لماذا لا نقرأ إلا نصًا واحدًا في كل النصوص.. حسن حنفي نموذجًا
“إن أولئك الذين يهملون إعادة القراءة سيضطرون إلى قراءة القصة نفسها في كل الكتب“.
يقدم رولان بارت هذه النصيحة لينبه إلى أن القراءة يمكن أن تكون عملاً إبداعيًا لا يلتزم فيه الفرد بمعنى سابق عليها، وإلا صار نشاطًا يضاد حركية الفكر، بعد أن تنحصر مهمته في محاولة الكشف عن معنى أو حقيقة معروفة مسبقًا.
يمكن للقراءة أن تمسى هي ذاتُها نشاطًا لإنتاج المعنى أو الحقيقة، حين ينعتق المثقف من سلطة المعنى الأحادي الذي يتسلط عليه، لتمسي القراءة مغامرة يخوضها دون علم بوجهتها ولا بمآلاتها، لكن هذا الفعل يخاصم مثقفينا، أو بالأحرى يخاصمه مثقفونا، والسر هو فهم يلزم كلٌ منهم قراءة نص واحد في كل النصوص، هو فهم سابق على الفهم، فهم صوري يطغى على التفكير فيرد الحركة إلى السكون، والتعدد إلى الواحد، والاختلاف إلى التشابه والتطابق، ليحد التفكير هذا الإطار الضيق دون وعي من صاحبه.
التأصيل لهذا الفهم السابق على الفهم قديم في ثقافتنا العربية، يمكن أن نتتبعه عند واحد من أهم المثقفين القدامى، هو أبو حيان التوحيدي، الرجل الذي وصفه ياقوت الحموي بأنه “لم يترك علمًا إلا وجعل له نصيبًا منه بمقدار؛ فكتب في اللغة والبلاغة، وبحث في أسرار النفس والتصوف، وناقش وناظر في قضايا النقد والإبداع الأدبي”.
القراءة لدى العقل العربي مثلما يصورها التوحيدي مرتبطة بـ"الفزع إلى البرهان"، و"البرء من الشبهة"، و"العثور على الحجة"، وهذا يتصل بطبيعة الحال بحقيقة متعالية معروفة من قبل، في حين تتمثل مهمة القراءة في البرهنة على هذه الحقيقة، والعثور على الحجج التي تؤيدها، ودحض أي شبهة قد تشوبها.
John Doe Tweet
أهمله القدامى، ومنهم من اتهمه بالكفر والزندقة؛ حيث وصفه الذهبي بالضال الملحد، ونعته ابن بابي بأنه كان “كذابًا قليل الدين والورع عن القذف والمجاهرة بالبهتان”، وقال عنه ابن الجوزي: “زنادقة الإسلام ثلاثة؛ ابن الراوندي، وأبو حيان التوحيدي، وأبو العلاء المعري، وأشدهم على الإسلام أبو حيان، لأنهما صرحا، وهو محجم ولم يصرح”. رغم ذلك تفطن المحدثون إلى ما مثلته كتابات التوحيدي من أهمية؛ فتعددت المقالات والدراسات التي تبحث فيما خلّف من أوراق.
هذا المثقف أو الزنديق الكبير الذي “لم يترك علمًا إلا وجعل له منه نصيبًا بمقدار”، وضع أسسًا للقراءة تقوم على الفهم المحرك لعملية التفكير، ما زال العقل العربي ملتزمًا بها؛ حيث رأى التوحيدي أن “اللسان مركب من اللفظ اللغوي والصوغ الطباعي والتأليف الصناعي والاستعمال الاصطلاحي (…) وبهذا البون يقع التباين ويتسع التأويل، ويفزع إلى البرهان، ويبرأ من الشبهة، ويعثر بما أشبه الحجة وليس بحجة، فاحذر هـذا النعت وروافده، واتق هذا الحكم وقوائفه.
إذن فالقراءة لدى العقل العربي مثلما يصورها التوحيدي مرتبطة بـ”الفزع إلى البرهان”، و”البرء من الشبهة”، و”العثور على الحجة”، وهذا يتصل بطبيعة الحال بحقيقة متعالية معروفة من قبل، في حين تتمثل مهمة القراءة في البرهنة على هذه الحقيقة، والعثور على الحجج التي تؤيدها، ودحض أي شبهة قد تشوبها.
هي قراءة إذا استعرنا مفهومي ألتوسير “منفعلة” لا “فاعلة”؛ فأنت لا تقرأ إلا ذلك المعنى الذي يوجد بداخلك، ويعني هذا أنه مهما تعددت القراءات؛ فهي في النهاية قراءة واحدة، أما القراءة الفاعلة فهي من تحررك من أسر هذا المعنى.
