العرب والفلسفة: تناغم أم تنافر؟
إن الشيء المُميز في التاريخ العربي والإسلامي، هو اشتماله على حروب وصراعات سياسية ودينية عقائدية بعد موت الرسول؛ فعرف المسلمون الفتنة الكبرى والانشقاق إلى فرق ومذاهب تطورت في وقت لاحق لأشكال مختلفة ذات عقائد مختلفة.
أشهر تلك الفرق الأولى هم “الخَوارج” و”المُرجئة” و”المُعتزلة” والتي عرضنا لبعض الأضواء عليها ضمن صفحات مواطن، وملخص أقوال تلك الفرق أن الخوارج قالت بتكفير مرتكب الكبيرة، وتوسعت في شرح مفهومها حتى طال ذلك تكفير معظم المسلمين تقريبًا، وقلنا إن هذا المذهب لم يتوقف نشاطه على الخوارج؛ بل دخل مذاهب السنة والشيعة التقليدية عبر التفاعل مع أحداث وصراعات سياسية، والمبالغة في تأويلها والدفع بتكفير المختلِف تحت وقع الضغط السياسي والمجتمعي، وأن المرجئة ظهرت كرد فعل على هذا السلوك الخارجي، فتوقفت عن تكفير أي إنسان وأرجأت الحكم عليه إلى الله يوم القيامة، حتى سموا بالمرجئة تبعًا لذلك، وهو ما سمي بالإرجاء؛ أي التأخير والتأجيل. ثم المعتزلة التي توسطت بين المذهبين فرفضت إطلاق الحكم بالإيمان والكفر على مرتكب الكبيرة.
لقد عَبّر انشغال المسلمين بالحكم على إيمان الناس في هذا العصر عن أزمة كبرى في الفكر الإسلامي آنذاك، وهي (تخليهم عن العقلانية والتدبر)؛ فالسمات العامة لأي نشاط غير عقلاني هي “التعميم، المبالغة، الاحتكار، التقليد، العنف والتعصب للرأي”، ومن الثابت تاريخيًا ظهور وتفشي هذه السلوكيات بعد موت الرسول، حتى إن التاريخ يخلو تمامًا من الدعوة للفكر والعقل والتأمل لحل هذه الخلافات، وتصويب المسار وإعادة تقويم البوصلة، وكان المعيار الأوحد لحل تلك الخلافات هو في حد ذاته أزمة ويمثل عنصرًا رئيسًا لأسباب العنف والصراع الأهلي في ذلك الوقت، وهو “التقليد”؛ فكانوا كمن حاول بعد جهد تفسير الماء بالماء.
إن التكفير المتفشي في تاريخ المسلمين الأول هو أحد أعراض هجران العقل والفلسفة، وعدم نضوج الفكر العربي آنذاك للإيمان بالتفلسف أو إدراكه والعلم به؛ فالفلاسفة والعقلاء لا يُسمّون مخالفيهم بالكفار؛ بل يميلون للرد عليهم بشكل موضوعي؛ فمن كان سلاحه العقل لا يعتقد بضرورة استخدام أي سلاح آخر عنيف، والسر أن سلاح العقل هو مصدر الارتقاء والبلوغ لليقين؛ فمن بلغ يقينه بأدلة يصعب عليه الحكم على الناس بالظنون، أو فرض ما يؤمن به على الناس لعلمه بطريقة تفكير الجموع البدائية وعذرهم في ذلك، وله من تاريخه هو كمفكر رصيد معنوي وأخلاقي يدفعه لذلك العذر بسهولة، أو التخلي عن مصارعة الناس في أفكارهم، وهو يعلم أنه لا جدوى من تغيير قناعات الناس بالجبر أو حتى بالجدل المذموم الذي أكثر الله من ذكره في القرآن.
الجدل وعلاقته بالفلسفة
ففي كتاب الله ذُكر الجَدَل على نوعين، الحميد والمذموم، والأول في قوله تعالى: “ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن”، [النحل: 125]، وقوله أيضًا: “فلما ذهب عن إبراهيم الروع وجاءته البشرى يجادلنا في قوم لوط”، [هود: 74] وقوله: “ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن إلا الذين ظلموا منهم”، [العنكبوت: 46]. أما الثاني فالمذموم: ففي قوله تعالى: “ومن الناس من يجادل في الله بغير علم ويتبع كل شيطان مريد” [الحج: 3] وقوله أيضًا: “يجادلونك في الحق بعد ما تبين كأنما يساقون إلى الموت وهم ينظرون” [الأنفال: 6] وقوله: “ويعلم الذين يجادلون في آياتنا ما لهم من محيص” [الشورى: 35].
