عبد النبي العكري، من الشخصيات البحرينية الحقوقية والسياسية المؤثرة في المشهد العربي عبر مراحل تاريخية مختلفة. أما في المشهد البحريني فتأثيره كان مختلفًا لأنه مازال نشطًا حتى اليوم، ولم يتوقف قط عن البحث عما هو في صالح العمل السياسي والحقوقي، رغم تبدل الزمن والتحديات التي تصاحب كل مرحلة من مراحل البحرين سياسيًا، اقتصاديًا، اجتماعيًا.
ينتمي إلى جيل الستينيات -جيل والدي ووالدتي-، جيل الزمن الجميل الذي شهد تحولات عميقة في المنطقة. نشأ واعيًا، وعاش متنقلًا في المنافي، مناضلًا، كادحًا، مثقفًا، معطاء بلا استثناءات. تعرفه ظفار قبل البحرين، وتعرفه عدن قبل البحرين، وتعرفه بيروت قبل البحرين، وتعرفه دمشق قبل البحرين. “تواجدي في مختلف البلدان تحدده المهام التي يتطلبها العمل النضالي، ومهام الجبهة التي انتمي اليها”. حد تعبيره.
جمعتني لقاءات كثيرة مع العكري، لكن هذا اللقاء بلاشك كان الأكثر تأثيرًا وقربًا، في وقت تشهد فيه المنطقة العربية تحولات سريعة وساخنة. تحدث فيه عن البحرين وأوضاعها، كما تناولنا أسفاره ومسار نضاله في المنفى، ثم العودة إلى البحرين، وبالقطع حول القضية الأبرز والأكثر عدلًا فلسطين وحرب غزة.
الكثير من المنظمات الحقوقية والمجتمعية تتلقى تمويلاً من مؤسسات غربية يفترض استقلاليتها، لكنه في ضوء انحياز هذه الحكومات للكيان الصهيوني فقد قطعت أو هددت بقطع تمويلها إذا ما ناصرت الشعب الفلسطيني. وحتى في أمريكا التي تتباهى بالحريات فقد جرى تحريم عمل منظمات طلابية فلسطينية وصديقة بتهمة معاداة السامية.
وعن نضاله في ظفار قال: “ذهلت عندما وصلت إلى ظفار من آثار الحرب المدمرة للقرى وسكون ومزارع وآبار المواطنين، من قبل الطيران والمدفعية البريطانية ثم الإيرانية. كما استوقفني الفقر الشديد والتخلف والعزلة عن العالم الخارجي”.
كما يعتقد “أن البحرين رغم صغر مساحتها وقلة سكانها ومحدودية موارد المجتمع المدني، كان لها سمعة جيدة خليجيًا وعربيًا ودوليًا، كرائدة لدور المجتمع المدني ومنظماته التطوعية، ولكن ذلك تراجع كثيرًا بسبب تقييد وتحجيم وتهميش منظمات المجتمع المدني المستقلة”. ورأى أيضًا أن حرب غزة أسقطت ادعاءات الدول الغربية والكثير من مؤسساتها، في طرح نفسها كمدافع عن القيم الإنسانية والديمقراطية والقانون الدولي والمواثيق الدولية لحقوق الإنسان.
1- على الرغم من دراستك للهندسة الزراعية في الجامعة الأميركية في بيروت، انتقلت لعالم السياسة وحقوق الإنسان. كيف حدث هذا التحول؟
أثناء دراستي في الجامعة 1964- 1967، كان بالإمكان اختيار مواد لا تتعلق بصلب التخصص، ولاستكمال الرصيد الدراسي، ومن ضمن ما اخترته مادة العلوم السياسية، وموضوعها الأمم المتحدة، وكان يدرسها البروفيسور الفلسطيني فايز الصايغ المعروف بغزارة علمه. ومن خلال ذلك تعرفت على موضوع حقوق الإنسان وارتباطه بالأمم المتحدة. أما اهتمامي بحقوق الإنسان في المنفى وانغماسي فيها فقد بدأ في 1981 بتشكيل لجنة الدفاع عن حقوق الإنسان في البحرين.
النضال في المنفى
2- ما طبيعة المضايقات الأمنية التي تعرضت لها داخل البحرين في 1970؟ ولماذا تم نفيك خارج البلاد؟
عملت في البحرين بعد التخرج أربع سنوات كمهندس زراعي في دائرة الزراعة ما بين 1967- 1970، لكني كنت منتميًا للجبهة الشعبية المحظورة في البحرين، ومارست العمل السياسي والنضالي المحظور أيضًا حينها، كما نشطت في العمل التطوعي من خلال نادي الديه وغيره، لذا كنت تحت المراقبة واعتقلت لفترات قصيرة.
لكن أثناء وجودي في إجازة في الخارج، أضحيت مطلوبًا للأمن، وكان تقييم الرفاق في الجبهة الشعبية لتحرير الخليج العربي المحتل اليسارية، حينها أن أتطوع في ظفار في مجال الزراعة وهكذا كان، وامتدت سنوات المنفى حتى العودة إلى الوطن في بداية 2001.
3. حدثنا أكثر عن تجربة التطوع والنضال في ظفار؟
نضالي في ظفار كان من أجل أهل ظفار في ظل الحرب والتخلف الشديد. تطوعت مثلما تطوع بحرينيون في مجالات التعليم والصحة وغيرها، وبالنسبة لي كمهندس زراعي فقد تطوعت من أجل تطوير الزراعة، وتوفير بعض الاحتياجات الغذائية في ظل الحصار والحرب.
