على طريقة يوسف شاهين في فيلمه المصير (1997)، بأن الأفكار لها أجنحة ولا يستطيع أحد منعها من الوصول للناس، قررت الإعلامية اللبنانية أن تكمل مسيرة زوجها سمير قصير، الذي اغتيل في 2005، عن عمر يناهز 45 عامًا. بعد أن وُضعت تحت سيارته عبوة متفجرة، بسبب مقالاته ومواقفه السياسية. حاول القاتل إسكاته، بينما أصرت الزوجة على استمرار قيمه ومبادئه حتى بعد الوفاة.
كتبت عنه في مقالها المنشور في جريدة نداء الوطن: “كان يشبه وليد مسعود بطل رواية جبرا إبراهيم جبرا، هذا المتمرد المناضل، العاشق الغارق في كل تفاصيل الإنسان المعاصر”. أبت الزوجة أن تنتهي قصة بطلها المتمرد؛ فأسست منظمة تحمل اسمه تخليدًا لاسمه ولذكراه، أو حد تعبيرها “كان القرار أن أعيش وأن أذكر القاتل أن إعدام الجسد لا يلغي الروح”؛ فالترهيب والقتل ليسا سلاحًا لمحاربة الأفكار الحرة؛ بل يمكن أن تترسخ أكثر بالرغم من سطوة القمع.
تعمل المنظمة في عدة مجالات تندرج جميعًا تحت دعم حرية الصحافة، وواحد من بين أنشطتها تقديم جائزة سنوية لهؤلاء الصحفيين الذين يعملون في بلدان لا ترحب بالصحافة الحرة، معرضين أنفسهم لمخاطر عدة، في محاولة لإرساء حرية الرأي والموقف، أمام أنظمة شديدة البطش.
قدمت جوائز هذا العام لكل من عبد الرحمن الجندي من مصر في فئة “مقال الرأي”، عن مقاله المنشور في موقع المنصة، “أهناك حياة قبل الموت؟”، أما هديل عرجة من سوريا فقد فازت في فئة “التحقيق الاستقصائي” عن تحقيقها المنشور في موقعي “درج” و”تايني هاندز”، “البلوغ القسري في مخيمات الشمال السوري”، وفي فئة التقرير الإخباري السمعي البصري، فاز الصحفي اليمني أصيل سارية عن تقريره المصور “بسط عشوائي”، والذي أُنتج بدعم من شبكة “أريج للصحافة الاستقصائية.
قيود لا بد منها
بعد أن سافر عبد الرحمن الجندي إلى الولايات المتحدة الأمريكية نهايات عام 2020، تفاديًا للتهديدات بإعادة اعتقاله مرةً أخرى في مصر، وجد نفسه حبيسًا داخل جدران من العنصرية ضد العرب، عقب السابع من أكتوبر، ووقوع الإبادة الإسرائيلية في قطاع غزة. لامبالاة العالم كانت دافعه لكتابة مقاله “أهناك حياة قبل الموت؟”، “بسبب كتاباتي ومقالاتي انتهى الأمر بتواجدي في منفاي الحالي في أمريكا”؛ حيثُ شعر أن العالم من حوله إما أوطان تَسحق أو منافٍ تتعطش للسحق، لسحقنا، ولذلك جاء تساؤله، كيف نتخطي ونكسر الاستعلاء الغربي، في نظام عالمي لا تُعد دماؤنا من علامات فشله؛ بل هو صُمّمَ خصيصًا لذلك؟
يبدأ المقال بتساؤل مريد البرغوثي “أهناك حياة قبل الموت؟”، ثم يسير في دروبه الوعرة، بين المشاهد والتحليلات لينتهي بسؤال آخر: ماذا لو لم يكن هناك حياة قبل الموت؟ ماذا سنفعل كعرب؟ ومن سؤال إلى سؤال حتى ينتهي المقال دون الحصول على إجابة واضحة؛ لماذا؟ “لأن الحياة لا تمنحنا نهاياتٍ منمقة، والمقال يحتاج أحيانًا إلى أن يعكس هذا التعقيد ولا ينجرف وراء إغراء التلميع الزائد، وهذا هو ما كنت أسعى لتقديمه، من خلق وتسمية لهذه التساؤلات، ثم دفع القارئ لمطاردتها بعد الانتهاء من القراءة”، وذلك بحسب ما قاله الكاتب لمواطن.