بقراءة تاريخ المسلمين أول قرنين، نجد أن هذا السلوك التكفيري العنيف كان شائعًا ومتفشيًا في أعلى المستويات، مما يثبت أن الجَدَل آنذاك لم يكن قائمًا على التفاهم والبحث عن الحقائق؛ بل كان يقوم على الدونية والتعصب للرأي والعنف بكافة أشكاله.
فالجَدَل الحميد هو القائم على أساس موضوع فكري، ويتميز بالهدوء والبحث عن الحقيقة والحرص على صدق المعلومة والتحري والتحقق، مصداقًا لقوله تعالى: “يا أيها الذين آمنوا إذا ضربتم في سبيل الله فتبينوا ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمنا تبتغون عرض الحياة الدنيا”، [النساء: 94]، وقوله: “يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا أن تصيبوا قوما بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين” [الحجرات: 6]. أما الجَدَل المذموم فهو الذي غايته انتصار النفس ولو بالكذب والغش والزيف، وهو الذي يُكثر فيه التعصب والعنف اللفظي والبدني، وهو الذي لا يُراعي انتهاك محارم الله ولا يعترف بأي محرمات دينية وأخلاقية، في سبيل نصرة رأيه أيا كان؛ صادقًا أم كاذبًا.
إن ميل المفكرين والفلاسفة للجَدَل الحميد هو شيء تلقائي غريزي؛ كون هذا النوع من الجدل هو وسيلتهم الأولى في سبيل تحصيل العلم، لذلك فمن يفقد هذا الجَدَل الحميد ويمارس آخر مذمومًا لا يتورع عن التكفير والعنف، وبقراءة تاريخ المسلمين أول قرنين، نجد أن هذا السلوك التكفيري العنيف كان شائعًا ومتفشيًا في أعلى المستويات، مما يثبت أن الجَدَل آنذاك لم يكن قائمًا على التفاهم والبحث عن الحقائق؛ بل كان يقوم على الدونية والتعصب للرأي والعنف بكافة أشكاله.
ولأمر آخر دفع الفلاسفة لعدم التكفير أو القول بالعنف ضد المختلِف، هو أنهم لا ينطلقون من النص الديني كأساس لفهم العقائد والكونيات؛ بل من العقل المجرد الذي اصطُلِحَ عليه في العصر العباسي (بالرأي)؛ فالانطلاق من النص الديني يجعل من وكلاء الدين ورجاله والمتحدثين باسمه إضافة للسياسين والحكام، هم المرجع الأول لتفسير ذلك النص، ذلك لأن النصوص الدينية لا تنطق بذاتها ولا تشرح نفسها بنفسها، ولكنها تتعلق في المجتمع بشارحين ووكلاء، من المؤكد أنهم يحصلون على ثقة الحكام والأعيان، وتجارب التاريخ تشهد بالصلة الوثيقة بين رغبة الحاكم وميوله وبين طبيعة الفقه والعقيدة الشائعة في زمانه ومكانه، وقد أشار د. نصر حامد أبو زيد إلى تلك المعضلة بقوله إن النص الديني يتماهى دائمًا مع رغبة الحكام في التاريخ.
بمعنى أن النص الديني لا يبقى نصًا بحياله عند تعلقه بالحاكم، ولكنه يتطور بأشكال مختلفة تبعًا لثقافة ذلك المجتمع؛ فتارة نجده باسم حديث أو شريعة أو سنة نبوية أو فتوى أو ثوابت أو معلوم من الدين بالضرورة، وهكذا تختلف تسميات النص الديني وفقًا للتطبيق العملي له من طرف الحكام ورجال الدين، أما في الجهة المقابلة فيقف الفيلسوف على طرف نقيض من هذا الاحتكار، وينطلق من العقل المجرد في تفسير النصوص، مما يوقعه في مشكلات مع السلطة السياسية من جانب، ومع رجال الدين ورؤساء المذاهب من جانب آخر.
