في عالم اليوم الذي تحرقه الطائفية والخرافة، كم نحن بحاجة إلى استحضار غضب عبدالله القصيمي، لنقتبس بعضًا من غضبه؛ فإن على أكتافنا من غبار التخلف ما هو بحاجة إلى أضعاف ذلك الغضب. زنديق العقل وقديس النفس والأخلاق! حفار القبور المتخصص في تشييع المقدسات الكبرى؛ الإله العربي، والنبي العربي، والفخر العربي، والكلام العربي، والكتاب العربي المبين، والشعر العربي، والسيف العربي، والنصر العربي. نَقَد الاستبداد والثورات، وحاكم الديكتاتور والثائر معًا. هكذا جاءت كلمات الكاتب اليمني حسين الوادعي عند سؤاله عن القصيمي.
القصيمي؛ من هو؟
على سرير بقسم العناية الفائقة داخل مستشفى فلسطين في القاهرة، تمدد الجسد النحيل لشيخ يناهز التسعين من العمر، لم يفارق ملامح وجهه سمت الوقار الذي ميزه طوال سبعة عقود ملحمية من حياته المثيرة للجدل، ومعاركه الفكرية التي تردد صداها في كافة أرجاء العالم العربي والإسلامي. شغلت أطروحات الكاتب السعودي عبدالله القصيمي الأوساط الثقافية في العديد من البلدان الشرق أوسطية.
كان يتمتم لرفيقه في أيامه الأخيرة راويًا رحلة صبي بدوي ولد في إحدى قرى نجد، وشاءت له الأقدار أن يجوب البلاد طالبًا للعلم، وباحثًا عن أب لم يره منذ نعومة أظفاره، ليستقر به المقام في العاصمة المصرية التي شهدت بزوغ نجمه لعقود، ثم أفوله في أخريات حياته، بعد أن طال تحريم طبع ونشر كتبه في كافة الأقطار العربية، ليلفظ أنفاسه الأخيرة غريبًا، ومحاطًا بعدد محدود من الأقارب والأصدقاء، بعيدًا عن مسقط رأسه.
لم تكن حياة الكاتب السعودي يسيرة، وكان المشهد الذي لم يفارق مخيلته، هو دموع أمه الغزيرة وهو لم يزل بعد يحبو، مربتًا على كتفها ومحتضنًا إياها، ومدركًا بعد عدة سنوات أن السبب هو انفصال أبيه عنهما، لرفض جده أن ترافق ابنته زوجها في هجرته إلى الساحل الشرقي من شبه الجزيرة العربية؛ حيث الإمارات التي ينعم قاطنوها بسعة من العيش. مضت سنوات طفولته قاسية في “خب عين الحلوة” على الجانب الغربي الهادئ لمدينة بريدة، لم يتلق فيها تعليمًا نظاميًا؛ بل اقتصرت دراسته على حفظ القرآن ومبادئ اللغة العربية من خلال أحد الكتاتيب.
عانت أسرة الصبي من رقة الحال، مما دفعه إلى العمل في عدة مهن، كرعي الغنم، وجمع النباتات الموسمية التي تجود بها الطبيعة، كفطر الكمأة والزعتر والشيح والسعدان. وكان في تلك السنوات يقرأ كل ما تتلقفه يداه من كتب، حتى اختمرت فكرة سفره مع بعض أقرانه إلى الرياض للدراسة في أحد المعاهد الدينية؛ خاصة بعد زواج أمه للمرة الثانية، وانشغالها بحياتها الجديدة.
وبعد رحلة استمرت أيامًا طوالًا ضمن قافلة على ظهور الإبل، وصلوا أخيرًا إلى مقصدهم؛ حيث انضموا إلى معهد ملحق به مسجد كبير، يتوالى على إلقاء المحاضرات فيه نخبة من العلماء، أبرزهم الشيخ سعد بن عتيق. والتقى أثناء إحدى محاضرات المسجد بوفدٍ آتٍ من الإمارات، كان رئيس الوفد على علاقة وثيقة بأبي الصبي، والذي استوطن الشارقة و احترف تجارة اللؤلؤ؛ فوافق مرحبًا بأن يرافقهم عبد الله في رحلة عودتهم إلى الديار كي يلم شمله بأبيه.