يستطرد الجندي قائلًا: "أردت خوض هذا الاضطراب والوجع على الصفحة، للمساهمة في محاولة جماعية لتسمية الشر الذي نشهده ونعيشه، والذي يتفق الكثير منا على أنه غير مسبوق في حجمه ووحشيته، وما كشفه لنا هذا الشر عن مكاننا، وكيف نُرى ونستهلك في بلادنا وفي العالم".
نشأت هديل عرجة، كاتبة سورية، في بلد استقطابي النزعة، بلد يعاني من الحروب الداخلية، ويعيش بين ركام البعث العربي الاشتراكي وسيوف الجماعات الإسلامية المسلحة، وعلى الرغم من أنها على دراية جيدة بالتحديات التي تواجه الصحفيين في بلادها، درست الصحافة في العاصمة دمشق، وتخرجت في العام 2006.
قررت هديل التخصص في قضايا الأطفال بمناطق الحروب والصراعات، من خلال تأسيس منصة “tiny hand” منذ 5 سنوات، وبحسب تعبيرها فإن “التخصص في هذه القضايا ومتابعتها بعمق يضعك أمام قضايا مهمة عن الأطفال؛ خاصة في مناطق تمر بحروب منذ سنوات طويلة، ما يجعل تحديات البقاء على قيد الحياة كبيرة”.
واستمرت في تغطية قضايا وحوادث الأطفال في العالم العربي، حتى قرأت بيانًا صحفيًا لمنظمة دولية مفاده: “أن عام 2019 شهد ارتفاعًا واضحًا في العنف القائم على النوع الاجتماعي”، لماذا؟ لظهور حالات عنف جديدة يطلق عليها “البلوغ القسري”؛ لحظة واحدة. كان “البلوغ القسري” مصطلحًا جديدًا على أذن هديل وصادمًا، لأنها تعمل على تغطية قضايا الأطفال منذ سنوات طويلة؛ ومن هنا بدأت في طرح العديد من الأسئلة على نفسها؛ ما هو البلوغ القسري؟ من المسؤول عنه؟ ومن هم ضحاياه؟ وكيف يحدث؟ وما تلك الأدوية الهرمونية التي تسرع من حدوث الدورة الشهرية؟ وكيف تصل إلى يد الأهالي دون وصفات طبية؟ ومن هنا أيضًا جاءت فكرة التحقيق الصحفي المعنون بـ “البلوغ القسري في مخيمات الشمال السوري”.
وتقول لمواطن: “استغرق التحقيق عامين كاملين؛ خاصة وأن العمل على هذا التحقيق يتطلب درجات مختلفة من العمل؛ أهمها هو الوصول للمصادر المختلفة؛ من عاملين في المجال الإنساني، والفتيات الضحايا وأمهاتهن، بالإضافة إلى متابعة الصيدليات وآلية الحصول على الأدوية، إضافة إلى الإجراءات المختلفة من الناحية الأمنية للحفاظ على أمن الشخصيات التي قابلناها وعدم الكشف عن هوياتها، كما أن المستوى النفسي للعاملين على التحقيق لم يكن سهلاً أبدًا؛ فكم هو صادم ومؤلم الاستماع لهذه الشهادات؛ خاصة وأنك تتواصل مع منطقة تعاني من الحرب منذ أكثر منذ 13 عامًا، بما تمثله الحرب من تنقلات وموجات نزوح وتغيرات كبيرة على المستوى النفسي”.