ذهلت عندما وصلت إلى ظفار من آثار الحرب المدمرة للقرى وسكون ومزارع وآبار المواطنين من قبل الطيران والمدفعية البريطانية ثم الإيرانية. كما استوقفني الفقر الشديد والتخلف والعزلة عن العالم الخارجي. في ظل ظروف الحرب باشرت مع متطوعين من المناضلين والمواطنين إنشاء مزرعة من أجل التدريب والإرشاد وتجربة المحاصيل. ومن هنا جرى اختيار الجبهة لما يقارب 15 شابًا ذوي ممارسة زراعية من أجل تدريبهم.
4. كيف تقيم التجربة والرحلة في ظفار؟ بمعنى آخر؛ ما أهم الإيجابيات والسلبيات بعد التجربة؟
من أهم إيجابيات التجربة استعداد المناضلين والمواطنين للتطوع للعمل في مشروع لا يخصهم شخصيًا، ولكن يأملون فيه خيرًا للمجتمع. وعلى امتداد السنوات التي ناضلت في صفوفهم فلقد لمست لديهم إيثار الآخر على النفس وتقاسم كسره الخبز. كذلك احترامهم وحرصهم على المتطوعين العرب، فلم يمس أي شخص منهم في ظل الخلافات التي عصفت بعض الأحيان.
أما السلبيات فهي أنه مهما بلغت بلاغة مواثيق وشعارات أي ثورة من أجل تغيير الواقع المتخلف والانتماءات القبلية، وغيرها؛ فإن ذلك لا يفيد، إذا لم يكن هناك تحديث للمجتمع بتطوير الاقتصاد والتعليم والصحة والعمل، وثقافة وقيم المجتمع السائدة وتنظيم المجتمع على أسس مدنية.
كثيرة هي الدروس، والمهم أنني حتى اليوم أحتفظ بصداقات من تعرفت عليهم وعلى أبنائهم أثناء النضال بمن فيهم من اختلفت معهم. ومن أضحوا في مواقع مسؤولية في الدولة.
5. بجانب سلطنة عمان، هاجرت وعشت بين سوريا واليمن ولبنان، لماذا هذا الترحال والتواجد في كل هذه البلدان؟
تواجدي في مختلف البلدان تحدده المهام التي يتطلبها العمل النضالي ومهام الجبهة التي أنتمي إليها؛ ففي البداية عشت في ظفار كمهندس زراعي متطوع مسؤول عن مزرعة التدريب والتجارب في المنطقة الغربية من ظفار، وعشت حياة متقشفة جدًا كواحد من المناضلين وسط مخاطر الحرب والقصف الجوي المباغت، وقد أصبت في إحدى هذه الغارات. لكن الحياة هناك مليئة بالآمال ومشاعر المحبة لأصحاب قضية واحدة، والأحزان المترتبة على مصائب الحرب.
بعد النضال في ظفار انتقلت في مطلع السبعينيات من القرن الماضي إلى عدن؛ حيث كنت متطوعًا في إعلام وخارجية الجبهة، مع زيارات لظفار من وقت لآخر. وهنا بالإضافة إلى العيش مع الرفاق العمانيين؛ فقد عشت وسط المجتمع اليمني في عدن في ظل سلطة يسارية، بقدر ماكانت مليئة بحلم تحقيق طموحات اليمن الديمقراطي الموحد، واليسار العربي والأممي، فقد ابتليت بالصراعات الداخلية اليمنية المدمرة.
السلطة في عدن وبحكم التزامها بدعم الجبهة قدمت ما بإمكانها، إضافة لعلاقات حميمة ما بين المسؤولين اليمنيين بقيادات الجبهة. بالنسبة لليمنيين؛ فلم أشعر أنني غريب بينهم بل العكس، دخلت بيوتهم وتعرفت على عائلاتهم، وقد وفقني الله وتزوجت رفيقة دربي السيدة أفراح هيثم، وما زالت صداقاتي قائمه مع العديد من اليمنيين.
مهامي في الجبهة ترتب عليها التجوال في اليمن الجنوبي، ولاحقًا في زيارات لليمن الشمالي ثم اليمن الموحد بعد 1990. اليمنيون طيبون جدًا وكرماء وحميمون، ولم أتعرض طوال حياتي بينهم لأي إساءة أو مضايقة. هم يحلمون بالوحدة وعودة أمجاد اليمن، لكن واقع التجزئة لقرون، والانتماءات القبلية والمناطقية والتخلف يفجر الأوضاع تكرارًا، ويتيح التدخلات الخارجية ليحدث التمزق، وهو ما عاشه ويعيشه اليمن الآن من تمزق وحروب.
ومن المهم التنويه إلى أن اليمن الديمقراطي ثم اليمن الموحد (الجمهورية اليمنية) منحتنا جوازها دون قيود واشتراطات، في حين حرمنا من جوازاتنا البحرينية، وقد أعدت جوازي اليمني إلى السفارة اليمنية بدمشق مع الامتنان قبل العودة للوطن في 2001.
6. ماذا عن التواجد في لبنان وسوريا؟
مهامي في الإعلام والخارجية؛ سواء أكانت في الجبهة الشعبية في عمان أو البحرين، تتطلب السفر إلى مختلف البلدان العربية والأجنبية، والمهم هنا أنه في جولاتي على لجان مناصرة الثورة، ثم مناصرة الديمقراطية في الخليج وأوروبا وأميركا، وحضور فعاليات لطلبة البحرين أو الخليج فقد كنت حريصًا أن أسكن في بيوتهم أو سكناهم كواحد منهم.
