجال، أي نسبة 50% بالضبط.
"لا مدربات بعد اليوم"
هناك شائعات كثيرة تملأ هذا البلد، لكن الحقيقة أن باريس لم تكن يومًا عاصمة للحب، وأن قلب الأديب الفرنسي ألفريد دو موسيه لم تتوقف دقاته بفعل الحب؛ بل بسبب الخيانة، خيانة الواقع، واللعب المجتمعي/ الحكومي على كل الحبال، وأن التعددية الباريسية ممشوقة القوام، صفراء الشعر، زرقاء العينين، ليس لها وجود إلا في أغاني شارل أزنافور المُجلجلة، وأن هذا العالم متضارب مع نفسه، ويستطيع تمرير سرديته أيًا ما كانت، ويستطيع النجاة بفعلته كل مرةٍ دون خسائر.
فبعد أن فقدتُ الشغف تجاه تغطية أحداث البطولة بعد ما عرفت وسمعت من أخبار، واستعضتُ عنها بتحسس الأشياء من حولي، علّني أجد فكرة مُسلية لتمضية الوقت، وبعد طول انتظار؛ وجدتها: أين المدرّبات من النساء؟
سبب آخر لضرب فكرة الأولمبياد والمساواة بين الجنسين في مقتلها، هي تلك الفجوة الكبيرة بين المدربين والمدربات؛ حيث يظل عدد النساء اللاتي يتولين مناصب قيادية مثل رئيسة البعثة والمسؤولة الفنية والمدربة، منخفضًا بشكل ملحوظ. في طوكيو 2020، على سبيل المثال، لم تتجاوز نسبة المدربات 13%، وفي السنوات العشر الماضية، لم تتجاوز نسبة المدربات من النساء 10% من إجمالي المدربين الأولمبيين؛ فأي ديمقراطية ومساواة تلك؟
هنا تبدو الصورة أكثر دقة؛ فمن ناحية إيجابية، سوف تحظى الرياضيات بنفس عدد الأماكن في الألعاب مثل الرجال لأول مرة، ولكن من جهةٍ أخرى تظل تلك هناك فجوة أوسع بين الكلمات الدافئة والواقع القاسي. لقد كانت رسالة اللجنة الأولمبية الدولية دومًا أن الألعاب هي الحدث الوحيد الذي يجمع العالم بأسره في منافسة سلمية. لكن الحقيقة هي ما أشار إليه مايكل باين، أحد كبار المسؤولين في اللجنة الأولمبية الدولية، حين قال: “لقد مرت عدة عقود منذ أقيمت الألعاب الأولمبية على خلفية متضاربة إلى هذا الحد”. أو بمعنى أصح؛ ما الجديد هذه المرة؟
إن منع الرياضيات الفرنسيات من المنافسة بالحجاب الرياضي في الألعاب الأولمبية والبارالمبية، يكشف عن التمييز العنصري بين الجنسين، والذي يدعم الوصول إلى مستويات المنافسة العُليا في فرنسا، كما أن الاعتماد على صناعة المدربين الذكور دون الإناث ينم عن وجود (خُرم) شاسع في أدمغة السادة المسؤولين. المدربون هم صناع القرار، ونحن في احتياج إلى أن تَرى الفتيات الصغيرات تلك النماذج من المدربات، ليصدقن أنهن قادرات أيضًا على الوصول إلى مناصب المسؤولية والتأثير، وإلا سنظل في تلك الدائرة المفرغة.