"يعتبر التحقيق من التابوهات في منطقتنا، والتي لا يمكن الحديث عنها؛ بل ويفضل المجتمع غض النظر وعدم ذكرها، غير أن هذه الأمور موجودة في أي مجتمع يعاني من حرب أو فقر". حسبما عقبت هديل
حصل أصيل سارية صحفي وكاتب يمني، على شهادة البكالوريوس في العلاقات العامة والإعلام من جامعة “صنعاء”، وبدأ مسيرته الصحفية في عام 2013 بالعمل في قناة “اليمن اليوم”، ثم واصل العمل كمحقق صحفي لشبكة “أريج” (شبكة إعلاميون من أجل صحافة استقصائية عربية)؛ وهذا يعني أنه ولد ونشأ في بلد صعب المراس، وشديد الوطأة، بلد ليس كمثل البلاد، وحربه الأخيرة ليست واضحة المعالم؛ فالصراع الفلسطيني الإسرائيلي على سبيل المثال، صراع واضح على تعقيده، به طرف معتدٍ، وطرف يدافع عن نفسه بشكل قاطع لاسترداد حقوقه المسلوبة، أما في اليمن فالأمور مختلفة بعض الشيء، أطراف الصراع ليسوا واضحين، وهناك عشوائية في كل شيء منذ عام 2011، فبعدما شهدت البلاد احتجاجات شعبية تطالب بتغيير النظام، تطورت الأحداث بشكل متسارع حتى وصلت إلى حد الاقتتال والانقسام الطائفي، من يقاتل من تحديدًا؟ ليست هناك إجابة واضحة!
وفي ظل تلك الأحداث، والانقسامات في “شكل” السلطة، وقع عبء التغطية الأكبر على الصحفيين اليمنيين، ومنهم “أصيل”، الذي لفت انتباهه أن العشوائية في اليمن طالت كل شيء، حتى شكل المُدن، وهو ما استند عليه لإنجاز تحقيق “بسط عشوائي”؛ إذ كشف عن تعرض أماكن تاريخية في مدينة عدن جنوبي اليمن، للاستغلال والتعدي من قبل أشخاص وجهات رسمية، ويسلط الضوء على عمليات السطو التي طالت عددًا من المناطق الأثرية والتاريخية، الأمر الذي عرضها للتخريب والتشويه، وهدد بطمس هوية المعالم الأثرية والمعابد الدينية للطوائف المختلفة، وفي ظل تغاضي الدولة عمَّا يحدث.
وبحسب ما ذكره أصيل لمواطن: “إن الدولة قد ساهمت أيضًا في تقنين وضع تلك العشوائيات عبر توسيع الخدمات في تلك المناطق، وهو ما يهدد تسجيل مدينة عدن ضمن قائمة التراث العالمي، اليونسكو لعدم وجود مناطق أثرية صرف، وتداخل العشوائيات المستحدثة مع كل شبر في المدينة”. ثم استطرد قائلًا: “فكرة التحقيق قدمت لمنظمة “أريج” عام 2020 تقريبًا، ولكن بسبب جائحة كورونا والأحداث المتتالية، أُجّل التنفيذ حتى عام 2023، لكن هذا لم يكن العائق الوحيد؛ حيث إن المرور من شمال اليمن إلى جنوبها أمر صعب للغاية، ولذلك كان من واجبنا التنسيق مع مصادر صحفية ومجتمعية مهتمة بحماية المدينة، ليساعدونا بعلاقاتهم الأمنية على المرور والتصوير”.
"يعتبر التحقيق من التابوهات في منطقتنا، والتي لا يمكن الحديث عنها؛ بل ويفضل المجتمع غض النظر وعدم ذكرها، غير أن هذه الأمور موجودة في أي مجتمع يعاني من حرب أو فقر". حسبما عقبت هديل.
الجائزة.. ماذا تعني؟
أجاب عبد الرحمن الجندي: “تعد جائزة سمير قصير من أعرق وأهم الجوائز في عالم الصحافة العربية، وهو شرف عظيم أن أنضم لقائمة الفائزين السابقين، بمن فيهم الصحفي المصري الراحل محمد أبو الغيط، وأن أكون جزءً من هذا الزخم الصحفي الذي بدأ بـ سمير قصير نفسه”؛ فالجائزة توفر ضوءً كبيرًا وانتشارًا واسعًا للكلمات التي يكتبها الصحفيون العرب من وجهة نظره، كما أنها تخلق داخلها وحولها مجتمعًا خاصًا ومساحة نادرةً من الأقلام الشجاعة، والكتاب المُشتغلين والمُنشغلين بقضايا التحرر والعدالة الاجتماعية.