بعد انتهاء مهامي مع الجبهة الشعبية في عمان، عدت لممارسة مهامي في الجبهة الشعبية في البحرين. انتقلت للعيش متنقلاً ما بين لبنان وسوريا. كانت سياسة الجبهة الشعبية في البحرين هو الاعتماد على النفس، وذلك يتطلب أن نكسب عيشنا. من هنا عملت مع الرفيق المناضل المرحوم عبد الرحمن النعيمي في مشاريع دور النشر، كـ “الحقيقة برس”، ثم “دار الحضارة الجديدة” وأخيرًا “دار الكنوز الأدبية”، وهو مشروع يؤمن دخلاً دون قيود، وفي ذات الوقت هو ذو دور حضاري تنويري، فيما عمل رفاق آخرون في مؤسسات فلسطينية إعلامية وبحثية.
في لبنان؛ لم تكن هناك ضغوط من السلطات اللبنانية؛ حيث المقاومة الفلسطينية، والتي كنا نعمل ونسكن في مناطق سيطرتها (بيروت الغربية)، لكن المخاطر الأمنية تتمثل في صراعات الفصائل الفلسطينية والغارات والتفجيرات الإسرائيلية وقصف الفريق اللبناني المعادي في ظل الحرب الأهلية، والذي يشعرك بالقلق وفقدان الأمان. ومنتصف السبعينيات في لبنان عشنا على كاهل اللبنانيين وضيوفهم الفلسطينيين والعرب، ونسجنا علاقات حميمة معهم مستمرة حتى الآن.
بالنسبة لسوريا فقد انتقلت إليها بعد الاجتياح “الإسرائيلي” في 1982، كالعديد ممن عاشوا في ظل المقاومة الفلسطينية، وكان الخروج من بيروت إلى المنافي نكبة ثانية. في سوريا لايحتاج العربي مثلنا تأشيرة دخول أو تأشيرة للإقامة، أو ترخيصًا للعمل؛ بل يستطيع ممارسة الأعمال الحرة بكل يسر كتقليد سوري راسخ، وهو ما قمنا به كأصحاب لدار الكنوز الأدبية. في السنوات التي عشتها مع عائلتي الصغيرة، كنا نعامل مثل السوريين، ولا نشعر بالغربة، ونختلط بهم. ومما قلل من شعورنا بالغربة هو وجود عدد كبير من طلبة البحرين وجالية يمنية من جهة الزوجة. كان لبعض منظمات المعارضة العربية ومنها البحرينية مكاتب في دمشق، وحرية نسبية بالعمل لقضاياها الوطنية. ولكن كانت هناك ضوابط مشددة في ظل حكم البعث والأسد، يتوجب مراعاتها، ولكن يحدث تضارب أحيانا. بالنسبة للرفيق المرحوم عبد الرحمن النعيمي (أبو أمل) فقد اعتقل وسجن لعدة أشهر بسبب توقيعه مع آخرين على بيان يطالب بعدم انضمام الدول العربية لأمريكا في حربها لتحرير الكويت من الاحتلال الصدّامي، وبأن يقوم العرب بهذه المهمة. وبالنسبة لي فقد استدعيت مرارًا للتحقيق ومنعت من السفر بسبب وجودي مع حقوقيين سوريين في نشاطات حقوقية في الأمم المتحدة، بحكم انتماء جمعيتنا مع جمعيات أخرى للفيدرالية الدولية.
العودة للبحرين
إن نضالي العلني في الوطن في مجال حقوق الإنسان والشفافية والمجتمع المدني، هو استمرار طبيعي لنضالي في المنفى ولكن بشكل أوسع وأكثر فعالية وعلني وبحرية، ولا يقتصر على البحرين؛ بل يشمل الجوار الخليجي والوطن العربي والعالم، فقضية حقوق الإنسان عالمية الأبعاد وإنسانية القيم.
7- بعد كل هذه التنقلات والنضال من المنفى؛ كيف عدت للبحرين مرة أخرى؟
عندما تتالت تطورات التغيير بوصول جلالة الملك حمد بن عيسى آل خليفة للحكم في 1999، تفاعلنا معها بوعي وإيجابية، وتواصلنا مع الرفاق في الداخل، وكان همنا المشاركة في الإصلاح الشامل والرجوع بأسرع وقت دون ترتيب عيشنا أو سكننا. وأذكر هنا حفل توديع مجموعة من المناضلين لنا قبل رجوعنا للوطن في 28 من فبراير 2001، وقول أحدهم “لولا أننا نثق بوطنيتكم لقلنا إنكم تعودون للمشاركة في المنافع”.
8- كيف كانت العودة للبحرين؟ وحدثنا عن شعورك حينها؟
كانت عودتي مع عائلتي وعائلة الرفيق المناضل عبد الرحمن النعيمي، ومناضلين بحرينيين مقيمين في لبنان في 28 من فبراير 2001. كان الرجوع إلى الوطن والاستقبال في المطار عاطفيًا ويفوق الخيال. ونحن في طائرة طيران الخليج من دمشق إلى البحرين، كان تعامل طاقم الطائرة حميمًا. كان في استقبالنا بعد الخروج من الطائرة بعض الرفاق، ومنهم يوسف الخواجة وموسى الموسوي في عناق حميمي. ورغم انتظارنا الموافقة الأمنية فقد كان تعامل الأمن والجمارك معنا طيبًا. لكن المفاجأة كانت عند خروجنا لاستقبال المطار؛ فقد كان بانتظارنا المئات من الأهل والرفاق والأصدقاء وحملونا، أبو أمل وأنا، على الأكتاف، وترددت الهتافات الوطنية والتقطت علم البحرين ملوحًا به.