اللغة العربية فوق الفلسفة
في القرن الرابع الهجري حدثت مناظرة شهيرة بين الفيلسوف واللاهوتي المسيحي “أبي بشر متى بن يونس” المتوفي عام 328هـ وبين الفقيه المسلم واللغوي “أبي سعيد السيرافي” المتوفي عام 368هـ، ذكرها الأديب والفيلسوف “أبي حيان التوحيدي“، في كتابيه المقايسات والإمتاع والمؤانسة، ولكي نعلم ماهية المناظرة؛ فأبو بشر بن يونس هو (مُعلّم الفارابي)؛ أي فيلسوف ومحقق ومدقق كبير في علوم العقل، بينما السيرافي مُحدّث حنفي ومن كبار علماء اللغة العربية، وبذلك نفهم موضوع واتجاه المناظرة؛ فأبو بشر بن يونس كان يقول بضرورة تدريس المنطق لضبط فضيلة التفكير وطرح الأسئلة الصحيحة التي ستؤدي لأجوبة صحيحة في الغالب، بينما السيرافي كان مثل ابن تيمية يعيب على المنطق ويقول بأنه لا طائل من ورائه، وأنه مجرد علم يوناني عقيم.
وكان متى بن يونس يقول بضرورة تدريس الفلسفة للعلم، بينما السيرافي كان يقول بكفاية اللغة العربية وأهليتها كبديل عن فلسفة اليونان الخاصة بمجتمعهم هم، لكنها لا تليق بالعرب، وفي تقديري أن ما قاله السيرافي كان يتوافق مع فكر العرب والمسلمين في زمانه الذي يشهد بتفوقهم السياسي واتساع رقعة الامبراطورية العباسية؛ فما الذي يدفعهم لنقد أو رفض اللغة العربية أو الشك في الفكر العربي وأهليته؟
شئ يشبه ما حدث بعد نكسة 1967 حين هَزمت إسرائيل عدة جيوش عربية في عدة أيام؛ فأحدث ذلك صدمة كبرى في الوعي العربي أدت لردود أفعال نقدية لم تتوقف على نقد القومية العربية فقط، ولكن نقد العقل العربي نفسه، وفي تلك الفترة ظهرت كتب كثيرة في هذا السياق العلمي؛ منها موسوعة محمد عابد الجابري “نقد العقل العربي“، وهي سلسلة تتضمن عدة كتب شرع فيها “الجابري” بتشريح ونقد الثقافة واللغة العربية والقول بعدم أهلية العرب للتقدم في ظل تمسكهم بخيارات الأجداد –مثل السيرافي– والقول بكفاية اللغة العربية فقط للعلم، وعلى نفس المنوال ظهر د. فؤاد زكريا بكتابه “خطاب إلى العقل العربي“، ود. زكي نجيب محمود بكتابه “قصة عقل” وغيرهم.
إن دوافع السيرافي معروفة لدارسي الفلسفة وعلم اللغات؛ فمن يرفض المنطق الصوري الأرسطي في هذا الزمن كان (مؤمنًا حرفيًا) بظواهر نصوصه الدينية، وبالتالي فتقديم لغاته المحلية وأدواتها من الكناية والمجاز والاستعارات على المنطق الصوري، وبالتالي عدم كفاية المنطق لفهم اللغة وبالتالي الدين؛ ففلسفة أرسطو لها سياق مختلف تمامًا عن طريقة تفكير العربي، وهذا يفسر كيف نشأت الفلسفة الإسلامية في بلاد فارس وخراسان، ولم يكن أكبر شراح أرسطو من قبائل العرب أو ممن يتبنون التفسير الحرفي للنصوص الدينية.
أما تتلمذ الفارابي على يد فيلسوف نسطوري مسيحي فيؤكد أن المسيحية كانت صاحبة فضل على فلاسفة المسلمين في الاهتمام بالفلسفة اليونانية، وفي عصر الفارابي كثرت الترجمات عن أوروبا مثلما حدث لإسحاق بن حنين، الذي كان مسيحيًا وأسلم؛ فنقل إلى العربية علومًا يونانية كثيرة هي التي صنعت بعد ذلك نهضة العقل المسلم، حتى وصلت للفارابي فشرحها واستحق لقب المعلم الثاني بعد أرسطو.
