تابعت مع الكثير من التساؤلات مسلسل بريطاني قصير مأخوذ عن قصة حقيقية حدثت في أربعينيات وخمسينيات القرن الماضي، “مسز ويلسون” مسلسل عن امرأة تكتشف بعد وفاة زوجها أنها كانت تعيش في عالم وهمي اخترعه زوجها؛ فالوظيفة المرموقة السرية التي كانت تظن أن زوجها مشغول بها، تبين أنه خسرها منذ سنوات زواجه الأولى؛ بل فوجئت بعدة زيجات وأبناء من زوجاته اللاتي عشن معه نفس الأوهام وتعرضن لنفس الخديعة.
من المميز في المسلسل أن الزوجة المخدوعة عندما تتوجه إلى الله في الكنيسة لا تلوم الخالق على حياتها؛ بل تعتذر منه على ضعفها وغبائها، حوار استوقفني وأثار اهتمامي؛ إذ إننا في مجتمعنا العربي اعتدنا قبول واقعنا كجزء من القدر الذي أراده الله؛ فكيف تعتذر هذه السيدة عن ضعفها وكأنه خطأ، أو خطيئة تستوجب غفران الله؟ كيف تطلب من الله الغفران على قدر أراده الله لها؟
في مجتمعنا العربي نحن نعود لله بعد كل إخفاق صابرين محتسبين على ابتلائه، وأنا هنا لا أتحدث عن الأقدار التي لا يد لنا فيها؛ بل أتحدث عن التجارب التي تنشأ عن اختياراتنا الشخصية؛ فالضعف من الله والقوة من الله، وكل نتيجة لقراراتنا هي من الله، طريقة آمنة مريحة تحرمنا من مساءلة النفس والتعلم من الأخطاء، أما المرأة فالضعف مطلوب لها في مجتمعنا؛ بل إن المرأة القوية هي المرأة المنبوذة المسترجلة، ولهذا نربي الفتاة على مبدأ “اكسر لها ضلعًا يطلع لها عشرة” ، وفي حالات كثيرة تدرب الفتيات على تصنع الضعف واستغلاله.
"الرجل لا تكفيه امرأة واحدة،" "المرأة تكتفي برجل واحد"،" فطرة المرأة هي الأمومة"، "المرأة كائن ضعيف"؛ كل ما سبق هو أكاذيب صدقها المجتمع واستعملها لتبرير أخطائه، والحقيقة أنه لا رجل يشبه آخر، ولا يمكن تعميم رغبة امرأة واحدة على كل النساء، كما أن الأمومة ليست فطرة عند كل النساء، والكثير من الأمهات السامات حولنا أكبر مثال.
John Doe Tweet
لم أستطع أن أمنع نفسي من المقارنة، ماذا لو كانت مسز ويلسون امرأة عربية، واكتشفت أن زوجها مخادع ومتزوج من نساء أخريات وله منهن أبناء؛ في الواقع القصة إن حصلت فهي لا تستحق أن تصور كمسلسل أو فيلم؛ فهي متكررة ومألوفة، أما السيدة فهي بالتأكيد سترغب بالظهور كضحية رمتها أمواج الحياة المتلاطمة كقارب معيب لا رأي لها، لن تلوم نفسها على سذاجتها التي أدت بها لتصديق أكاذيب لا يصدقها عاقل، لن تعتذر لله عن ضعفها وقرارها ولن تحمل نفسها المسؤولية.
في كتاب “السذاجة وعلم النفس الاجتماعي” لجوزيف فورجاس وروي بوميستر، يطرح الكاتبان قضية تشويه الأحكام والقرارات البشرية وتقويضها، وكيف تصبح الأكاذيب حقائق بسبب التكرار، ولا أعتقد أن هناك مثالاً أفضل من العالم العربي في تحويل الأكاذيب لحقائق، أكاذيب تستخدم لتبرير قمع وتشريع انتهاكات، وفي موضوع المرأة يظهر الأمر جليًا في نشر أكاذيب؛ مثل ” فطرت المرأة على…” فأغلب ما يأتي بعد هذه الجملة هو عبارة عن أكاذيب لم يؤكدها علم، والغريب أنك قد تجد نماذج كثيرة حولك تكذب تلك “الحقائق المشوهة”، لكن تستمر في تبنيها بسبب تكرار استخدامها، “الرجل لا تكفيه امرأة واحدة،” “المرأة تكتفي برجل واحد”،” فطرة المرأة هي الأمومة”، “المرأة كائن ضعيف”؛ كل ما سبق هو أكاذيب صدقها المجتمع واستعملها لتبرير أخطائه، والحقيقة أنه لا رجل يشبه آخر، ولا يمكن تعميم رغبة امرأة واحدة على كل النساء، كما أن الأمومة ليست فطرة عند كل النساء، والكثير من الأمهات السامات حولنا أكبر مثال.