ولعل صدمة لقائه بوالده، والقسوة التي عاناها منه خلال الفترة التي قضاها معه قبل وفاته، هي التي زرعت بذرة الثورة في أعماقه، وتجلت في مواقفه الحدية، ولهجة كتاباته الحادة فيما بعد. لقد أراد الأب من ابنه الإلمام بكل العلوم والمعارف، والتحلي بجميع قواعد الأخلاق والسلوك المهذب في آن واحد، وانتهج في سبيل ذلك أسلوبًا غاية في التشدد والصرامة والعقاب، مصحوبًا بتجهم وعبوسٍ لا يفارق وجهه، مما أشعر الفتى أن الأعوام التي مرت من حياته على شدة بؤسها أهون بكثير مما لاقاه منه بعد معايشته.
ورث الفتى عن أبيه قدرًا من المال، استعان به على السفر إلى العراق عام 1922م بصحبة صديقه عبد الله بن راشد، ليتمكنا من الدراسة بمعهد ديني بمدينة الزبير، ما لبثا أن غادراه إلى الهند ليفوزا بمنحة بالمعهد العالي بدلهي تتيح لهما دراسة اللغة، والعلوم الشرعية؛ حيث مكثا لمدة عامين، عادا بعدها للتسجيل في مدرسة الأعظمية بمحافظة بغداد؛ فاستطاع القصيمي اجتياز اختبار القبول، بينما أخفق صاحبه، ولم يكن الأول ليفارقه، بعد أن أمضيا معًا ما يربو على الخمسة أعوام، توطدت فيها أواصر الصداقة بينهما.
وصل الصديقان فيما بعد إلى العاصمة المصرية في أواخر عام 1926م كي ينتسبا للدراسة بالأزهر، لتبدأ من هناك قصة الشاب ذي الأصول النجدية، الذي تبوأ مكانًا بين قمم الفكر والأدب، بمؤلفات أثارت إعجاب الكثيرين، وأشعلت غضب آخرين، لكنها في كل الأحوال خلدت اسمه كواحد من أكثر المفكرين شجاعة، وإخلاصًا لقناعاته، وإثارة للجدل في القرن العشرين، إن لم يكن أشجعهم على الإطلاق.
الذود عن حمى الإسلام
برز اسم عبد الله القصيمي لأول مرة في القاهرة، حين صدر قرار من الأزهر بفصله بعد التحقيق معه، إثر نشر كتابه الأول “البروق النجدية في اكتساح الظلمات الدجوية”؛ فقد هاجم فيه بضراوة يوسف الدجوى، أحد كبار أساتذة الأزهر بسبب دفاع الشيخ عن جواز التوسل بالأولياء الصالحين، وزيارة أضرحتهم تبركًا بها، وقد صدر الكتاب عام 1931م، مدونًا على غلافه بيتان يلخصان فحواه:”يا طالب الميت ما قد ظلت تطلبه.. وسائل الميت دفع الأمر ترهبهُ.. لو كان ذا قدرة ما كان مرتهنًا.. في الترب للدود يبليه ويركبهُ”.
وخلافًا لما هو متوقع من طالب تم فصله، لم يتقدم بالتماس معتذرًا عن كتابه، كي ينال شهادة التخرج؛ بل أردف كتابه الأول بآخر في ذات العام، عنوانه “شيوخ الأزهر والزيادة في الإسلام”، هاجم فيه جل علماء الأزهر لتشجيعهم متبعي البدع، وطعنهم في أتباع السلف.