والثابت أن ظروف تدوين الحديث في عصر المتوكل بالله بدءً من منتصف القرن الثالث الهجري ارتبطت بهذه النهضة العقلية أساسًا؛ فهي كانت ردًا ومقاومة دينية للعقل اليوناني الذي خاض في مواضيع لاهوتية كثيرة؛ منها الله والقضاء والقدر وغيرها، وبالتالي نفهم لماذا صبّ علماء الحديث غضبهم على المعتزلة والأحناف الأوائل بالذات، ليس بصفتهم مفكرين أحرارًا ولكن بصفتهم (ذيولاً) للفكر اليوناني الإيراني، وزنادقة المفكرين من الوثنيين الإغريق والمجوس حسب رأيهم، وتتذكرون حديث “القدرية والمرجئة مجوس هذه الأمة” الذي خرج في تلك الأجواء السياسية؛ فالقدرية هم المعتزلة، أما المرجئة فهم الأحناف الذين رفضوا التكفير والحكم على الناس في الدنيا لنسبية الحقائق من جهة، ومن جهة أخرى قولهم بحرية الاختيار، وهذا كان مذهب أبي حنيفة بالأصل، والذي شرحناه في السابق على مواطن تحت عنوان “أضواء على مذهب المرجئة الإسلامي“.
أما تتلمذ الفارابي على يد فيلسوف نسطوري مسيحي فيؤكد أن المسيحية كانت صاحبة فضل على فلاسفة المسلمين في الاهتمام بالفلسفة اليونانية
ولمن يسأل عن سر تبني فلاسفة مسيحيين ونشرهم لعلوم اليونان؛ فالإمبراطور الروماني جستنيان قضى عام 529م على المدارس الفلسفية اليونانية، وأصدر قرارًا بإغلاق كافة مدارس الفلسفة بدعوى الوثنية، آخرها مدارس الأفلاطونية المحدثة، لكن الكتب اليونانية ظلت محفوظة في الكنائس والأديرة حتى جاء فلاسفة نسطوريون ومترجمون نقلوا هذه الكتب للغات الأخرى، ومن ضمنها العربية، والفيلسوف “متى بن يونس” كان نسطوريًا من هؤلاء.
ولأن المسيحية لا تُحرّم الموسيقى كما يُحرّمها العرب –آنذاك– فقد تأثر الفارابي بهذا المناخ الفني؛ فنقل عن أستاذه “متى بن يونس” عشقه للموسيقى وكتب رسالة شهيرة فيها، ويروى أنه كان عازفًا بارعًا، مما يدل على عدم التعارض بين الحاسة الفنية الأدبية وبين التدين بالعموم، فمتّى والفارابي كانوا مؤمنين بالمسيحية والإسلام، ورغم ذلك كانوا فنانين، علاوة على تأثير المجتمع في تحفيز الخيال الفني، فمجتمع خراسان وفارس بالأصل عاشق للفنون، وما زالت تلك الحاسة الفنية مؤثرة في مجتمعات إيران وآسيا الوسطى رغم تكاثر فقهاء التحريم، ونفس الحال بمصر الذي يعشق شعبها كافة أنواع الفنون، ولم يؤثر فيهم تكاثر علماء التحريم سوى بعد تبني السلطة لهم منذ السبعينات.
مُحاولة للتناغم
في سياق آخر وعلى نقيض من هذا الاتجاه للسيرافي وأمثاله، شرع العديد من المفكرين في القول بأن الفلسفة لم تكن حِكرًا على اليونان، وأن معلمي وشارحي الفكر اليوناني الأوائل كانوا عَرَبًا، مثل الفارابي وابن سينا والكندي وابن رشد وابن طفيل وغيرهم، وليست بوارد إحصاء أسماء هؤلاء الفلاسفة المعنيين لأن ذلك سوف يدفعنا للشخصنة والبحث في عروبتهم، ولعل هذا المبحث له سياق آخر وجدال لسنا بصدده، ونرفض الدخول فيه.
لكنني ممن يستخلصون النتائج؛ فحتى لو كان الفارابي وابن سينا وابن رشد ليسوا عربًا، ولكن نتائج ما أفرزوه في الحقل المعرفي الإسلامي يؤهل العقل العربي للتناغم والتماهي مع الفلسفة، ذلك لأن المعرفة الإسلامية مرتبطة بأصل الوحي الذي نزل على الرسول، والذي وُجد أساسًا باللغة العربية، إذن فهناك اتصال وثيق بين اللغة العربية والإسلام، وأن نجاح العديد من الفلاسفة في صياغة فلسفتهم وإبداعها على أساس إسلامي يؤهل العقل العربي لإدراك الفلسفة والتعامل معها باحترافية، وقد كان ذلك الرأي -وإن لم يُوجَد له حضور كافٍ في الماضي-، لكننا وجدناه في الحاضر بعدة أعمال؛ أشهرها سلسلة “مشروع رؤية جديدة للفكر العربي” للطيب تيزيني، وكتاب “النزعات المادية في الفلسفة العربية” للدكتور حسين مروة، علاوة على كتاب “نقد نقد العقل العربي” لجورج طرابيشي الذي كان يرد فيه على مطاعن عابد الجابري للعقل العربي.