وعن أسباب التقدم للجائزة هذه المرة تحديدًا أردف قائلًا: “إن العامل الرئيسي في قراري بالتقدم للجائزة هذه المرة دون سواها، هو أن الكتلة الغالبة في لجنة التحكيم كانت من نصيب المُحَكمين العرب، وهذا ما طمأنني فعلًا؛ حيث إن رعاية الجائزة من قبل الاتحاد الأوروبي لم تمنع الصحفيين من استهداف سياساته تجاه المنطقة العربية، وخصوصًا فلسطين، بكلمات قوية وشديدة اللهجة”.
أما هديل عرجة فقد ردت بدورها: “إن هذه هي المرة الثانية التي تشارك فيها بجائزة سمير قصير؛ حيث وصلت عام 2023 إلى القائمة القصيرة بتحقيق استقصائي يتعلق بـ “الانتهاكات الجنسية التي يتعرض لها الأطفال الذكور في مخيمات الشمال السوري”، لكن الجائزة لم تكن من نصيبها، وتابعت بأنها اهتمت بالمشاركة في مرتين متتاليتين لأن: “الجائزة تعتبر من أهم الجوائز في المنطقة العربية، كما أن ارتباط اسمك باسم شخص ضحى بحياته في سبيل إيصال الحقيقة؛ هو أمر يدعو للفخر لأي صحفي، ففي الفترة التي اغتيل فيها سمير قصير كنت في السنوات الأخيرة من الجامعة، أما اليوم فأنا أحصل على تكريم يحمل اسمه، وفي ذلك فخر كبير وإنجاز أعتز به على كل المستويات”.
أما بالنسبة لأصيل سارية؛ فقد أقر أيضًا بأن جائزة سمير قصير مهمة للغاية على المستوى المادي والمعنوي؛ حيث يتنافس عليها الكثير من الصحفيين على مستوى الشرق الأوسط والعالم العربي، وربما العالم بأسره؛ ما يجعل الفوز بالجائزة إضافة مهمة وكبيرة لأي صحفي”. ثم استدرك قائلًا: “إن إحدى أمنياته أن يكون أول يمني يفوز بجائزة سمير قصير، مثلما كان أول يمني يترشح للجائزة عام 2017، ومثلما كان أيضًا أول يمني يفوز بجائزة “أريج” للتحقيقات الاستقصائية مرتين متتاليتين، ولذلك فقد تقدم للجائزة ثلاث مرات، مرةً عام 2017 ووصل للقائمة القصيرة عن تحقيق “أسياد وعبيد”، والمرة الثانية بعدها بعام واحد عام 2018؛ حيث وصل أيضًا للقائمة القصيرة، والمرة الأخيرة فهي تلك التي فاز فيها”.
جائزة سمير قصير والمسيرة الصحفية
وجهنا سؤالًا، هل تساهم الجائزة في تحسين مسيرة الصحفي الفائز فعلًا، أم أن تيار القمع العربي سيظل أقوى من جهود الصحفيين المستقلين؟ وقبل أن يجيب، شرد الجندي بذهنه قليلًا؛ ثم قال: “إن الإجابة تحتاج أولًا إلى تعريف ما نعنيه بالنجاح والفوز والأمل، ولكن من واقع تجربتي فالجائزة قد أثرت في قرار الكتابة ذاته والاستمرار بالاشتغال بها مع أمل شبه منعدم في تغيير قريب أو حتى بعيد في العالم العربي حاليًا”، ثم استطرد قائلًا: “أنا مؤمن تمامًا باليأس الجذري، وتأثرت في ذلك بتجربة السجن والاعتقال في مصر، تلك التجربة القاسية التي جعلتني موقنًا بأن الأمل قد يقتل أحيانًا، وقد يصبح مهلكًا أكثر من اليأس أحيانًا أخرى، وقد يؤدي إلى الإحباط أيضًا، ومن هنا أتت فكرة “اليأس الجذري”؛ حيث يفصل الإنسان نفسه عن النتائج كمعيار مؤثر في حساب قيمة السعي”.
