تتراقص أمام الكاميرا عارضة جمال جسدها بطريقة مثيرة، هكذا فجأة ظهرت للجمهور بشكل مغاير تمامًا لما عهدوها عليه، خلعت ملابس التدين التي عُرِفت بها كمقدمة لبرنامج ديني ولبست ثوب العارضة/ الموديل المتفاخرة برشاقة جسدها. تلك ليست حالة فردية؛ فالحالة الفنية العربية مليئة بالفنانات والفنانين الذين انقلبوا على حالهم مئة وثمانين درجة.
فنان يعتزل ويلتحي، وفنانة تعتزل الفن وترتدي النقاب وتختفي، ثم تعود مرة أخرى بعد سنوات وقد خلعت النقاب أو الحجاب، لتبحث لها عن مكان بين زميلاتها فلا تجد. تختفي مجددًا ثم تعود، وفي كل مرة ينقلب حالها بين التغطية والكشف.
لماذا يتحول الناس من النقيض إلى النقيض فجأة بينما يختفي التغيير التدريجي الذي يبنى على تطور الأفكار؟ سؤال طرحته على رواد موقع إكس، إحدى الإجابات جاءت لتؤكد أن الشخصية المتطرفة لا تعرف إلا التطرف؛ فهي تنتقل من ذروة الانفلات إلى ذروة التدين، أو العكس، هذه الشخصيات عادة ما تكون غير متزنة. إجابة أخرى منطقية تحدثت صاحبتها عن الفهم الخطأ للتراث القائم على الترهيب في كل مراحل تربية العقل العربي؛ فالإنسان العربي يعيش مع عقدة الذنب، وفكرة الثواب والعقاب في غياب لفكر التعقل والمنطق.
يعزو علم النفس هذه الانقلابات إلى أخطاء التغيير والتشوهات المعرفية، من أهم هذه التشوهات مبدأ "كل شيء أو لا شيء"؛ فإذا فشل الإنسان في امتحان، اعتقد أنه فاشل، وإذا أخفق في قرار، ظن أنه لا يصلح لاتخاذ القرارات
تلك الإجابة استحقت أن أقف عندها لمعرفتي بطرق التربية السائدة التي تُحمِّل أي إخفاق في الحياة لأسباب غيبية، تمنع الإنسان من التطور الطبيعي في الفكر. يسيء العربي فهم رسائل الحياة، يمر بأزمة ما فيعتقد أن تدينه أو عدمه هو السبب، إن كان متدينًا فالأزمة ابتلاء، وإن كان غير متدين فهي عقاب، والمعضلة أن التدين مرتبط بالمظهر أكثر من ارتباطه بالسلوك والطباع والتصرفات؛ فيذهب إلى التغيير الكلي في الشكل، ويتوقع أن يخرج من أزمته. تمر الأيام ويجد نفسه عالقًا في أزمات الحياة؛ فيكتشف أن انقلابه على حاله السابق لم يخرجه من حالة “التوهان” التي يعيشها؛ بل يشعر بحالة “توهان” جديدة، وفي الحالتين يحيط نفسه بأشخاص يشبهون حالته الجديدة، وكأنه يتحصن بجيش من الحُماة، “نحن معك”، “لا تخف”، “لا تتراجع”، وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على شخصية مهتزة فاقدة للوعي والتوازن، متأثرة بالمحيط لدرجة إلغاء الذات تمامًا، تتجنب الجلوس مع النفس ومحاسبتها وتقييم مسارات الحياة واختياراتها.
تَظهَر الانقلابات المظهرية عند النساء بشكل أكبر؛ فالمرأة أكثر اهتمامًا بالغيبيات من الرجل، والسبب أوضحه الدكتور مصطفى حجازي عندما أفرد للمرأة أبوابًا تحت اسم “سيكولوجيا المرأة المقهورة” في كتابه المعروف “سيكولوجيا الإنسان المقهور”، وتحدثنا عنه في مقالات سابقة.
أمر آخر يجعل الانقلابات المظهرية عند النساء أكبر من الرجال، وهو أن الثقافة العربية ما زالت عالقة في الإجابة عن سؤال الجسد؛ خاصة جسد المرأة المحمّل ثقافيًا بأكثر مما يحتمل؛ بكونه موطن شرف المرأة والأسرة والعائلة والقبيلة، كما تتحدد الحرية في هذا الجسد بحسب المكانة الاجتماعية للمرأة كما أوضحنا في مقال سابق؛ فهذا الجسد هو ساحة الصراع الثقافي والاجتماعي.