يتناسب هذا التعريف مع طرحي؛ فلعله لا يتتبع بدقة ما قصد إليه ألتوسير، وتستطيع إبصار تلك القراءة المنفعلة بشكل ربما أكثر انكشافًا لدى واحد من أبرز مثقفينا في النصف الثاني من القرن العشرين، وهو حسن حنفي.
يخبرنا المثقف الكبير عن التزامه بتلك القراءة المنفعلة في صراحة ووضوح، تعفيني من بذل أي جهد لتتبع ما طرحه من أفكار، وما سطره من كتابات، هي من الغزارة بحيث تجعله يتفوق على جميع نظرائه في تلك الناحية.
من هذه النماذج ما يسجله حنفي في كتابه “من النص إلى الواقع”، أنه وضع مؤلفه الضخم “من العقيدة إلى الثورة”، “لدحض شبهة أن الإسلام سبب تخلف المسلمين، وبأنه غير قادر أيديولوجيًّا على الدخول في عصر الحداثة”. في حين كتب نصه “من النقل إلى الإبداع” لـ “دحض شبهة أن علماء المسلمين كانوا نقَلة عن اليونان، مُترجمون لعلومهم، شارحون لمؤلفاتهم وملخِّصون وعارضون لها، وأن الفلسفة يونانية، والتصوف مسيحي أو فارسي أو هندي أو يوناني. أما كتابه “من النص إلى الواقع” فجاء “ضد شبهة أن التشريعات الإسلامية حرفيةٌ فقهية تضحِّي بالمصالح العامة، قاسية لا تعرف إلا الرجم والقتل والجلد والتعذيب وقطع الأيدي.
يقدم حسن حنفي بذلك نموذجًا لمثقفينا ممن يشتغلون في عالم الفكر، لكن؛ -وللمفارفة- فإن منطق تفكيرهم ينفي جوهر الفكر، متمثلاً في الصيرورة من حيث هي فعل تغير دائم؛ فالحقيقة لديهم مكانية، قيلت مرة واحدة وللأبد
John Doe Tweet
وفي ورقته “هيجل والهيجليون الشباب.. قراءة عربية”، يروج حنفي إلى أن “النص الهيجلي مثل النص القرآني”، وأن مراحل تطور الوعي عند هيجل تشبه التفسير الموضوعي للقرآن، وأن كتاب “روح المسيحية” لهيجل يعادل في توجهه الأخلاقي الكثير من الآيات القرآنية.
هذا الفهم يتحرى بطبيعة الحال حقيقة معروفة مسبقًا ليدور دومًا في فلك التشابه والمطابقة، وهو فهم يعكس فكرًا وثوقيًا لا مجال لدى صاحبه للاختلاف، وفي حالة وجوده فسيحُل عبر “الفزع إلى البرهان” و”العثور على الحجة”، وما مهمة القراءة هنا سوى البرهنة والتدليل، ودحض أية شبهة؛ فالحقيقة واحدة متجانسة العناصر لا تتيح الاختلاف، ولها أفق محدد يجب توجيه الحاضر نحوه.
لا تستهدف الذات -في إطار تلك الرؤية- أبعد من الحفاظ على استقرارها؛ حيث تتجاوز المسافة الفاصلة بين الذات والآخر، وذلك من خلال تحويل الخارج إلى الداخل، متطلعة ألا تخضع إلا لذاتها، وفي هذا المنحى إقصاء للآخر، وهو فعل طالما انتقده “حنفي” لدى “التيار الأصولي”.
يقدم حسن حنفي بذلك نموذجًا لمثقفينا ممن يشتغلون في عالم الفكر، لكن؛ -وللمفارفة- فإن منطق تفكيرهم ينفي جوهر الفكر، متمثلاً في الصيرورة من حيث هي فعل تغير دائم؛ فالحقيقة لديهم مكانية، قيلت مرة واحدة وللأبد، وبهذا يحاول هذا الفكر حجز التدفق المتواصل للصيرورة، يحرض على ذلك وهم ميتافيزيقي يفترض وجود هوية أصيلة (جوهر)، ينجم عنها إرادة خيرة لبلوغ اليقين، وبهذا لا تخرج محصلة إنتاج مثقفينا -نهايةً- عن قراءة واحدة لكل النصوص، ولعل نقطة البداية للتخلي عن هذه القراءة، تتمثل في إدراك أن الهوية أو الجوهر ليس سابقًا على الخبرة، أي سابقًا على الفعل؛ فمن تلك النقطة يكون المبتدأ.
- الآراء الواردة في هذا المقال تُعبّر عن رأي الكاتب ولا تعكس بالضرورة مواقف وآراء “مواطن”.