كان الإسلام، باعتباره أحد الديانات الكبرى في العالم، منخرطًا دائمًا في علاقة ديناميكية مع مختلف جوانب المعرفة الإنسانية، وقد حدث ذلك في وقت مبكر إبان نشوء الحضارة الإسلامية من القرنين الـ 9 حتى الـ 14 الميلادي؛ حيث نهض المسلمون معرفيًا في تلك الحقبة بشتى جوانب العلم من الفقه والأدب والفلسفة والمنطق والترجمة والعلم التجريبي، وإلى اليوم ظلت رموز هذه الحقبة هي الباعث لفكرة تجديد الدين ونشوء حضارة أخرى من نفس المرجعية.
لكن حديثًا ومنذ القرنين التاسع عشر والعشرين، حدث ما سمي بـ “صدمة الحداثة“، وتعني صدمة جماهير المسلمين حكومة وشعبًا ونخبة من فارق القوى الرهيب والشامل بين الغرب الأوروبي والأمريكي، وبين الشرق بكامله بمن فيهم المسلمون؛ في وقت كان المسلمون يظنون أنهم هم فقط أصحاب الحضارة، والقوة الأولى بالعالم، ومثل هذه الصدمات لا تترك آثارها السلبية فقط على النفس والمعنويات؛ بل تترك آثارها في العقول بنشوء ردات فعل مضادة؛ إما لاستنكار وتكذيب ما يحدث بما يشتمل عليه من تحدٍ وعناد، وبين استغراق في التغريب وضياع للهوية وانتقال الإنسان المسلم بكيانه وروحه للغرب باعتباره الحقيقة الأولى والوحيدة، وقد أدت صدمة الحداثة هذه إلى تجليات ما زال المسلمون يلمسون آثارها من تطرف تغربي وتطرف أصولي مضاد.
عندما بدأ اللقاء الأول بين الإسلام والحداثة، كانت القوى الاستعمارية الأوروبية قد وسعت نفوذها عبر العالم ذي الأغلبية المسلمة، مما أدى للربط بين الحداثة والاستعمار في أذهان المعارضين، أو الذين ينظرون لتلك المتغيرات الكبيرة بعين الشك والريبة، والذي ساعد على ذلك قوة ونفوذ المستعمر في نقل ونشر ثقافته، مما أدى لظهور جماعات وأصوات محلية تحذر من خطورة ذلك الوضع على الدين؛ في وقت شهد فيه الشرق تراجعًا في القوة السياسية والاقتصادية والعسكرية للمجتمعات الإسلامية بالكامل؛ الأمر الذي أنتج في النهاية حركات إصلاحية داخل الإسلام قالت بضرورة التوفيق بين الإسلام والحداثة كآلية للتصالح مع العالم من جانب، ولضرورة الحداثة ومنافعها لمجتمعات المسلمين من جانب آخر.
حتى في ظل سيطرة المتشددين منذ السبعينيات ودعوتهم لدولة دينية، لم يجتمعوا على موقف عدائي من الحداثة ومنتجاتها مثلما هو شائع؛ بل آمن البعض منهم بالحداثة على أنها قيمة تتفاعل مع دولة الشريعة
تتميز الحداثة كظاهرة تاريخية ومادية بتطور المجتمع البشري إلى أفكار ونماذج معرفية مختلفة عن التي كانت سائدة في القرون الوسطى؛ فظهرت العلمانية والعقلانية والديمقراطية، والحريات الفردية والدستور وحقوق الإنسان.. إلخ، لقد غيرت هذه القيم والأفكار المشهد الاجتماعي والسياسي والاقتصادي للعالم، مما دفع المجتمعات الدينية – بمن في ذلك المسلمون- إلى التفكير في علاقتها بما يحدث، وهل يمثل ذلك خطورة على الدين والمعتقد؟ أم يمكن الانسجام معه بإنشاء حضارة مماثلة من قلب الفكر الإسلامي، وقد اعتنق الكثير من العلماء والمفكرين المسلمين الحداثة باعتبارها وسيلة للتجديد والإحياء؛ في حين كان آخرون أكثر انتقادًا، خوفًا من تآكل القيم والممارسات التقليدية الدينية الموروثة، وما زال هذا الصراع جاريًا بين فريقين، الأول ناقد وثائر ومتمرد على التراث، وآخر متمسك به ويراه حصنه العقائدي الأخير، وأن انهيار ذلك الحصن يعني هزيمة الدين واندثاره إلى غير رجعة.