استغرق وصولنا كلاً إلى وجهته في موكب عفوي وقتًا طويلاً، وأنا مندهش أتطلع في وجوه كثيرين لا أعرفهم، ومعالم الشوارع التي تغيرت كثيرًا. وعند وصولي إلى بيتنا في الديه، كانت مفاجأة مفرحة؛ لافتات الترحيب بي، وكذلك التعبير عن الفرحة بالوصول بذبح خروف بلل دمه قدمي، وكان استقبال المهنئين من أبناء القرية عفويًا لساعات وعلى امتداد ثلاثة أيام. كان المواطنون من مختلف مناطق البحرين من مختلف الانتماءات يتدفقون للتهنئه في مأتم حجي خميس. وهذا ما كانت تشهده مختلف مناطق البحرين احتفاءً بالعائدين إلى الوطن. كما نظمت حفلات احتفاء جماعية في الفنادق والأندية.
9- بعد العودة إلى البحرين في 2001 قمت مع آخرين بتأسيس جمعية العمل الوطني الديمقراطي (وعد)، التي تم حلها في 2017. فما هي التحديات التي واجهتها الجمعية؟
كانت البحرين تعيش عرسًا وطنيًا ومصالحة وطنية، حتى ما بين المتخاصمين سياسيًا. وفي هذه الأجواء طرح مشروع وحدة اليسار؛ حيث سبق أن جرى تداول وثيقة التجمع الوطني الديمقراطي فيما بين كوادر التنظيمات اليسارية الثلاثة (الشعبية والتحرير والبعث) والمستقلين. جرى التوافق على تشكيل لجنة تحضيرية من 43 شخصية تمثل الجهات الأربع للتحضير للمؤتمر التأسيسي للتجمع، وإعداد الوثائق المطلوبة، ومنذ 21-4-2001 عقدت الاجتماعات في بيت أبو أمل أولاً ثم في نادي العروبة.
وفي 10 من سبتمبر 2001 جرى الترخيص لجمعية العمل الوطني الديمقراطي (وعد)، بطلب تقدم به عبد الرحمن النعيمي نيابة عن المؤسسين، كأول جمعية سياسية في البحرين والخليج العربي، كثمرة لنضال أجيال من أبنائه. وفي الثاني من أكتوبر 2001 عقد المؤتمر التأسيسي للجمعية؛ حيث أقر برنامج الجمعية ونظامها الأساسي وانتخاب هيئتها الإدارية، والتي ضمت عناصر من الجبهة الشعبية والمستقلين.
هناك عدة عوامل حالت دون نجاح المشروع التوحيدي لليسار، لكن تواصل العمل لإقامة جمعية وطنية ديمقراطية باتجاه يساري، فكان مشروع جمعية العمل الوطني الديمقراطي. وقد كنت من بين أعضاء اللجنة التأسيسية والجمعية العمومية، والتي انعقدت في نادي العروبة. وانتخبت كعضو في اللجنة المركزية، لكنني لم أرغب في الانضمام إلى الهيئة الإدارية أو تقلد أي مركز قيادي، لأنني كنت مصممًا أن أكرس معظم جهدي للعمل الحقوقي والشفافية، مما يتطلب عدم التضارب مع المهام السياسية.
وفي 2011 استقلت من اللجنة المركزية ضمانًا لمنع أي تضارب البتة، لكنني ظللت نشطًا في جمعية (وعد) والعمل الوطني. وبقيت مناضلاً في صفوف (وعد) حتى حلها بقرار من المحكمة الإدارية بتاريخ 31 من مايو 2017.
إن نضالي العلني في الوطن في مجال حقوق الإنسان والشفافية والمجتمع المدني، هو استمرار طبيعي لنضالي في المنفى ولكن بشكل أوسع وأكثر فعالية وعلني وبحرية، ولا يقتصر على البحرين؛ بل يشمل الجوار الخليجي والوطن العربي والعالم، فقضية حقوق الإنسان عالمية الأبعاد وإنسانية القيم.
أما فيما يخص الجمعية البحرينية للشفافية فهو موضوع جديد مطروح على المجتمع المدني في البحرين في مرحلة الانفتاح. من هنا كنت ضمن اللقاءات التشاورية لتشكيل الجمعية البحرينية للشفافية، والتي أشهرت في يوليو 2001 كأول جمعية في الخليج العربي مهتمة بالشفافية ومكافحة الفساد. وعقدت الجمعية العامة للجمعية وأقرت برنامج الجمعية ونظامها الداخلي، وانتخاب أول مجلس إدارة، ويرأسه د. جاسم العجمي. تطوعت في مهام الجمعية داخل البحرين وخارجها، ومن ذلك مراقبة الانتخابات في البحرين وفي عدد من البلدان العربية، وهي مهمة تتطلب قدرًا كبيرًا من الحنكة والنزاهة ومقاومة الضغوط. وفي الدورة الثالثة للجمعية العامة في 2008 جرى انتخابي رئيسًا للجمعية لدورتين متتاليتين،ثم طلبت إعفائي، لكنه أمام إصرار الأعضاء انتخبت مسؤولاً للعلاقات الخارجية، وانتخب الصديق شرف الموسوي رئيسًا للجمعية. وبغض النظر عن موقعي في الجمعية فقد بذلت جهدي إلى جانب أعضاء مجالس الإدارة والأعضاء في أداء رسالة الشفافية والنزاهة ومكافحة الفساد، وهي مهمة شبه مستحيلة في وطننا العربي. ومنذ 2010 والجمعية عضو كامل في الشفافية الدولية وعدد من المنظمات والشبكات المعنية بالشفافية، بما في ذلك الشبكة العربية لتعزيز النزاهة والشفافية التابعة لصندوق الأمم المتحدة الإنمائي (UNDP).