شهدت سنوات العقد الرابع من القرن العشرين شهرة القصيمي، كصاحب قلم لا يشق له غبار في الذود عن حمى الإسلام بإصداره عدة كتب، أشهرها كتابه “الفصل الحاسم بين الوهابيين ومخالفيهم”، شرح فيه توحيد الألوهية والربوبية، وبيّن الفرق بين أتباع العقيدة الوهابية، وبين عقيدة المبتدعين، الذين يتوسلون بغير الله، واعتبرهم مشركين، ودعا فيه إلى نصرة أرض الحرمين لأنها الحصن والحافظ لصحيح الدين. ثم أصدر كتابه “نقد كتاب حياة محمد، لهيكل”، انتقد فيه ادعاء هيكل بأن المعجزة الوحيدة للنبي محمد هي القرآن، وأورد العديد من المعجزات التي حدثت للنبي، وأشهرها شق صدره في طفولته، متسائلًا إذا كان ذلك ممكنًا لأي جراح؛ فكيف برب العالمين!؟[3]
تحول فكري
بيد أن الكتاب الذي كان بمثابة وسام لفارس يمضي في طريقه قُدُمًا نحو المجد، هو مؤلَفهُ المكون من ثلاثة أجزاء، ” الصراع بين الإسلام والوثنية”؛ إذ أصبح إثر نشره مُحتفلًا به على صفحات الصحف الدعوية، مُقتَبسًا منه في الكثير من الخطب، مُستَقبلًا بحفاوة من كوكبة الدعاة وأولي الأمر في كل قطر عربي، حتى مدحه حينها إمام الحرم المكي على منبره، ودُعي إلى مأدبة الملك عبد العزيز. وكأنه بذلك قد نال صكًا من صكوك الغفران، حين أطرى عليه رجال الدين قائلين: “لقد قدم القصيمي بكتابه هذا مهر الجنة، وما ضره ما فعل بعد ذلك!”.[4]
بعد سبعة أعوام من ريادته ككاتب إسلامي مدافع عن العقيدة الصحيحة للسلف الصالح، والتي كان نموذجها في نظره الإمام المجدد محمد بن عبد الوهاب، صدر للقصيمي عام 1938م ما شكَّل منعطفًا، وعلامة فارقة في مسيرته الفكرية، وهو كتاب “كيف ذل المسلمون؟”، قدم فيه تحليلاً منطقيًا لأسباب تخلف المسلمين عن ركب الحضارة، وانتقادًا لواقعهم الديني والاجتماعي. وكما أثار الكتاب إعجاب قطاع عريض من المتنورين؛ فقد تسبب في حيرة أتباع السلف المحافظين، ومن كانوا بالأمس القريب لا يذكرون اسم مؤلفه سوى بعبارات الثناء في كل محفل ومجلس.
تحول القصيمي الفكري لم يكن فجائيًا؛ إذ ظلت الأفكار والأسئلة تتداعى في عقله حوالي عقدين من الزمان، منذ ابتعاثه للدراسة في الأزهر في 1927، وحتى صدور كتابه الإصلاحي الأول "هذه هي الأغلال" عام 1946. حسبما يرى الكاتب اليمني حسين الوادعي.
مرت فترة صمت اقتربت من ست سنوات حتى صدور كتابه “هذي هي الأغلال”؛ فاعتبره من كانت لديهم بعض الظنون، ردة واضحة من الرجل عن الإسلام؛ فقد كشف فيه عن نظرة مادية مجردة للحياة والوجود، كما دعا بضرورة الأخذ بأسباب أسس ونهج الحضارة الغربية. ورغم تأكيده أن كلامه لا يتناقض مع إيمانه بالمبادئ التي بني عليها الدين الإسلامي، إلا أن ذلك لم يكن كافيًا، وانبرى العديد من الشيوخ للرد عليه بأكثر من كتاب، كان أبرزها:
- ” دراسة عن القصيمي”، للدكتور صلاح الدين المنجد.
- “تنزيه الدين ورجاله مما افتراه القصيمي في أغلاله”، للشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدي.
- ” بيان الهدى من الضلال في الرد على صاحب الأغلال” للشيخ إبراهيم السويح.