بالعودة إلى مسز ويلسون التي لامت نفسها على ضعفها، وكأنها تعترف أن الضعف معصية وليست فضيلة للمرأة والرجل معا؛ بل إن القوة هي الفضيلة التي يحبها الله في عباده رجالاً ونساءً، حوار قد يبدو غريبًا على مجتمعنا، لكن ليس بسبب “الحقيقة”؛ بل بسبب تشويه الحقيقة، ولعل الحديث القدسي: “المؤمن القوي خير من المؤمن الضعيف”، هو خير مثال على أن هذه السيدة لم تأت بشيء جديد، وأن من الأوجب أن تلوم المرأة نفسها على ضعفها وتطلب من الله الغفران إن وضعت مكان هذه السيدة.
الآيات والأحاديث التي تحث على القوة والتوكل والأخذ بالأسباب، ولا تستثني جنسًا معينًا كثيرة، لكن التكرار وسذاجة المتلقي واستخدام العاطفة في التأثير عليه، بالإضافة إلى المجتمع الهرمي الذي يعتمد في بقائه على سيطرة كل فئة على فئة أخرى، ساهم ذلك في تبرير ضعف الفقير والمقموع والمرأة تحت شعارات الطاعة والصبر والابتلاء والقدر.
ولعل غياب الديمقراطية سبب رئيس في خلق أناس اتكاليين؛ فالمعلومات المشوهة ينشرها الاستبداد كحقائق يتغذى عليها ليبقى، هو صوت موحد لا تسمع غيره على المنابر وفي الإعلام، تخيل معي لو كان الخطاب الديني يدعو للقوة بدلاً من الضعف، هل ستقبل المرأة بأن تكون نصف مواطن في الحقوق، ومواطنًا كاملاً في الواجبات؟ هل سيقبل الفقير بالقليل وهو يرى الفساد يهضم خيرات بلاده؟
الإجابة؟ ربما لن يتغير شيء، لأن الحقائق واضحة وجلية، لكن الناس تتعمد إخفاءها لتبقى في رغد من العيش، وتستعين بالتكرار لكي تريح ضميرها من المساءلة والسعي، المجتمع يصطنع السذاجة ويتبناها في كثير من الأحيان، لأنها مريحة لا تتطلب الخروج من دائرة الراحة، وتحمل كل الأخطاء لأسباب غيبية معتمدة على حقائق مشوهة اعتمدها المجتمع بالتكرار كما أوضح كتاب السذاجة.
لعل غياب الديمقراطية سبب رئيس في خلق أناس اتكاليين؛ فالمعلومات المشوهة ينشرها الاستبداد كحقائق يتغذى عليها ليبقى، هو صوت موحد لا تسمع غيره على المنابر وفي الإعلام
John Doe Tweet
السذاجة مرتبطة بقصر النظر، وهي عقبة أساسية في طريق السلوك المنطقي، كما يوضح كلاوس فيدلر، جملة تبدو واضحة جدًا وصحيحة عندما تحاول أن تناقش شخصًا من أصحاب المعتقدات التي لا تتبع المنطق؛ فقد تجهز عريضة كاملة من الحقائق المثبتة علميًا، ويكتفي الطرف الآخر بنص واحد لا يتبع عقلاً ولا منطقًا، ويعتبر نفسه فائزًا عليك بالضربة القاضية. وهكذا ينتج مجتمع ساذج يعتقد أنه يمتلك الحقيقة، يغرق في بحر من الأخطاء المتراكمة التي لا يخرج منها برسائل تسعى للتطور؛ فيكرر الخطأ تلو الخطأ ثم يحمّل الكون المسؤولية.
لقد بُرمج مجتمعنا على تجميل الضعف للفئات المقموعة، اعتدنا صورة الفقير المبتسم والمواطن المسحوق الراضي، والمرأة الصبورة على العنف والقمع، استخدمت علينا كل أساليب تشويه الحقائق، لكي يقنع الضعيف بضعفه، حتى تلك الأساليب التي تظهر وكأنها حقائق دينية، هي أبعد ما تكون عن ذلك.
- الآراء الواردة في هذا المقال تُعبّر عن رأي الكاتب ولا تعكس بالضرورة مواقف وآراء “مواطن”.