العمل الحقوقي
10- بحكم المسيرة، ما التحديات التي واجهتها كناشط سياسي وحقوقي؟
السياسي والحقوقي متداخلان في وطننا البحرين وبلداننا العربية والعالم، وإن الحرمان من أبسط الحقوق السياسية، وغياب الحريات العامة وخصوصًا السياسية والمدنية، إلى جانب أوضاع أخرى يؤدي إلى انتهاك حقوق الإنسان.
في بداية تكويني السياسي في الجامعة الأميركية في بيروت، لم تكن قضية حقوق الإنسان مطروحة في تنظيم الجبهة الشعبية ولا في الحياة السياسية. واجهت الموضوع لأول مرة عندما قام ثوار ظفار بالهجوم على مرباط في 1972، ووقع بعضهم في الأسر، وقيل إنه ستجري محاكمتهم أمام محكمة دينية، كنت حينها متطوعًا في إعلام الجبهة؛ فأرسلت برقية إلى منظمة العفو الدولية نطالبها بإرسال وفد لمراقبة المحاكمة، ولقاء المتهمين للتأكد من عدالة المحكمة وسلامة أوضاعهم. وما عرفته أن العفو الدولية قامت بالاتصالات، وإن لم ترسل وفدًا، ولكن ما طمأنني حينها أنه لم يحكم على أحد منهم بالإعدام وهو ما كنا نتخوف منه.
لكن ولوجي إلى عالم الحقوق جاء مع مجموعة من البحرينيين المنفيين في بداية الثمانينيات مع تصاعد واتساع انتهاكات حقوق الإنسان في البحرين، في ضوء تصاعد الاحتجاجات. وفي ديسمبر 1981 أعلنت حكومة البحرين عن اكتشاف مؤامرة انقلابية، وجرت محاكمة 73 متهمًا أمام محكمة أمن الدولة، وصدر الحكم في أبريل 1982 بالسجن لمدد متفاوتة، والإعدام لثلاثة منهم، لكنه لم ينفذ. هنا تحركنا كمجموعة من النشطاء السياسيين في المنفى لتشكيل لجنة لتمثيل أهالي المعتقلين السياسيين، وبدأنا الاتصال بالمنظمات الحقوقية اللبنانية والعربية والدولية.
وفي ضوء مراجعة التجربة وقصورها، ارتأينا أن نشكل جمعية حقوقية بمعايير مهنية وحقوقية. وهكذا التقى عدد من النشطاء السياسيين المهتمين بحقوق الإنسان ومنهم أنا، وقررنا تشكيل اللجنة البحرينية لحقوق الإنسان، وفي 1983 قام عضو اللجنة هاني الريس بتسجيلها في كوبنهاجن لتسهيل مهامها وإكسابها الصفة القانونية. وقد تم اختياري منسقًا للجنة. حينها كنت بالطبع منغمسًا في العمل السياسي المعارض سلميًا. من هنا كان لابد من وضع خط فاصل باستقلالية اللجنة عن المعارضة السياسية، وأن تلتزم اللجنة وأعضاؤها بالمعايير الحقوقية والنزاهة والموضوعية في أعمالها.
هنا برزت إشكالات، ففي الوقت الذي يحق لي ممارسة العمل السياسي السلمي والمطالبة بحقوقي وحقوق شعبي السياسية وغيرها؛ فإنه يجب أن أتصرف كحقوقي في ممارسة مهام اللجنة. المعادلة صعبة جدًا؛ خصوصًا أن ضحايا الانتهاكات ومن يرتبط بهم يريدون الإنصاف ومحاسبة المعتدي دون الالتفات إلى الجوانب القانونية والوقائع، في ظل أوضاع تفتقد لأدنى ضمانات قانونية في معاملة الدولة وأجهزتها الأمنية والمخابراتية والقضائية للخصوم والمعارضين. هنا تبرز إشكالات كثيرة مع المنظمات الحقوقية الدولية، وأجهزة الأمم المتحدة المعنية بحقوق الإنسان، والتي تتوقع أن تقدم لها قضايا وتقارير مقنعه ومثبتة بالوقائع ومستندة إلى الاتفاقيات والقوانين والمعايير الدولية.
أما الإشكالية الثانية فهي أنه بالرغم مما ورد في دستور مملكة البحرين والنص على حقوق الإنسان للمواطن والمقيم، وكذلك حق المواطنين في تشكيل الجمعيات الأهلية ومنها جمعيات حقوق الإنسان، والقيام بواجباتها دون تدخل الدولة، ورغم تصديق مملكة البحرين على الاتفاقيات الدولية التي تنص على حرية منظمات المجتمع المدني وحماية نشطاء حقوق الإنسان، إلا أن هناك قيودًا كثيرة تكبل العمل الحقوقي؛ فالجمعيات المستقلة تتعرض للقيود والعقوبات، والمتطوعون لحقوق الإنسان يتعرضون للتضييق عليهم ويمارس الإعلام التشهير بحقهم ويواجهون الاعتقال والسجن وعقوبات أخرى.