كان مفاد تلك الكتب، هو الاتهام الصريح للقصيمي بأنه منكر لوجود الله، ساخر من الديانات، مستهزئ بالأنبياء، مستخف بالتراث الإسلامي، وأن إلحاده واضح لا لبس فيه. وقد أرجعوا سبب تلك الردة إلى عدة أمور؛ مثل زهوه واغتراره بنفسه بعد الشهرة الواسعة التي نالها إثر نشر كتابه “الصراع بين الإسلام والوثنية”، ودللوا على ذلك بالقصائد التي كان يمدح بها نفسه، والتي اعتاد نشرها في مقدمة كتبه؛ فمن أقواله. “ولو أن ما عندي من العلم يقسَّمُ في الآفاقِ أغني عن الرسلِ”، وأيضًا مدح نفسه في أحد أشعاره بأسلوب المتنبي، قائلًا: “لو أنصفوا لكنت المقدم في الأمرِ ولم يطلبوا غيري لدى الحادث النكرِ”.
كما أرجعوا السبب أيضًا للحيرة والشك اللذيْن كانا يلازمانه، ويدفعانه إلى المجادلة في البديهيات الدينية والأمور الضرورية، لدرجة أنه كان أحيانًا يجادل في وجوده هو نفسه، كما ذكر زميله في الدراسة الأزهرية، الشيخ عبد الله بن يابس في كتابه “الرد القويم على ملحد القصيم”. وعزا البعض الآخر سبب انقلابه الفكري إلى المعاناة التي واجهها في صغره، والتشتت الأسري، والمعاملة القاسية من والده، وهي العوامل التي ولّدت -من وجهة نظرهم- بداخله عقدًا نفسية، وأبرز أصحاب ذلك الرأي، هو الدكتور صالح بن مقبل التميمي؛ حيث ذكر ذلك دون مواربة في مقالته “ملخص حياة عبد الله القصيمي”.
راح القصيمي ينسج على نفس المنوال في مؤلفاته، التي تتابع نشرها، وأوضحت بجلاء انسلاخه التام عن قناعاته السابقة؛ مثل “العالم ليس عقلًا”، ولقد أزالت فقرات عديدة في كتابه ” يكذبون كي يروا الإله جميلًا”، أي بقية من حيرة لدى المتشككين في حقيقة ردته، وذلك ما تشير إليه السطور التالية : “…. وهذا الإله الصامت أبدًا، والرافض أبدًا، والغائب أبدًا، والمشغول بنفسه أبدًا، والقاسي أبدًا، والمُعرض أبدًا، هذا الإله الذي لا يمل أن يصمت، ويرفض، ويعرض، ويقسو، ويهزأ؛ هل توجد وحشية أفظع من هذه العلاقات بين الإله والمؤمنين؟ من انتظارهم وإخلافه، ومن صراخهم وصمته، ومن إيمانهم ورفضه، ومن حضورهم ومغيبه، ومن انهيارهم الدائم وصلابته الدائمة، من دموعهم الدائمة ومن قدرته على القسوة في مواجهة هذه الدموع؟ لماذا لا يرقّ الإله أو يسمع أو يستجيب لهذه الدعوات والتضرعات؟ لماذا لا يرق ويستجيب ولو لبعض هذه الدعوات والطلبات ولو حياءً أو تهذبًا، أو فرارًا من قسوة المناشدة وديمومتها ومضايقاتها؟ لماذا لا يسمع؟ لماذا لا يتعذب سمعه؟.
خلال الفترة التي أُبعد فيها عن مصر إلى لبنان، بضغط من الحكومة اليمنية، خوفًا من تأثر الطلاب اليمنيين المبتعثين بأفكاره التحررية، صدر كتابه “هذا الكون ما ضميره؟”؛ فاستنتج ناقدوه وعلى رأسهم الدكتور صالح المنجد، أن القصيمي يسير على درب لينين، وماركس، واستدلوا على ذلك بالآراء التالية التي خطها في :
- “إن الكون هو أقوى لغات الرفض للإله”
- “كيف يكون الأفضل للبشر أن يكون فوقهم طاغية، لا حد لقدرته ولغيرته ولغضبه ولحبه لذاته، ولبحثه عن المجد الذاتي”.