يعزو علم النفس هذه الانقلابات إلى أخطاء التغيير والتشوهات المعرفية، من أهم هذه التشوهات مبدأ “كل شيء أو لا شيء”؛ فإذا فشل الإنسان في امتحان، اعتقد أنه فاشل، وإذا أخفق في قرار، ظن أنه لا يصلح لاتخاذ القرارات، يرى العالم مكونًا من ضفتين ولونين، إذا فشل فإن عليه التوجه للضفة الأخرى، والانتقال من الأبيض للأسود أو العكس، كما يؤدي التشوه المعرفي إلى تدمير الثقة بالنفس؛ فيلجأ الإنسان لمن يفكر عنه، على أمل أن تعود هذه التبعية عليه بالنفع في حياته القادمة.
تظهر هذه التشوهات المعرفية بشكل واضح في قصة “رحمة وغفران الشيخاوي”، التي تعرض على نتفليكس تحت اسم “بنات ألفة”، القصة الشهيرة لفتاتين تونسيتين التحقتا بتنظيم داعش بعد الثورة التونسية، وألقي القبض عليهما في ليبيا، إحداهما كانت زوجة لإرهابي معروف، نشأت الفتاتان في بيت مفكك؛ حيث الأم جاهلة وصارمة، والأب مختفٍ، مرت الفتاتان بفترات تحرر وصلت إلى حد اتهامهما بعبادة الشيطان، ثم انتقلتا إلى حالة تدين وتطرف بعد موجات التطرف التي غزت تونس في الثورة وما بعدها، الأم نفسها التي كانت تضرب بناتها بقوة خوفًا عليهن من الخطأ في الطفولة؛ فتحت بيتها لمجرم هارب من السجن ليستبيح جسد الأم والبنات معًا، تاركًا آثارًا مدمرة على نفسية الفتاتين.
لا تغيير حقيقيًا في مجتمعنا دون تغيير في الفكر، وهذا لا يتأتى إلا بالحرية الفكرية، هدفنا في الحياة هو إعمار الأرض والرقي بها، وهذا لا يتحقق بعرض أجسادنا أو تغطيتها
هذا الانتقال من النقيض إلى النقيض عند الأم وابنتيها ليس إلا دليلاً على التخبط وعدم التوازن والجهل، والرغبة بالتغيير مع وجود تشوهات معرفية تمنع من تحليل التجارب بشكل منطقي، واستنتاج العبر، وتسمح بانقلابات مدمرة دفعت العائلة ثمنها وما زالت حتى هذه اللحظة.
ومن كوارث التشوهات المعرفية التضخيم والتهويل الذي يشعر صاحبه برغبة في الانتقام بالانقلاب الكامل، وهذا نلاحظه في مقابلات البودكاست التي انتشرت مؤخرًا، والتي يظهر فيها أناس يتحدثون عن تجارب الطفولة السيئة بنوع من التهويل؛ فيصفونها بالتروما، وهي مجرد أحداث سيئة يمكن الاستفادة منها بدون الرغبة بانتقام يظهر في تصرفات هؤلاء الناس، كأن تقول الفنانة المنقلبة إن أمها كانت تعلق تعليقات سلبية على جسدها، وتقول أخرى إن أمها لم تكن تؤمن بالصداقة، كل هذه الأحداث هي تجارب سيئة، لكنها ليست تروما كما يصفها المعلقون، ولا تحتاج لانتقام من الأمهات كما تفعل الفتيات بانقلابهن الكامل.
لا شك أن أهم التشوهات المعرفية تكمن في السطحية؛ فترى الإنسان يفشل في الحفاظ على علاقة صداقة أو زواج؛ فيحيل الأمر إلى المظهر بدلاً من تحليل الطباع والتصرفات، ولهذا يتراكم الفشل؛ فيحيل أسباب الفشل للشكل، بينما تغيير الشكل لن يؤدي لنجاح العلاقة القادمة، لأن الأسباب ما زالت موجودة.
لا تغيير حقيقيًا في مجتمعنا دون تغيير في الفكر، وهذا لا يتأتى إلا بالحرية الفكرية، هدفنا في الحياة هو إعمار الأرض والرقي بها، وهذا لا يتحقق بعرض أجسادنا أو تغطيتها، التغيير مطلوب؛ لكن ليس التغيير القائم على تسليم عقولنا من جهة لأخرى؛ بل التغيير التدريجي الذي يبنى على فهم الحكمة من الحياة، والتي تعتمد بدورها على التفكير المستقل، والعقل المستنير والقراءة وتحليل الأحداث بمنطقية واستنتاج العبر وصقل الرغبات.
- الآراء الواردة في هذا المقال تُعبّر عن رأي الكاتب ولا تعكس بالضرورة مواقف وآراء “مواطن”.