في بداية عصر الانفتاح، كان هناك هامش معقول للعمل الحقوقي وللمنظمات الحقوقية، وضمانات معقوله للنشطاء، ولذلك ازدهر العمل الحقوقي وكثر المتطوعون وخصوصًا الشباب، ولكن كل ذلك تغير عكسيًا. منظمات المجتمع المدني وخصوصًا الجمعيات الحقوقية انحسر نشاطها وتراجع الإقبال عليها من قبل الشباب، بحيث شاخت وتراجعت فعالياتها وقل حضور فعاليتها.
وجدت نفسي مثل الآخرين محاصرًا وأسير على حبل مشدود، ومثلي مثل آخرين عندهم الخبرة والمعرفة والطاقة والرغبة في خدمة حقوق الإنسان، والمساهمة في تأهيل الجيل الجديد وتجديد المنظمات الحقوقية لتواكب العصر في عالم متغير وتحديات جديدة لحقوق الإنسان، لكننا مشلولون؛ حيث اضطر العديد لأن يكونوا في المنافي ويشكلوا فيها منظمات حقوقية يعملون من خلالها، وهذا تعبير عن أزمة عمل حقوق الإنسان في الوطن.
11- دخلت مجال حقوق الإنسان والكتابة في الصحافة، بالإضافة إلى النشاط في المجتمع المدني؛ وخصوصًا في الجمعية البحرينية لحقوق الإنسان، ووفرت للجمعية الكثير من الجهود لمعرفتك مداخل ومخارج النشاط الحقوقي على المستوى الدولي، حدثنا عن ذلك.
فعلا أتاحت لي سنوات العمل في المجال الحقوقي ضمن لجنة الدفاع عن حقوق الإنسان في البحرين -رغم الموارد المحدودة- الانخراط في مجال حقوق الإنسان والتعرف على آلياته وقوانينه، وتعاون اللجنة مع المنظمة العربية لحقوق الإنسان، وعضوية الشبكة العربية للمنظمات غير الحكومية للتنمية، وعالميًا نيل عضوية الفدرالية الدولية لحقوق الإنسان. وذلك أتاح لي التعرف على شخصيات حقوقية عربية ودولية، وحضور العديد من المؤتمرات والندوات في بلدان عربية وأجنبية، وعضوية الفدرالية أتاحت لنا الدخول في آليات الأمم المتحدة لحقوق الإنسان، وتقديم التقارير وحضور الجلسات، بما فيها المشتركة مع الحكومات وممثلي الأمم المتحدة. وأذكر هنا صدور قرار من لجنة خبراء الأمم المتحدة لحقوق الإنسان لأول مرة في 1997، يدين فيها الانتهاكات في البحرين ويطالب الحكومة بوقفها ومحاسبة المنتهكين والتصديق على الاتفاقيات الدولية الأساسية لحقوق الإنسان، ويوصي بإحالة القضية لأعلى هيئة حينها، وهي لجنة حقوق الإنسان التي تحولت لاحقًا إلى مجلس حقوق الإنسان. على أثر ذلك وقعت حكومة البحرين على اتفاقيتي مناهضة التعذيب وحقوق الطفل.
كما أنني كرست هذه المعارف لصالح الجمعية البحرينية للشفافية ومنظمات المجتمع المدني الأخرى، والتي انتظمت في تحالفات مثل مرصد البحرين لحقوق الإنسان، وتنظيم مؤتمر آفاق التحولات الديمقراطية في البحرين في فبراير 2002 من قبل نادي العروبة والمؤتمر الموازي للديمقراطية في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، في نوفمبر 2005 من قبل تحالف جمعيات أهلية، وكانا حدثين بارزين بامتياز.
بالطبع لست وحدي من أسهم في هذا الجهد؛ بل هناك آخرون أسهموا دون حدود، لكن بعضهم عوقب بالسجن أو المنافي. وكان مطلبي هو مطلب شعب البحرين بأن ينال هؤلاء الحريه؛ بل أن يكرموا وأن تستعاد الحقوق والحريات، ويستعيد المجتمع المدني دوره في بناء الوطن وخدمة المجتمع والشراكة مع الدولة.
من أولى الخطوات التي اتخذناها في لجنة الدفاع عن حقوق الإنسان في البحرين هي حلها والتحاق جميع أعضائها بالجمعية البحرينية لحقوق الإنسان، وطلب تحويل عضوية اللجنة إلى الجمعية في المنظمات العربية والدولية، ومن ذلك الفيدرالية الدولية لحقوق الإنسان، والمنظمة العربية لحقوق الإنسان، والشبكة العربية للمنظمات غير الحكومية للتنمية، والاستفادة من علاقات اللجنة لصالح الجمعية.
عندما رجعت إلى الوطن كانت هناك إدارة منتخبة للجمعية، وترأستها د. سبيكة النجار، وأشكر الإدارة والإدارات اللاحقة لثقتها بي؛ حيث رافقت الإدارة في لقاءات مهمة وكلفت بمهام حيوية ومثلت الجمعية في اجتماعات حقوقية للأمم المتحدة في جنيف. كرست خبرتي ومعرفتي لتدريب الأعضاء على حقوق الإنسان، والتأليف ومختلف المهام، وكانت فترة مهمة مشحونة بالآمال والعمل النشط على مختلف المستويات والمجالات. ولقد شهدت فترة الانفتاح هذه خلافات في الجمعية واجتهادات متضاربة، وحاولت جهدي مصالحة الطرفين، وعارضت إقالة المحتجين حتى بعد تشكيلهم مركز البحرين لحقوق الإنسان. ومنذ ذلك الوقت وأنا منخرط في الدفاع عن حقوق الإنسان في البحرين وحيثما تطلب الأمر ذلك.