- “جميع تقديراتنا وأعمالنا الذهنية والمادية، قائمة على افتراض أن الكون آلي، لا تتدخل فيه مشيئة، ولا قدرة مطلقة، ولا أي إله يقول للشيء كن فيكون”.
- “إن الأشياء هي التي تصنع نفسها وتغيرها”.
- “إن كل شيء يبدأ من الطبيعة، وتمنحه الطبيعة كل شيء.. إذًا الطبيعة هي كل شيء”.
- “إن الآلهة والعقائد والمذاهب، تصاب بالخمول والفساد والتعفن، ويتراكم عليها التراب والحشرات، إذا تقادمت دون تغيير أو تحريك أو تنظيف”.
بواسطة من الملك سعود، وخوفًا على حياته، بعد اكتشاف أجهزة الأمن اللبناني مؤامرة لاغتياله، عاد القصيمي مرة أخرى للاستقرار في القاهرة، وواصل إثراءه لمكتبة التنوير بعدة كتب؛ أهمها “أيها العار إن المجد لك”، و”فرعون يكتب سفر الخروج”، و”الإنسان يعصي، لهذا يصنع الحضارات”. وقد طُبعت تلك الكتب في بيروت بسبب الحظر الذي فرض عليه من قبل الحكومة المصرية، والذي امتد بعد ذلك ليشمل كافة الدول العربية، مما أدى إلى صدور كتبه الأخيرة: “العرب ظاهرة صوتية”، و” الكون يحاكم الإله”، “عاشق لعار التاريخ”، بالإضافة إلى كتابه “يا كل العالم؛ لماذا أتيت؟”، الذي صدر من باريس.
إن السبب الذي أدى إلى التناقض الحاد في أفكار القصيمي قبل وبعد كتابه “كيف ذل المسلمون؟”، كان وما زال موضع بحث أكاديمي لطلاب الدراسات العليا، وكُتبت فيه الكثير من المؤلفات والمقالات الصحفية؛ ففي موقفه من التوحيد، وفي كتابه “الثورة الوهابية”، خلال مرحلته السلفية، كتب تلك السطور: ” …. إن من ذاق حلاوة عقيدة التوحيد، ولباب الإخلاص؛ فهيهات أن يعافها؛ فلم أسمع أن رجلًا دخل مذهب الموحدين، وتطهر قلبه من أرجاس الشرك؛ فخرج منه، ونكص على عقبيه”، بينما في كتابه ” الوجه الآخر”، جاء ما ينافي ذلك تمامًا؛ فكتب يقول: “هل يمكن التصديق بأن وثنية التوحيد هي أضخم الوثنيات، وبأن جميع الوثنيات لا تستطيع أن تنافس الوثنية التي جاء بها نبي التوحيد محمد معلمًا ومنفذًا لها؟”.
كما يبدو التناقض جليًا في حديثه عن غار حراء؛ ففي كتابه “الصراع”، كتب بقلم ينضح إيمانًا: “….. وذات ليلة مقمرة من عام 610 م، بينما كان الكون ساكنًا صامتًا، والأشياء راكدة مصغية، متوجسة تتوقع حدوث أمر عظيم، انفتحت فرجة من السماء، تعلقت بها الأبصار، وانبعث منها شعاع قوي وهاج؛ فهبط على غار في جانب خامل مهجور، من جوانب الأرض الخاملة المهجورة. يقيم في ذلك الغار رجل لا كالرجال، يحمل نفسًا لا كالأنفس، وقلبًا لا كالقلوب؛ فكان الشعاع الهابط هو الإسلام، وكان الغار هو حراء، وكان هذا الرجل هو منقذ الإنسانية الأكبر من كبوتها، محمد بن عبد الله”.