“على سبيل المثال؛ قديمًا كنت دائمًا ما أفكر في الجملة “الكليشيهية” التي تقول بأن هناك (ضوءً في نهاية النفق)، ثم أفكر في فرضية أخرى مفادها؛ ماذا لو لم يكن هناك ضوء في آخر النفق؟ بل ماذا سيحدث إن كان النفق بلا نهاية؟ ماذا سنفعل؟” وقبل سؤاله عن “الحل” إن كان العذاب سرمديًا في عالمنا العربي؛ باغتنا بقوله: “إن الحل داخلنا نحن، فمن الأفضل لنا أن نعمل كي نصبح نحن الضوء (داخل النفق) بدلًا من انتظار الضوء خارج النفق، ومن هذا المنظور، أرى أن كتابنا وصحفيينا منتصرون وغير منكسرين، طالما كانت الأقلام مستمرة في الكتابة، ورغم كل شيء؛ يجب أن نتذكر المقولة الأيقونية للراحلة رضوى عاشور: “هناك احتمال آخر لتتويج مسعانا بغير الهزيمة، ما دمنا قررنا أننا لن نموت قبل أن نحاول أن نحيا”.
يمكن تلخيص قيم مؤسسة سمير قصير، بتعديل بسيط على الجملة من فيلم المصير بأن "القيم الحرة لا يمكن حجبها أبدًا".
فيما تابعت هديل قائلةً: “لأكون صريحة في تلك النقطة، نحن نعيش في منطقة مأزومة، يمكن فيها إسكات الصحفي بطلقة واحدة فقط وبكل سهولة، لكن رغم ذلك؛ فوجود مؤسسات مثل “سمير قصير”، تذكر بوجود هؤلاء الصحفيين، وأولهم سمير قصير نفسه، الذي اغتيل هو الآخر بسبب قلمه وكتاباته، فهذا الذي يشجعنا على المتابعة والاستمرار، فالجائزة تضيف لرصيد أي صحفي وتزيد من إصراره على تقديم المزيد في سبيل الحقيقة التي تحتاجها منطقتنا العربية اليوم”.
أما أصيل؛ فقد أشار إلى “أن تلك المعادلة يصعب حلها، نظرًا لوجود قوتين متوازيتين في المنطقة، قوة الصحفي وقوة القمع العربي؛ فمن جهة؛ هناك الكثير من الصحفيين ما زالوا مستمرين في الكشف عن الانتهاكات والفساد والاختلالات المتواجدة في الوطن العربي، ولكن من جهة أخرى هناك تيار قمع شديد الوطأة، أدى إلى اعتزال الكثير من الصحفيين للعمل الصحفي، والبحث عن عمل آخر، حيث إن القمع العربي مستمر، حتى في البلدان المتحررة نسبيًا”. ثم استدرك قائلًا “إن وجود جائزة مثل “سمير قصير” تشجع الصحفيين على الإنتاج والعمل، نظرًا لتقديمها التكريم والدعم المعنوي في ظل التثبيطات وكسر المعنويات المستمر، بل إن كثيرًا من الصحفيين يعملون بالأساس للتقديم في تلك الجوائز مثل سمير قصير، أو جائزة الصحافة العربية أو جائزة النجم الساطع.. وهكذا”.
خروج ضروري
هناك فائز آخر لم نتحدث عنه قبل ذلك لخصوصية موقفه في الوقت الراهن، إنه الصحفي الفلسطيني، محمد أبو شحمة، والذي استطاع رغم الحرب والدمار والاستهدافات المباشرة؛ أن يفوز بـ “جائزة الطلاب” عن التحقيق الاستقصائي، “تجار الحرب يضاعفون الأسعار”، والذي يكشف عن الممارسات الاحتكارية التي تفاقم من صعوبة وصول المواد الأساسية إلى قطاع غزة، واستغلال بعض “أغنياء الحرب” للعدوان الصهيوني الغاشم على المدنيين، والإبادة الجماعية المستمرة منذ السابع من أكتوبر، في زيادة أرباحهم.