12- كيف تقيم المتغيرات الحاصلة في دور مؤسسات المجتمع المدني في البحرين؟
المتغيرات الحاصلة في المجتمع المدني ومنظماته سلبية للغاية، وتتمثل في تراجع نشاطات وفعاليات غالبية منظماته، وشراكتها مع مؤسسات الدولة وتأثيرها على سياسات الدولة وتشريعاتها. ويعود ذلك للقيود والسياسات السلبية الرسمية، حيث أدى ذلك إلى خوف وتردد الشباب -وهم عماد المجتمع المدني- من التطوع في منظماته. وبالمقابل يتم دعم جمعيات نفعية لمناهضة الجمعيات الحقيقية أو لتلميع صورة الدولة في المؤسسات والمنتديات الدولية.
أيضًا كان للبحرين رغم صغر مساحتها وقلة عدد سكانها ومحدودية موارد المجتمع المدني، سمعة جيدة خليجيًا وعربيًا ودوليًا كرائدة لدور المجتمع المدني ومنظماته التطوعية، ولكن ذلك تراجع كثيرًا بسبب تقييد وتحجيم وتهميش منظمات المجتمع المدني المستقلة، وإني حزين مثل الآلاف من البحرينيين على ذلك.
13- دخلت تجربة الكتابة عبر كتابة السيرة الذاتية والتوثيق. كم كتابًا أنجزت؟ وما مشاريع المستقبل التي في الطريق؟
الكتابة بالنسبة لي ملازمة لحياتي منذ كنت طالبًا في الجامعة الأميركية في بيروت، ورافقتني بعد التخرج حتى الآن، وأضيفت إليها الترجمة من الإنجليزية إلى العربية والعكس. كتبت الجزأ الأول من سيرتي الذاتية بعنوان “ذاكرة الوطن والمنفى”، والتي تنتهي برجوعي إلى الوطن فبراير 2001، والجزء الثاني جاهز وأتمنى نشره، ويتبعه الجزء الثالث الذي يتوجب علي إنجازه إذا مد الله في العمر. الكتب التي ألفتها اوترجمتها عديدة، وقد نشرتها دار الحقيقة برس، ودار الكنوز الأدبية، ودار فراديس والجمعية البحرينية لحقوق الإنسان، في حقول السياسة والحقوق والتاريخ وعلم الاجتماع وغيرها. كما كنت أكتب خلال سنوات المنفى في صحف السفير اللبنانية و5 مارس و مجلة الأمل. وبعد الرجوع إلى البحرين كتبت في مجلة دراسات استراتيجية لمركز البحرين للدراسات والبحوث؛ حيث كنت أعمل بصحيفة الأيام لفترة قصيرة، ثم في صحيفة الوسط البحرينية المستقلة، وهي الأطول حتى تم إيقاف صدورها.
مثلت صحيفة الوسط ركيزة مهمة طرح الإصلاحات ومعالجة القضايا الوطنية، وتواصل مكونات المجتمع البحريني وتواصله مع العالم العربي والعالم، لذا فإن توقيفها في 2017 خسارة وطنية، وقد تركت فراغًا لا يسد، ونأمل عودتها للصدور لمصلحة شعب البحرين والدولة.
بالنسبة لتجربتي في الوسط فقد كنت أعرف رئيس تحريرها الدكتور منصور الجمري خلال سنوات المنفى، وجمعنا النضال الحقوقي، وعرفته إنسانًا صادقًا وموضوعيًا. لذلك وبعد انطلاق الوسط بطاقمها من الصحفيين الأكفاء وعلى رأسهم د. منصور والأستاذ وليد نويهض، والذي أعرفه أيضًا، كان واضحًا معي بوطنية واستقلالية وموضوعية صحيفة، وثبت ذلك من توزيعها الواسع وصدقية ما يرد فيها، والجوائز العالمية لحرية الصحافة التي نالتها. كتبت في الصحيفة بتفاهم شفوي مع رئيس التحرير د. منصور على أن أسلم الموضوع إلى مدير التحرير للشؤون المحلية، على أساس نشر مقالين في الأسبوع في صفحة الرأي. وكنت أكتب مواضيعي في مختلف القضايا بخط اليد، ويُصف على كمبيوتر الصحيفة ثم أراجعه. ولم يُرفض لي موضوع، وتقتصر التعديلات على الموضوع والصياغة واللغة. إنني مدين للوسط للوصول إلى المجتمع من خلال صحيفة ذات مصداقية، كما أنني ممتن للدكتور منصور والوسط لتكريمي تقديرًا لدوري في خدمة المجتمع.
مثلت الوسط ركيزة مهمة طرح الإصلاحات ومعالجة القضايا الوطنية، وتواصل مكونات المجتمع البحريني وتواصله مع العالم العربي والعالم، لذا فإن توقيفها في 2017 خسارة وطنية، وقد تركت فراغًا لا يسد، ونأمل عودتها للصدور لمصلحة شعب البحرين والدولة.