أما تحت عنوان: “في غار حراء، لم أجد الإله ولا الملاك”؛ فقد كتب بقلم يقطر مرارة: “ذهبت إلى الغار، غار حراء، غار محمد وإلهه وملاكه، إلى الغار العابس اليابس اليائس، ذهبت إليه استجابة للأوامر. دخلت الغار، صدمت، ذهلت؛ فجعت، خجلت من نفسي، وقومي، وديني، وتاريخي، وإلهي، ونبيي، ومن قراءاتي ومحفوظاتي..”
إن تتبع مراحل التطور والنضوج الفكري في حياة القصيمي كفيل بالإجابة عن كثير من التساؤلات بشأن خروجه من بوتقة الجمود الوراثية إلى ساحة التنوير؛ ففي فترة صباه وشبابه اجتهد في تقصي كل مصدر يستزيد منه علمًا دينيًا، متنقلًا بين العديد من البلدان، ولفت الأنظار بعد كتابه الأول، ليصبح بعد عدة مؤلفات أخرى؛ أشهرها كتابه “الصراع بين الإسلام والوثنية”، الكاتب الأبرز في الدفاع عن صحيح الدين، غير أن احتكاكه بالنزعة العلمانية في مصر حينها، والتي كان من روادها سلامة موسى وطه حسين وأحمد لطفي السيد، كان له أبلغ الأثر في مراجعته لجميع الثوابت التراثية، ودفعته قراءة الكتب المترجمة من الثقافات الغربية إلى المزيد من التأمل والبحث والتمحيص فيما تعلمه وحفظه على مقاعد الدراسة الأزهرية وما سبقها، ثم كانت فترة مكوثه في لبنان والتراجم المتاحة من كافة الثقافات، دافعًا أكبر لاكتشاف ما رأى أنه الحقيقة، رافضًا لكل ما هو غير عقلاني، ونازعًا عنه ثوب القداسة.
"إن كل دموع البشر تنصب في عيوني. إن كل أحزانهم تتجمع في قلبي. إن كل آلامهم تأكل أعضائي. ليس لأني قديس. بل لأني مصاب بمرض الحساسية. بمرض الانتقال إلى الآخرين، إلى أحزانهم، إلى آلامهم. إلى آهاتهم المكتومة والمنطوقة.. إلى عاهاتهم المكشوفة والمستترة".
كاد القصيمي أن يغتال مرة في مصر، وأخرى في لبنان، وأنقذه حاجب الملك عبد العزيز من محاولة البعض إلصاق تهمة الزندقة به، عن طريق إثارة ما ورد في كتابه “هذي هي الأغلال”، من أفكار تقدح في الإسلام، حينما كان مدعوًا في إحدى المناسبات على مائدة الملك، وتم تسفيره على أول طائرة مغادرة إلى مصر. وظلت علاقته على خير ما يرام مع أولي الأمر في بلاده، وساعده المخصص الشهري من قبل الملك على أن يعيش ميسورًا، وهو ما ينفي ما ادعاه بعض ناقديه من أنه غير قناعاته تحت إغراء المال الغربي، وعاش حياة أسرية مستقرة؛ فقد كان محبًا لزوجته المصرية، وأوصى بأن يوارى الثرى بجانبها عندما تحين ساعته.
لماذا تحول؟
تحول القصيمي الفكري لم يكن فجائيًا؛ إذ ظلت الأفكار والأسئلة تتداعى في عقله حوالي عقدين من الزمان، منذ ابتعاثه للدراسة في الأزهر في 1927، وحتى صدور كتابه الإصلاحي الأول “هذه هي الأغلال” عام 1946. حسبما يرى الكاتب اليمني حسين الوادعي.
والذي أكد على أن “تواجده في القاهرة واختلاطه بالجو الثقافي هناك بكل تياراته الليبرالية واليسارية والإسلامية، كانت حافزًا قويًا ليراجع أفكاره. ومن خلال تعرفه على آفاق أوسع للفكر الإنساني أدرك القصيمي محدودية الفكر الديني والأغلال التي يحبكها حول الفكر والحياة”.