من ناحية أخرى فقد تشكل موقف المسلمين تجاه العلم الحديث من خلال عدة عوامل؛ منها التقاليد الإسلامية العتيقة، وتفاسير النصوص الإسلامية القديمة، والسياق الثقافي والتاريخي للمجتمعات الإسلامية القديمة، لذلك كانت مهمة المصلحين والمجددين أكثر صعوبة تجاه هذا الواقع الذي يحاولون فيه التغيير وسط سحب هائلة من الضباب والظلام، تحجب الجانب الإيجابي في الحداثة، وهو أن ذلك التغيير الكبير الذي حدث في الغرب وأنتج لنا الحضارة المعاصرة، جاء في معظم جوانبه لصالح الإنسان والمجتمعات المعاصرة، وأن نظرتنا للدولة والمجتمع والعدالة والظلم والنظام والطبقات صارت أرقى إنسانيا وأكثر إقناعًا.
حتى في ظل سيطرة المتشددين منذ السبعينيات ودعوتهم لدولة دينية، لم يجتمعوا على موقف عدائي من الحداثة ومنتجاتها مثلما هو شائع؛ بل آمن البعض منهم بالحداثة على أنها قيمة تتفاعل مع دولة الشريعة، ومن ذلك إعلان القاهرة عام 1990 بشأن تطبيق مبادئ الشريعة الذي يقول: إن “البشر جميعًا أسرة واحدة، جمعت بينهم العبودية لله والنبوة لآدم، وجميع الناس متساوون في أصل الكرامة الإنسانية وفي أصل التكليف والمسؤولية دون تمييز بينهم، بسبب العرق أو اللون أو اللغة أو الجنس أو المعتقد الديني أو الانتماء السياسي أو الوضع الاجتماعي أو غير ذلك من الاعتبارات”. علمًا بأن المساواة المذكورة في نص الإعلان تلغي العديد من الأحكام الفقهية المترتبة على الكفر والردة والبدعة وغيرها من مسميات القرون الوسطى التي شاع استخدامها لعقاب المعارضين والمخالفين في الرأي.
وكذلك إعلان القاهرة لمنظمة التعاون الإسلامي لحقوق الإنسان عام 2021 القائل: “إن البشر جميعًا أسرة واحدة، وجميع الناس متساوون في أصل التكليف والمسؤولية دون أي تمييز بينهم بسبب العرق أو اللون أو اللغة أو الجنس أو الدين أو الرأي السياسي أو الأصل القومي أو الاجتماعي، أو غير ذلك من الأوضاع، وتحرم ممارسات الرق والعبودية والسخرة والاتجار بالبشر بجميع أشكاله، تحت أي ظرف من الظروف، وخصوصًا تلك التي يتعرض لها النساء والأطفال”.
ونلاحظ من صياغة هذه العبارات تأثرها بالحداثة ومنتجاتها بشكل واضح، وإيمانها بعمق التجربة الحضارية وعدالتها، وأن ما كنا نسميه دينًا وشريعة في غياب هذه القواعد والمبادئ الإنسانية، لم يكن سوى تجارب حكم وأهواء بشرية وفردية خاصة بأصحابها.
الحداثة ومفترق الطرق
ولشرح ماهية الحداثة بشكل مبسط، يجب مقارنة مفهوم الدولة الحديثة الذي نحياه الآن بانتخابات ومؤسسات ودساتير وفصل بين السلطات وغيرها، وبين مسمى الدولة القديمة؛ فالطارئ المستجد الذي أوجد الدولة الحديثة لم يقف تأثيره على إنتاج دولة بشكل مختلف فحسب؛ بل طال ذلك الإنسان وهويته؛ فقديمًا كان الناس يعرّفون أنفسهم بشخصياتهم، لكن الآن ليس مجرد اسمك وشخصيتك يكفيان للعلم بوجودك؛ بل يلزم ذلك (هوية مكتوبة لها رقم قومي) وبطاقة هوية، هذا هو المستجد الذي يعترف بك كمواطن في هذه الدولة؛ فلا اعتبار لاسمك بين العائلة أو المجتمع ما دام ليس مكتوبًا في الهوية، ولا اعتبار لدينك ومذهبك ما دامت صفتك في الأخير أنك (مواطن)، هذا هو الفارق الذي طرأ على شخصية الإنسان وتناول المجتمع له.