عن فلسطين
14- ما رأيك في واقع عمل نشطاء حقوق الإنسان بعد حرب غزة منذ 7 من أكتوبر 2023 وحتى الآن؟
المتغيرات الحاصلة في المجتمع المدني ومنظماته سلبية للغاية، وتتمثل في تراجع نشاطات وفعالية غالبية منظماته وشراكتها مع مؤسسات الدولة، وتأثيرها على سياساتها وتشريعاتها. ويعود ذلك للقيود والسياسات السلبية الرسمية؛ حيث أدى ذلك إلى خوف وتردد الشباب -وهم عماد المجتمع المدني- من التطوع في منظماته. وبالمقابل يتم دعم جمعيات نفعية لمناهضة الجمعيات الحقيقية أو لتلميع صورة الدولة في المؤسسات والمنتديات الدولية.
لا شك أن حرب الإبادة الصهيونية ضد الفلسطينيين في غزة وفلسطين المحتلة، كشفت القناع عن ازدواجية المعايير لدى العديد من المنظمات الإنسانية والحقوقية المحلية والدولية في الدول الغربية وليس كلها؛ إذ ظل بعضها متمسكًا بالموقف الصحيح بدعم الشعب الفلسطيني في نضاله من أجل حقوقه المشروعة، ومناهضًا للكيان الصهيوني الاستيطاني العنصري، الذي ينتهك هذه الحقوق.
جاء الحدث التاريخي المتمثل في طوفان الأقصى في7 من أكتوبر 2023 وما تبعه من حرب الإبادة الصهيونية ضد الشعب الفلسطيني في غزة وباقي فلسطين المحتلة، بمشاركة أمريكا ودعم الغرب، ليفرض نفسه على كل من له ضمير وعلى المجتمع المدني ومنظماته في كل مكان، مهام جسيمة بالتصدي ضمن إمكانياتها لهذا التحالف البربري وحرب التزييف والكذب لتضليل الرأي العام، وتقديم شعب المستوطنين كضحايا وتجريم الشعب الفلسطيني في غزة، واستطرادًا في فلسطين المحتلة والشتات كوحوش يتوجب معاقبتهم بل وتهجيرهم من وطنهم، وإبادة أكبر عدد منهم.
أود أن أشير هنا إلى أن الكثير من المنظمات الحقوقية والمجتمعية تتلقى تمويلاً من مؤسسات غربية يفترض استقلاليتها، لكنه في ضوء انحياز هذه الحكومات للكيان الصهيوني فقد قطعت أو هددت بقطع تمويلها إذا ما ناصرت الشعب الفلسطيني. وحتى في أمريكا التي تتباهى بالحريات فقد جرى تحريم عمل منظمات طلابية فلسطينية وصديقة بتهمة معاداة السامية.
بالنسبة للبحرين؛ فقد انخرطت أكثر من 20 جمعية سياسية ومدنية في المبادرة الوطنية لمقاومة التطبيع، وهي منخرطة ضمن المبادرة أو خارجها إلى جانب مستقلين في مناصرة الشعب الفلسطيني في مقاومته بكافة الأشكال والتواصل والتنسيق مع المنظمات الفلسطينية والعربية والدولية. لكن هناك تفاوتًا في جهد هذه الجمعيات في هذا الدعم. المهم هنا أن قضية فلسطين عادت لمركز الصدارة، وأضحى الالتفاف حولها ظاهرة وطنية تجمع البحرينيين جميعًا بغض النظر عن انتماءاتهم المذهبية والسياسية والاجتماعية والمناطقية، وتجاوز هوة الانقسام المرير.
15- هل ترى في حرب غزة الحالية أنها غيرت الكثير بما فيها سقوط أقنعة المنظمات الإنسانية والحقوقية وحتى مبادئ القانون الدولي والإعلان العالمي لحقوق الإنسان؟
لا شك أن حرب الإبادة الصهيونية ضد الفلسطينيين في غزة وفلسطين المحتلة، كشفت القناع عن ازدواجية المعايير لدى العديد من المنظمات الإنسانية والحقوقية المحلية والدولية في الدول الغربية وليس كلها؛ إذ ظل بعضها متمسكًا بالموقف الصحيح بدعم الشعب الفلسطيني في نضاله من أجل حقوقه المشروعة، ومناهضًا للكيان الصهيوني الاستيطاني العنصري، الذي ينتهك هذه الحقوق. فمثلاً تم استهداف منظمة أطباء بلا حدود، والمساعدة النرويجية العاملة في غزة بالاعتداءات من قبل الكيان الصهيوني، واستشهد بعض متطوعيها. وبالنسبة للمنظمات الحقوقية الدولية فهي تتعرض لضغوط وإكراهات قاسية من قبل حكومات وممولين في البلدان العاملة فيها؛ فحرمت منظمة العفو الدولية من تمويل بعض الجهات المانحة، ومنعت الأمينة العامة د. أجنيس كالمار من دخول الولايات المتحدة.
وبالنسبة لمبادئ حقوق الإنسان والمواثيق الدولية لحقوق الإنسان، بما في ذلك الإعلان العالمي لحقوق الإنسان فإنها لم تسقط؛ فهذه محصلة لنضال البشرية لضمان وحماية حقوق الإنسان والشعوب، واستنادًا إليها ناضلت وتناضل الشعوب والحقوقيون ومنهم شعب فلسطين، لكن الذي سقط هم من لا يحترمونها ويخرقونها ويستخدمونها بازدواجية مقيتة. لقد سقطت ادعاءات الدول الغربية والكثير من مؤسساتها في طرح نفسها كمدافع عن القيم الإنسانية والديمقراطية والقانون الدولي والمواثيق الدولية لحقوق الإنسان، وقد خرقوا ذلك ليس فقط بحق الشعب الفلسطيني والشعوب الأخرى؛ بل بحق شعوبهم ومواطنيهم لصالح الطغم الحاكمة والكيان الصهيوني.