وأضاف: “بعد ثمانية كتب تدافع عن الوهابية دفاعًا متعصبًا، خرج القصيمي بكتاب “هذه هي الأغلال”، لينتقل من مرحلة السلفية إلى مرحلة الإصلاح الديني. وكان مضمون الكتاب أن المشكلة ليست في الدين بل في الفهم الخطأ له، وأن الحل هو في تفكيك أغلال الفهم الخطأ للدين”. وأشار إلى احتفاء الإصلاحيين بالكتاب؛ مثل العقاد وخالد محمد خالد، وأن كتبه اللاحقة (العالم ليس عقلاً، ويكذبون كي يروا الإله جميلاً) جاءت لتقدم فكره الجديد والثوري والصادم.
يرى الوادعي خطاب القصيمي هادمًا للخطابات الثلاثة المسيطرة آنذاك: الخطاب الثوري للعسكريين العرب وانقلاباتهم العسكرية، وسياساتهم الشعبوية، والخطاب الديني الكهنوتي والسياسي بأوهام الخلاص السماوي، والخطاب القومي العاجز عن صياغة شخصية جديدة للعربي تتناسب مع العصر.
ويعتبر “القصيمي هو نيتشه العربي؛ حيث حمل معولاً لهدم أشباح الماضي و أصنامه. وكتابه “الكون يحاكم الإله” هو صرخة نيتشوية، وأعمق محاكمة لفكرة الإله العربي والنبي العربي في تاريخ الفكر؛ بل هي في عمقها وأهميتها تقترب من عبقرية نيتشه وتتجاوزها في مواضع كثيرة، كما أن نقد القصيمي للثورات العسكرية كان قاسيًا؛ فالانقلابات لا تغير ولا تطور، أما الثورات الحقيقية فهي ثورات العلم والأدب والطب والتكنولوجيا”.
“الإنسان يعصى.. لهذا يصنع الحضارات”، ذلك ملخص فلسفة القصيمي في نقد الدين من وجهة نظر الوادعي؛ فالقيد الأضخم للإنسان العربي هو القيد الديني. لقد اخترع العربي دينًا فكان أكثر الأديان بدائية، واخترع نبيًا عربيًا فكان أشد الأنبياء بعدًا عن النبوة وقربًا للبداوة والتوحش. واخترع العربي إلهًا فكان أكثر صور الإله تناقضًا وأقربها إلى النقص والمحدودية.
يقول الباحث المصري أحمد سعد زايد: “عبدالله القصيمي شخصية دينية من تراث فريد، الرجل ابن الحركة الوهابية بلا جدال، وأحد أقطابها، وكان ينافح عنها ويجادل حتى الأزهريين، ورد على الطوائف الإسلامية الأخرى؛ سواء أكان الأشاعرة أو الشيعة أو الصوفية وغيرها من طوائف المسلمين، لتصحيح الدين الوهابي بادعاء أنه هو الذي يمثل الرسول التمثيل الأمثل، وبعد فترة من النضج والاطلاع والقراءة، وجد ثغرات يسميها البعض “شبهات” على الثقافة الإسلامية، وقد رأى أنها ثغرات لا يمكن أن تُرقع أو كما يقولون: “اتسع الفتق على الراقع؛ فبدأ تدريجيًا يتخلص من المسلمات الدينية الراسخة في عقله وقلبه، ورأى أن النصوص والتراث والمذهب الوهابي ككل؛ بل حتى النصوص الدينية أغلال في عنق المؤمن، ولا بد من التخلص منها، ومن هنا بدأ مرحلة التحول، كان في أربعينيات القرن الماضي، وازداد الأمر لديه، لأن الإنسان حين يرى ثغرات في مسلماته يلاحظ ثغرة أو ثغرتين، وبعد فترة تكثر الثغرات فيرى رؤية عقلانية لهذا التراث؛ حتى كتب “لئلا يعود هارون الرشيد” و “إنهم يكذبون حتى يروا الإله جميلًا” وكتبًا أخرى.