الدولة الحديثة خرجت بمفهوم “المواطنة” الذي تمت صياغته بدءًا من القرن الـ 18 مع كتابة أول دستور في العالم، والذي عبّر عن فكرة “العقد الاجتماعي”، التي تحدث بها الفلاسفة؛ حيث صار الخط الزمني/ المعادلة للدولة الحديثة كما يلي: “عقد اجتماعي + دستور + مواطنة = دولة حديثة”. ومن هذا الباب تم النظر لأي تمييز على أساس الدين واللغة والعرق والجنس على أنه عمل (طائفي عنصري) غير مشروع، وبعض الدول عملت على تجريمه في القانون، علمًا بأن الدولة القديمة التي سادت ما قبل القرن الـ 18 كانت عنصرية طائفية، ولا تعترف بحقوق المخالفين في الرأي والعقيدة؛ بل كان يجري عقاب من يقول بمذاهب وآراء مختلفة دينية أو أدبية عن السلطان، أو عن المذهب السائد عمومًا.
وهنا تكمن مشكلة دولة الشريعة التي ينادي بها العديد من الشيوخ والجماعات الإسلامية على أنها ما زالت تقف عند زمن ما قبل الهوية؛ فالناس تُعرَف بشخصياتهم وأديانهم؛ فيمكن انتحال شخصية أي إنسان آخر بسهولة في مجتمع يعرفه اسمًا لا شكلاً، وكل من ينتحل دين الأغلبية هو آمن على نفسه ولديه حقوق أكثر ممن يعرف نفسه بالأقلية، أصبح هذا غير ممكن الآن؛ فانتحال هويات الغير جريمة يعاقب عليها القانون وفقًا لمبادئ المواطنة، ومعيار كفاءة أي شخص ليس بمجرد ديانته ومذهبه، ولم يعد لمفهوم الانتماء أي قيمة سوى احترامه كحق شخصي من حقوق الإنسان لا غير، وهذا الذي لا يريد معرفته هؤلاء كأمر واقع ويصرون على دولة شريعة، لا تناقش ولا تهتم لكل هذه المستجدات؛ بل يظنون أنهم بمجرد تشريع ما يسمى بالدستور الإسلامي، وتطبيق كل مواد الفقه القديمة قد ضمنوا الحماية؛ بل أثبتت التجربة أن هذا التشريع هو أزمة في حد ذاته وسط عالم لا يعترف سوى بالدولة الحديثة ومنتجاتها، ومن ثم على كل رجال الدين أن يتصالحوا مع الحداثة جبرًا، لم يعد لديهم الخيار؛ فالزمن تغير والإنسان نفسه تغير.
ومن بعض آثار هذا التغيير المنشود دعوات البعض لتفسير عصري للقرآن الكريم عام 2021 لمواكبة الحداثة والمستجدات العلمية، علمًا بأن هذا التفسير الجديد يلزمه وقف فوضى التكفير للفرق والمعارضين؛ فالذي يمنع الشيخ الآن من الاجتهاد (خوفه) من أي اجتهاد أو رأي يؤديان لاتهامه بالكفر والردة أو البدعة، ومن ثم وضعه مع الفرق النارية الـ 72 الشهيرة المسيطرة فعليًا على مذاهب المسلمين سنةً وشيعةً، وتمنع فقهاءهم من الاجتهاد بطمأنينة؛ فطريقة مذهب السنة في التقليد من (الأقدم للأحدث) والقرون المفضلة لديهم هي (الثلاثة الأولى)، هذا ركن أصيل في مذهبهم لا يمكن الخروج عنه؛ فلو أقدموا على تفسير عصري جديد يخالف ما تعارف عليه المسلمون في القرون المفضلة، سوف يكون انقلابًا على دينهم الموروث بالأساس، وبالتالي من فعل ذلك سوف توجه له سهام (الكفر والردة)، كذلك يلزم هذا المشروع (فهم وهضم) الحداثة وفلسفاتها وتطوراتها والتصالح مع العلم ومستجداته، وهذا صعب الآن في ظل شيوع الجيل الحالي للشيوخ ورجال الدين المتأثرين بالصحوة الوهابية المخاصمة للحداثة والعلم، والتي ما زالت رواسب تلك الصحوة راسخة في كل المدارس الدينية والتعليمية (خاصة وعامة).