يقطن محمد في غزة ويعيش أهوالها، وبالتالي يقع عليه، رفقة زملائه الصحفيين عبء تغطية جرائم ومجازر الاحتلال، وهو ما صعّب من عملية التواصل معه؛ خاصة في ظل التعنت الصهيوني، وانقطاع الكهرباء والإنترنت بشكل شبه كامل، ولكننا رغم ذلك؛ حاولنا الوصول إليه، وأرسلنا له رسالة نصية بتاريخ 13 من يونيو، نعبر فيها عن امتناننا للمجهود الذي يبذله وزملاءه في ظل تلك الظروف الصعبة، وندعوه للمشاركة ولو بكلمات قليلة عن رأيه في الجائزة، وما تمثله للصحفيين العرب؛ فجاء رده بالموافقة، “هلا بيك.. تمام”، هكذا بلا أية إضافات أخرى، وبناءً عليه أرسلنا له بعض الأسئلة في يوم 18 يونيو، ليرد عليها بعد أيام طالت بعض الشيء.
وقال أبو شحمة: “أنت تعمل في ظل حرب إبادة جماعية ليس لها مثيل، بلا إمكانيات أو إنترنت أو كهرباء، أو حتى مكان آمن للكتابة، إضافة إلى صعوبة التواصل مع المصادر، أو إقناعهم بمجرد الحديث، كما أن هناك خطرًا داهمًا على حياتك؛ سواءٌ من الأشخاص الذين يتعرض لهم التحقيق، أو من قوات الاحتلال المتربصة بالصحفيين تحديدًا، ورغم ذلك؛ بدأنا وكتبنا ووثقنا، وأثبتنا فرضية التحقيق رغم المخاطر، كما أقنعنا المصادر أن الامتناع عن الحديث يعني أن تلك الدولة ستظل تعيش تحت وطأة الفساد للأبد”.
وعند سؤاله عمَّا تعنيه جائزة سمير قصير للصحفيين العرب أردف قائلًا: “إنها تعتبر من أكثر الجوائز مهنية، وتضيف لسجل الصحفي المهني”، موضحًا أن الحصول عليها أو مجرد الدخول للقائمة القصيرة حدثٌ نادر في حد ذاته؛ خاصةً مع الزخم الذي تنتجه المؤسسة داخل الوطن العربي وخارجه؛ ثم بعدها قدم تحية خاصة لمؤسسة “occrp” الاستقصائية، مطالبًا بالمزيد من المنصات من هذا النوع؛ خاصة وأن وسائل الإعلام المحلية لا تدعم هذا النوع من التحقيقات بسبب الكثير من الأسباب والضغوط”.
جيزيل الراحلة الحاضرة
على الرغم من القيود والمخاطر التي تحيط بالصحفيين، من سجن وقتل وملاحقات قضائية أثناء ممارستهم لعملهم في العالم العربي، تأتي جائزة سمير قصير لدعم الصحفيين العرب، وتعزيز ثقافة حرية التعبير، إيمانًا من المؤسسة بأنّ حرية الصحافة هي حجر الأساس لبناء مجتمعات عربية ديمقراطية متقدمة.
وجاء حفل توزيع الجوائز هذا العام، دون الراحلة جيزيل خوري، وإن حضرت قيمها في الدفاع عن حرية الصحافة والتعبير، والعدالة والتسامح، وغيرها من القيم التي تُعد أيضًا قيم سمير قصير، والمؤسسة التي تحمل إرثه، وبالرغم من اختلاف أسماء الفائزين، وكذلك أسماء المشاركين في لجنة التحكيم كل عام، لكن تبقى القصة واحدة، الصحفي في مواجهة القمع، بمساندة قيم الحرية، ومحاولة كشف الحقيقة، والدفاع عن الحقوق الغائبة يدفعانه إلى الاستمرار. وهنا يمكن تلخيص قيم مؤسسة سمير قصير، بتعديل بسيط على الجملة من فيلم المصير بأن “القيم الحرة لا يمكن حجبها أبدًا“.