وفي الحقيقة ورغم انتقادات هؤلاء للنموذج الغربي أو للفلسفة اليونانية في بعض جوانبها، لكن ما أفرزوه في هذه الأعمال يتفق مع مشروع الإحيائية الإسلامية الثورية، التي بدأت منذ نهاية القرن 19م، والتي شعرت بالثقة في العقل العربي والإسلامي بشكل عام، شعورًا أكسبها قوة في وجه المُستعمِر الغربي، قالت بناء عليه إن العرب والمسلمين ليسوا أهل دين فقط؛ بل أهل حضارة وعلم وتجربة وفلسفة، وقد كان من أشهر زعماء هذه الإحيائية “جمال الدين الأفغاني” و”محمد عبده” و”رفاعة الطهطاوي”.
وهذه الإحيائية برغم أهميتها في نشأة جذور الإسلام السياسي لاحقًا، لكنها أنتجت جيلاً من المفكرين نظروا للحضارة الغربية والفلسفة اليونانية بعقلية نقدية تماهت مع اتجاهات مع بعد الحداثة آنذاك، وقد استفاد هؤلاء من الرأي العام الدولي الناقد للحضارة بكثرة معاركها ومآسيها ومجازرها في الحروب العالمية، واستفادوا أيضًا –كما استفاد الإسلام السياسي– من الحرب الباردة والعراك الساذج بين قطبي العالم في موسكو وواشنطن، حتى إن محمد عابد الجابري وبرغم اضطلاعه بنقد العقل العربي لم يقل بالتغريب أو تصنيم الحضارة الغربية مثلما يفعل حاليًا بعد كُتّاب السوشيال ميديا والصحافة العربية، باعتبار النموذج الغربي قدوة ومثالاً ناجحًا على كل المستويات.
لم تتوقف محاولات العرب والمسلمين للتماهي والتناغم مع الفلسفة منذ نشوء الحضارة الإسلامية، وما ميز فترة هذه الحضارة المُفترضة ما بين القرنين 2 و6هـ من صراع فكري كبير بين الفلاسفة والمفكرين من جانب، وبين الفقهاء والأصوليين والمُحدثين من جانب آخر،
إن ما ألقاه عابد الجابري لم يكن حجرًا فقط ضد العقل العربي، ولكن ألقى أيضًا عدة أحجار في بنية العقل الغربي، وما ميزه في موسوعته الشهيرة أنه أعاد اكتشاف علوم الفكر الإسلامي وفقًا لتصنيفات جديدة خالفت التصنيف القديم بتقسيم علوم الدين إلى “فقه وعقيدة وحديث وعلوم قرآن، إلخ”؛ بل أعاد اكتشاف بنية العقل العربي بتصنيفه إلى ثلاثة مستويات هي أولًا: علوم البيان:
وتشمل الفقه وأصوله وعلم الكلام وعلوم اللغة.
ثانيًا: علوم البرهان: وتشمل الفلسفة وخصوصًا فلسفة أرسطو.
ثالثًا: علوم العرفان: وتشمل التشيع والتصوف والفلسفة الإشراقية.
إن هذا التصنيف الجديد يُعطي الثقة للعقل العربي من حيث موضع نقده، بمعنى أن اشتمال بنية الفكر العربي على علوم البيان وسيطرة تلك العلوم حاليًا يلزمها للتطور علوم البرهان والعرفان، وكأنه يقول بضرورة التقريب بين العرب والغرب، وبين العرب وأنفسهم؛ خصوصًا بين السنة والشيعة، وقد سدد ضرباته أكثر للتراث السني بوصفه تراثًا سلطويًا طائفيًا ضد الشيعة والتصوف والفلسفة، أكثر من التراث الشيعي الذي يتماهى في كثير من جنباته إلى التصوف والفلسفة، وإلى اعترافه بحيوية وقوة الفلسفة اليونانية والمنطق، واضطلاعهما بجزء كبير من الحقيقة المعرفية، وأنه لا علم بدون فلسفة ومنطق أولاً، ولا علم بدون عرفان وتصوف ثانيًا.