وفي تقديري أن الحل الوحيد المناسب لفعل ذلك الآن هو أن يكون التفسير صادرًا من مجمع البحوث الإسلامية؛ فالاجتهاد الجماعي يقلل من فرص معارضته بشكل كبير، ويمنع تكفير هؤلاء المجتهدين دفعة واحدة، وبرغم صعوبة وصول مجمع البحوث لهذا التفسير للعوائق الثلاثة المطروحة؛ إلا أن الإقدام عليه سوف يكون بالانقلاب أولاً على (فكرة العنف)، والقول بجهاد الطلب الوارد في التفاسير القديمة، ولو بدأوا بتهذيب تلك الفكرة وتأويل القرآن بطريقة أخلاقية فيها تسامح ديني؛ فسوف يؤسس مستقبلاً لظهور جيل يرى هذا التفسير نقطة ارتكاز لمراجعة موقف الدين من الفرق وعقيدة الفرقة الناجية والولاء والبراء.. إلخ، وبالتالي ستكون هناك فرصة للنظر في أحكام القرآن وتشريعاته وتأويلها بطريقة عصرية فعلاً، وستظل هذه الفرصة مرهونة بتخليص الدين من العنف والكراهية وتكفير المعارضين، والإيمان بحرية الاجتهاد وعدم المصادرة على الرأي.
هل الدين الإسلامي ضد الحداثة؟
يقول القرآن، وهو الكتاب المقدس الأول للمسلمين: “إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب” [آل عمران : 190]، وفي هذا تشجيع على أهمية العقل والتفكير النقدي، والآية تشجع المؤمنين على التأمل في العالم الطبيعي؛ ما يعني استخدام العقل والملاحظة، وهما جانبان أساسيان في البحث العلمي الحديث، وفي قوله تعالى أيضًا: “اقرأ باسم ربك الذي خلق” [العلق : 1]، نفس المعنى وهو الحث على طلب العلم والقراءة كسلوكيات ضرورية للتطور، وفي قوله تعالى أيضًا: “وقل رب زدني علما” [طه : 114]، دليل على أهمية طلب العلم بشكل دائم، واعتباره من أساسيات الدعاء.
وفي الأحاديث قال ابن ماجه نفس المعنى حيث روي أن النبي عليه السلام قال: “طلب العلم فريضة على كل مسلم”، وروى أبو داود أيضًا قول النبي: “اطلبوا العلم ولو في الصين”، وشجعت هذه الأحاديث على أهمية العلم في الإسلام، والذي يمكن تفسيره ليشمل جميع المعارف والتخصصات الحديثة؛ فالعلم لا يندرج تحت تخصص أو باب واحد، إنما إطلاق لفظ العلم يعني أمرًا وجوبيًا صريحًا وقطعيًا بضرورة العلم واحترامه في المجتمع الإسلامي.
في كتابه الذي صدر حديثًا بعنوان "التنوير الإسلامي.. الصراع بين الدين والعقل في العصر الحديث"، لكريستوفر دو بليج، يدافع المؤلف عن الحضارة الإسلامية نافيًا الاتهامات التي تطالها من افتقار للحداثة، ويوثّق مراحل ما وصفه بالتحول في اتجاه البحث عن التنوير من منظور إسلامي
وقد اجتهد البعض لتحرير موقف الإسلام من الحداثة، أذكر منها بعض الكتب، “كالإسلام والحداثة: المثقفون المسلمون يردون“، لجون كوبر، وفيه ردود المثقفين المسلمين على الحداثة، مع التركيز على أعمال محمد عبده ورشيد رضا وغيرهم، إضافة لصراع الحضارات” لصامويل هنتنغتون، وفيه أن العالم منقسم إلى حضارات متميزة؛ حيث يكون ما بين الإسلام والغرب هو الأكثر عدائية، وبتلك الإشارة يقول الكاتب إن الحداثة ستظل منتجًا غربيًا يتناوله الشرق والمسلمون بمشاعر سلبية تدفعهم للصدام الحضاري الحتمي مع الغرب، إضافة لكتاب “العالم الإسلامي: الماضي والحاضر” لجون إسبوزيتو، “والحداثة والتراث الإسلامي” جي إس هودجسون، “والحداثة الإسلامية وإعادة سحر المقدسات في عصر التاريخ” لمونيكا م. رينجر، واللاهوت الجدلي في البحث عن الإسلام الحديث لعبدالقادر طيب وغيرهم.