تقول آنا بلوس، باحثة حقوق المرأة في منظمة العفو الدولية في أوروبا: "يُظهِر هذا للنساء المسلمات أن السلطات الفرنسية عندما تتحدث عن المساواة بين الرجال والنساء، لا تنظر إليهن كنساء، ولا تأخذهن في الحسبان"
علمانية “نُص سِوا”
بحسب ما ذكرته لاعبة كرة القدم في نادي “ليز دييجو ميوس”؛ فيرونيكا نوسيدا، وهو نادٍ باريسي، أنشئ خصيصًا لمكافحة التمييز بين الجنسين، لصحيفة الـ BBC؛ فإن هذا التعنت ضد المحجبات في حقيقة الأمر هو نتيجة لشيئين: الإسلاموفوبيا، والتمييز على أساس الجنس. وقد وافقتها على هذا الرأي أسيل طفيلي، اللاعبة اللبنانية في نادي ليون الفرنسي؛ حيث قالت سابقًا “إن الأمر لا يتعلق بالمجتمع الفرنسي حقًا؛ بل بالحكومة”.
كما أن المشكلة لا تكمن في العلمانية نفسها كمفهوم؛ فالعلمانية طبقا لدستور الجمهورية الفرنسية تعني حرية الاعتقاد أو عدم الاعتقاد، مع إمكانية ممارسة الشعائر الدينية ما لم تخل بالقانون والأعراف، أي دون أن يتدخل هذا الدين في شؤون الدولة المدنية، وبالتالي حيادًا كاملًا من قِبل الدولة والمؤسسات، ولكنها لا تعني حظر ارتداء الرموز الدينية في المدارس الحكومية، أو في الأماكن العامة دون تسمية أمثلة محددة، مثلما حدث في القانون عام 2004.
تلك الحالة العصبية، تعني أن الرياضيات اللاتي يرتدين الحجاب عادة ما يتنازلن أو ينسحبن قبل الوصول إلى البطولات الكبرى، لكي لا يقعن فريسةً للاختيار بين ارتداء قميص المنتخب الوطني، أو التعبير عن إيمان شخصي. وهذا يعني أن التمييز ما زال منتشرًا، بدءًا من التمييز الجنسي ومراقبة مستويات التستوستيرون، إلى اضطرار النساء إلى النضال من أجل إحضار أطفالهن الرُضَّع إلى الملاعب، وانتهاءً بمنع اللاعبات المسلمات من ممارسة الرياضة أصلًا، أو كما تقول البروفيسور ميشيل أوشيا، بجامعة ويسترن سيدني: “إن فكرة الأعداد المتساوية قد تخفي ما يحدث في الواقع، نعم، لدينا نساء على أرض الملعب، لكن التجارب ما زالت مثيرة للقلق”.
"إخوان ايفري وير"
"لم نعد قادرين على التنفس. حتى الرياضة لم نعد قادرين على ممارستها"، هذا ما قالته أسماء، لاعبة الكرة الطائرة، المطرودة من اللعب في مسابقات في شمال فرنسا لارتدائها الحجاب.
هنا يجب أن أسأل السادة المعنيين: ما الفرق بينكم وبين الإخوان، وكل شعارات تيارات الإسلام السياسي؟ هل الفارق الوحيد أنهم يقصون شواربهم ويعفون لِحاهم، وأنتم تنعمونها أو تتخلصون منها بشفرات “جيليت فيكتور”؟ هل هذا هو الفارق الوحيد، أنكم تلبسون الأطقم والكرافات، بينما الإخوان والسلفيون يلبسون الجلباب الأبيض والصندل الجلد، وتتشح نساؤهم بالسواد في وضح النهار. نحن نكره الإخوان والسلفيين والوهابيين، وكل من وقف معهم في خندق واحد، لأنهم استئصاليون، إذن ولماذا نُحبكم؟ بعلمانيتكم، وديمُقراطيتِكُم -المُبتذلة-، وقراءتكم نصف الكتاب فقط؛ وبعدين، لماذا لا تحاسبون على ماضيكم العنصري والاستعماري؟ ولماذا لا تعيدون تمثال الكاتب الجالس وسائر الآثار المسروقة؟ ولماذا لا تدفعون ثمن قتلكم مليون شهيد جزائري، وملايين من الشعوب السمراء جنوب القارة المنهوبة؟
- الآراء الواردة في هذا المقال تُعبّر عن رأي الكاتب ولا تعكس بالضرورة مواقف وآراء “مواطن”.