ومن مزايا هذا التصنيف الجديد فهم حركة التاريخ، وكيف بنى الفقهاء العرب والفلاسفة المسلمون مواقفهم؛ فأبو حامد الغزّالي بنى موقفه ضد الفلسفة على إثبات البيان بناء على علوم العرفان، لذلك خرجت كتاباته تُرضي قطاعًا كبيرًا من المتصوفة والشيعة أكثر، وجنحت أعماله ناحية السلوك الاجتماعي والنفسي مثلما درج على ذلك في كتابه الشهير “إحياء علوم الدين“، لكنه في ذات الوقت أغضب الفلاسفة الذين أقاموا حجتهم على إثبات العرفان بناء على علوم البرهان، لذلك خرجت كتاباتهم تُرضي غير المسلمين وغير العرب الذين جنحوا آنذاك للتصور المادي للحياة، وفي نظرية الفيض والصدور للفارابي نموذج واضح لهذا البناء المعرفي، الذي انطلق فيه الفارابي من البرهان الفلسفي الأرسطي إلى تصور حركة إشراقية تُفسر نظرية الخلق، وتوجد اشتراكًا كبيرًا بين المادة والمثال، تم التعبير عنها بمعان أخرى كوحدة الوجود.
ومن نفس المدرسة للفارابي ظهر القاضي” أبو الوليد ابن رشد” لينطلق من البرهان ولكن هذه المرة إلى البيان؛ فاتخذ طريقه إلى عقلنة الفقه وأصوله والعقائد وعلم الكلام بناء على البرهان الفلسفي، ويرد لعلوم البرهان اعتبارها في عدة كتب منها “تهافت التهافت” و”الآثار العلوية” و”فصل المقال في ما بين الحكمة والشريعة من الاتصال“، والأخير قال فيه بالتوفيق بين الفلسفة والدين بناءً على إثبات البيان الذي هو خصيصة للدين الإسلامي وفقًا لابن رشد، بناء على ثبوت البرهان الذي هو ليس خصيصة لليونان فحسب؛ وبل للعرب والمسلمين أيضًا.
وعلى نفس المدرسة ظهر “ابن حزم الأندلسي” أيضًا، والذي رد القياس الفقهي المُشتمل عليه في علوم البيان لصالح الفلسفة، التي رآها وسيلة علمية جيدة بديلة عن الفقه التقليدي لفهم علوم البيان، وفي ذلك كتب الأديب اللبناني “عمر فروخ” كتابه “بحوث ومقارنات في تاريخ العلم وتاريخ الفلسفة الإسلامية” صـ 42، عد كثيرًا من أقوال ابن حزم الفلسفية، وكذلك كتاب سالم يفوت بعنوان “ابن حزم والفكر الفلسفي بالمغرب والأندلس“، وقد عد ابن حزم من الفلاسفة محمد أبو ریان في كتابه ” تاریخ الفكر الفلسفي في الإسلام“، دار النھضة العربیة، بیروت، ط، 1973م، (ص414.)، وكذلك مقال محمد عبد الله عنان المنشور في مجلة “العربي” الكویتیة بتاريخ یولیو1964م: بعنوان “ابن حزم الفیلسوف الأندلسي الذي أرخ لمجتمع الطوائف”، وأخيرًا لابن حزم كتابات تقدمية منها رسالة التوقیف على شارع النجاة ضمن “الرسائل” (131/3)، وفیھا عالج الرجل مشكلة الانفتاح والانغلاق على الثقافات.
نفهم من ذلك أن محاولات العرب والمسلمين للتماهي والتناغم مع الفلسفة لم تتوقف منذ نشوء الحضارة الإسلامية، وما ميز فترة هذه الحضارة المُفترضة ما بين القرنين 2 و6هـ من صراع فكري كبير بين الفلاسفة والمفكرين من جانب، وبين الفقهاء والأصوليين والمُحدثين من جانب آخر، وقد عرضنا مناظرة متى بن يونس ضد أبي سعيد السيرافي، وما رافق ذلك من سيادة نظريات الفقهاء على رؤى الفلاسفة بتأثيرات سياسية، وأن الفجوة التي يُعانى منها العقل العربي حاليًا لم تحدث سوى بتغليب وجهة نظر الفقهاء على وجهة نظر الفلاسفة لا غير.