وفي كتابه الذي صدر حديثًا بعنوان “التنوير الإسلامي.. الصراع بين الدين والعقل في العصر الحديث”، لكريستوفر دو بليج، يدافع المؤلف عن الحضارة الإسلامية نافيًا الاتهامات التي تطالها من افتقار للحداثة، ويوثّق مراحل ما وصفه بالتحول في اتجاه البحث عن التنوير من منظور إسلامي؛ فالكتاب كما يراه مؤلفه هو الأول باللغة الإنجليزية الذي يتوجه إلى القارئ العادي، ويدعو إلى التحرر من أثر الرؤى الغربية للتاريخ، ورؤية ما حققه مسلمون في الغرب من نجاحات، ويقول إن اتهام الحضارة الإسلامية بالافتقار إلى الحداثة وإلى نمط من الإصلاح، يؤدي إلى طريق مسدود، لأن من يتبنون هذه الفكرة يتجاهلون النجاحات التي حققها مسلمون يعيشون في الغرب ونجحوا تمامًا في الاندماج داخل مجتمعاته، ودمج القيم الحديثة للتسامح والتجريب وتطبيع الإيمان دون الاعتداء على حريات الآخرين.
وفي كتابه بعنوان “حصار الزمن” للفيلسوف المصري حسن حنفي، والذي يناقش فيه الدور الحاسم للمثقفين في تشكيل العلاقة بين الإسلام والحداثة، وهو يعتقد أن المثقفين يجب أن يكونوا مفكرين نقديين يتحدون التفسيرات التقليدية القديمة للإسلام، ويفكرون بشكل تقدمي عصري ناقد للموروث الديني، ويؤكد حنفي على الحاجة إلى “تنوير جديد” يوفق بين القيم الإسلامية والمعرفة الحديثة، علمًا بأن جلّ هذه الجهود تتركز في الإجابة على سؤال: هل الإسلام يقبل الحداثة ويتفاعل معها، أم يعاديها ويستغرق في صدمتها؟
ما سبق يشير إلى أن ثمة رؤى ونظريات وفرضيات بين المسلمين في العصر الحديث، متباينة ومختلفة للغاية حول مفهوم الحداثة، وهذا يؤكد أن الإسلام كدين وأفكار عامة وكليات لا يقف ضد الحداثة أو يعاديها؛ فالكليات الدينية تتصرف من تلقاء نفسها وتنتج حالة من الإجماع، مثلما أجمع المسلمون مثلاً على عبادة الله الواحد ونبوة محمد وحقيقة الجنة والنار، لكننا لم نر ذلك الإجماع البدهي تجاه الحداثة ورؤاها وأفكارها؛ ما يعني أن معاداة البعض للحداثة هي فكرة ضيقة أو جزئية تتبناها مجموعة معينة أو عدة مجموعات، مقابل مجموعات أخرى تتبنى الحداثة وتؤمن بها، ولديها أدلة قوية من الدين الإسلامي، وتستند في قبولها للعلم الحديث إلى كليات الإسلام وثوابته التي أجمع المسلمون عليها منذ البعثة.
الحداثة تفرض نفسها
وبعيدًا عن التنظير الفكري؛ فالواقع السياسي يشهد باعتراف المجتمع الإسلامي بالحداثة وإن حاول بعض المتنفذين التنكر لهذا الاعتراف الضمني بتأويل ما حدث على أنه من المصالح المرسلة، أو من دليل القياس، مثلما حدث بتسمية حزب الإخوان المسلمين في مصر “بالحرية والعدالة”، وفي تونس “بحركة النهضة”؛ فلم يرفعوا شعار الدين كعنوان حزبي؛ بل قاسوا على القيم الأخلاقية التي أمر بها الدين ليخرجوا منها بعناوين ومسميات حزبية، واستخدموا أدوات المصالح المرسلة في تلك التسميات والتي أبدعها قديمًا الإمامان الجويني والشاطبي، وشرحها حديثًا يوسف القرضاوي، علمًا بأن لهذا الرجل –القرضاوي– تأثيرًا مباشرًا في سلسلة شروحاته لفقه الشاطبي على اختيار الإخوان المسلمين لعناوينهم المدنية.