وعن أسلوب عبدالله القصيمي أضاف “زايد”: “هو أسلوب عصور المتأخرين؛ حيث الجمل الطويلة التي بها استطراد وتكرار للمعاني، ومن لا يعتاد ذلك الأسلوب، من الممكن أن يصاب بالملل من تكرار الأفكار وإعادة إنتاجها بعبارات مختلفة وطويلة”.
وتعليقًا على أفكاره قال: “من الطبيعي أن تكون أفكار عبدالله القصيمي مزعجة للمؤسسات الدينية التقليدية، حتى المخالفة منها للوهابية، فبدأ بعض من المخالفين للوهابية يقولون إن ما حدث له بسبب الوهابية، مما أدى به إلى انتكاسة في إيمانه، وبدأ يشكك في الإسلام. بينما الحقيقة أن السبب الرئيسي في هذا هو أن “القصيمي” وجد العديد من الثغرات في الموروث الديني، والذي أدّى به أن يرى أن من اللازم تجاوز هذا الموروث حتى تصلح هذه المجتمعات لحياة إنسانية كريمة”.
مشهد أخير
ختامًا، مهما اختلفت الآراء في القصيمي، لا يمكن لأي منصف إنكار أنه قد ترك إرثًا غنيًا من المؤلفات، والمقالات الصحفية، تطرق فيها إلى الكثير من القضايا الاجتماعية والدينية والسياسية، وأن أعماله قد خلدت اسمه كرائد ورمز للفكر التحرري، وأن ما خلفه من تأثير عميق على الأوساط الثقافية في ربوع الوطن العربي، يجعله شخصية جديرة بالدراسة والبحث. عندما سئلت الممرضة المكلفة برعايته عن أحواله في أيامه الأخيرة، قالت إنه كان يرتل القرآن بصوت عالٍ، وأنه كان بجوار سريره لا يفارقه، بيد أن صديقه المقرب “إبراهيم عبد الرحمن”، علق على ذلك قائلًا: إنها كذبة.. ثم ابتسم واستطرد: كذبة جميلة.. لتمرير اسم القصيمي على صفحات الصحف، لأنه كان أمرًا صعبًا في ذلك الوقت.
وفي التاسع من يناير عام 1996م، وبُعيد مغيب الشمس بدقائق، هبت نسمة هواء باردة من كوة بالنافذة، وانسل شعاع خافت من خلف الزجاج، وأوشك مداد القلم أن يجف، ذاك القلم الذي سطر إرثًا ثقافيًا خالدًا، رغم حدته كمبضع جراح، إلا أنه كان يفيض عذوبة يخالجها الألم، كانت الممرضة الشابة الملازمة له تهم بوضع ورقة في صفحة كتاب أهداه لها الشيخ، قبل أن تغلقه وتتجه إليه لقياس ضغطه، حين لمحت تلك الكلمات: “إن كل دموع البشر تنصب في عيوني. إن كل أحزانهم تتجمع في قلبي. إن كل آلامهم تأكل أعضائي. ليس لأني قديس. بل لأني مصاب بمرض الحساسية. بمرض الانتقال إلى الآخرين، إلى أحزانهم، إلى آلامهم. إلى آهاتهم المكتومة والمنطوقة.. إلى عاهاتهم المكشوفة والمستترة”.
خفت سعال الشيخ الموصول جسده بالعديد من الأجهزة في غرفته بمستشفى فلسطين، وهبطت الترددات الموجية لنبضات قلبه على الشاشة في غرفة الإنعاش رويدًا رويدًا، حتى باتت أقرب إلى الخط المستقيم، وانكمش القناع البلاستيكي المتصل بأنبوبة الأكسجين على أنفه وفمه بصعوبة، كانت إحدى ابنتيه تمسك بيده، افتر ثغره، و شخصت حدقتاه بسكون لا نهائي، ألقى عليه صديق عمره نظرة أخيرة وهو يمسح دمعة تألقت على وجنته، كان متأكدًا أن الملامح المتغضنة للشيخ الراقد في آخر لحظاته الدنيوية تنطق بعنوان غلاف لواحد من كتبه الأيقونية : “يا كل العالم.. لماذا أتيت؟”.