دعوات لإحياء الفلسفة العربية والإسلامية
لم يكن ظهور العنف على أساس ديني في المجتمع الإسلامي منفصلاً عن مواقف الفقهاء من الفلسفة بشكل عام؛ فالصراع الذي حكيناه من قليل بين الفلاسفة والفقهاء له امتداد في تشكيل وعي الجماعات التكفيرية الإسلامية بالعصر الحديث، واشتهرت لديهم عبارات عدائية للتفكير والعقلانية بشكل عام، وتكفير كل من يرفض أئمتهم أو فتاوى ومواقف زعمائهم؛ منها أن “من تمنطق فقد تزندق”، وهي عبارة مهينة للغاية ضد العقل البشري ومكوناته الأساسية في البرهان.
كان الاحتفاء الأخير بالأصولية الإسلامية وتقديمها على الفلسفة والعقل له مضاره العظمى على وعي الشباب والأجيال في انتشار هائل للخرافات والعنف المصاحب، ولأن التجربة خير دليل أدى ذلك لخروج مطالبات “سياسية وفكرية” لا تتوقف على تغيير الوضع السائد؛ بل لإعادة الاعتبار إلى الفلسفة والعقل الإسلامي بشكل عام، بمعنى أن مدرسة متى بن يونس والفارابي وابن سينا وفقهاء المعتزلة وعلماء أهل الرأي، بدأت تنتصر وتعود حاليًا بشكل حداثي يتناغم مع التطورات الجديدة التي طرأت على العقل الإنساني وإدراكات المجتمع وطبيعة الدولة؛ فأصبحت مواد القانون والدستور الوضعي مقدمة على مواد الشريعة الفقهية، ولم يصبح هذا التقديم مجرد قرار؛ بل ثقافة عامة عند العرب صارت تدرك الفارق الكبير بين القانون والفتوى.
يجري حاليًا استبدال ابن تيمية الحراني بابن عربي وابن رشد، ويجري استبدال ابن حجر العسقلاني وفقهاء الحديث بالفارابي وابن سينا وفقهاء المعتزلة والعلماء التجريبيين، حتى كثرت مطالبات الفصل بين “العلم والدين”، وأن لكل منهما سياقه وطبيعته الخاصة، وآثار ذلك على إصلاح العقل العربي وإعادة هندسته فلسفيًا كبيرة، وبالطبع لولا أن أتباع ابن تيمية شكّلوا فرقًا مسلحة وجماعات عنف سياسية وطائفية، ما حدث هذا الاستبدال أو فطن لضرورة حدوثه ملايين الشباب التقدمي الذي يكتب حاليًا على السوشيال ميديا عن ضرورة التغيير.
إن ما يمكن استخلاصه من هذا الوضع الجديد أن العقل العربي ليس مضادًا للفلسفة، أو يقف على طرف نقيض للعقل والعلم بشكل عام مثلما يتهمه به خصومه؛ بل هو كأي عقل إنساني قابل للتطور وفقًا لمجريات وأحداث وظروف خاصة تتيح أو توفر له الشروط الضرورية لإحداث تلك النهضة.
ومثلما أعاد الغربيون اكتشاف الفلسفة الإسلامية وترجمتها إلى اللغة اللاتينية للاطلاع على أرسطو واليونان، يُعيد العرب حاليًا اكتشاف الفلاسفة المسلمين للاطلاع على كيفية النهوض العربي والإسلامي في العصر العباسي، بدءً من القرن 3هـ حتى القرن 8هـ، وهي الفترة التي ازدهرت فيها الحضارة الإسلامية بشكل ملحوظ في معظم شؤون الحياة؛ من الفلسفة والفقه والسياسة والاجتماع والروحانيات والعلم التجريبي، ثم إعادة الاعتبار لأصحاب تلك المنجزات بعد تكفيرهم على أيدي المتشددين من الفقهاء والأصوليين بالقرون الوسطى، والذين ناصبوهم العداء؛ فقط لمجرد استخدام العقل والتفكير بشكل مستقل بعيدًا عن الموروث الديني الذي كان وما زال محل جدل ونقاش عميق لفهم أبعاده النفسية والسياسية والعلمية، لإدراك كيفية تكونه وآثاره المحتملة على البشر بشكل عام، والعرب والمسلمين بشكل خاص.
- الآراء الواردة في هذا المقال تُعبّر عن رأي الكاتب ولا تعكس بالضرورة مواقف وآراء “مواطن”.