وهذا لا يعني أن الإخوان مؤمنون بالحداثة، لكن انخراطهم في شروح وتطبيقات ونظريات الشاطبي في المصالح المرسلة، أدى بهم لنوع من المرونة السياسية والفكرية، تميزوا بها في فترة الرئيس الأسبق حسني مبارك (1981- 2011)؛ حيث أدت بهم تلك المرونة للابتعاد عن السلفية الجهادية والعلمية، والاقتراب كثيرًا من الأحزاب المدنية والعلمانية والأقباط، وبعيدًا عن سرد تاريخ الإخوان بعد مبارك؛ حيث انقلبوا جذريًا على تلك المرونة وتبدلت أحلافهم للنقيض، لكن استشراف ميولهم نحو تسمية أنفسهم بعيدًا عن الدين هو عمل مهم له أبعاده في الزمان والمكان؛ خصوصًا بعد منع الرئيس مبارك استخدام شعار “الإسلام هو الحل” في الانتخابات التي أعقبت برلمان 2005، واعترافهم بأن ذلك الاستخدام ليس مشروعًا في العمل السياسي بعد ثورة يناير في مصر 2011، وظهورهم الانتخابي عدة مرات تلك الفترة دون هذا الشعار وقد كانوا في أوج قوتهم.
بعيدًا عن التنظير الفكري؛ فالواقع السياسي يشهد باعتراف المجتمع الإسلامي بالحداثة وإن حاول بعض المتنفذين التنكر لهذا الاعتراف الضمني بتأويل ما حدث على أنه من المصالح المرسلة، أو من دليل القياس
وقد شاعت في تلك الحقبة –عصر مبارك- وجهات نظر إسلامية معاصرة على نطاق واسع فيما يتعلق بموقف الإسلام من الحداثة والعلم، تتضمن بعض وجهات النظر الرئيسية هذه آراء ونظريات تجمع ما بين الحداثة والدين؛ فيما سمي وقتها (بالأصالة والمعاصرة)، ومختصر ذلك أن جرى تعريف الأصالة على أنها قواعد تدعو للحفاظ على التقاليد والقيم الإسلامية، مع الاعتراف بالحاجة إلى التقدم العلمي والتكنولوجي المحدود، وجرى تعريف الحداثة على أنه ضرورة إعادة تفسير الإسلام في ضوء المعرفة والقيم الحديثة، وتدعو إلى اتباع نهج أكثر تقدمية في التعامل مع العلوم والمجتمع، وأعادوا تعريف البناء والتنمية على أنه دعوة لإعادة التفكير الشامل في العقيدة والممارسات الإسلامية لمواجهة تحديات الحداثة.
وقد امتلأت كتب الإخوان بهذه العبارات والرؤى؛ من أمثال كتاب “الحداثة” لأنور الجندي، وكتابات محمد عمارة عن رؤية زعماء الإسلاميين للحداثة التي دعا فيها لنوع من الحداثة لا يتعارض مع القيم والتقاليد الإسلامية، ويدعو في نفس الوقت للإيمان بالعلم والمستجدات الحديثة، مثل كتابه “معالم المشروع الحضاري للإمام البنا”، والذي قال فيه: “إن التجديد الإسلامي يتميز عن “الحداثة” -بمعناها الغربي-، فضلًا عن تميزه بعيدًا عن الجمود والتقليد؛ فالجمود والتقليد قد حوَّل “التراث” إلى مرجعية كادت تحجب المنابع الجوهرية والنقية للإسلام، حتى غدت حجابًا بين العصر وبين البلاغ القرآني والبيان النبوي لهذا البلاغ القرآني، وكادت المذهبية والمذاهب تحجب مقلديها عن منهاج النبوة، ثم جاءت ” الحداثة ” -بمعناها الغربي- لتقيم قطيعة معرفية كبرى مع الموروث والتراث” (صـ 37).
وهو بذلك يؤمن بالحداثة بمعنى شرقي أو إسلامي، ويرى أن تفسير الحداثة ليس واحدًا، وفي ذات الوقت هو يرفض التقليد والجمود حول التراث؛ في ظل دعوته المبطنة للاجتهاد والتأويل كي لا يحجب المسلمون المنابع الجوهرية والنقية للإسلام.
أزعم أنه لا يوجد إجماع حول تلك الرؤى التقدمية –وقتها– بين الإخوان المسلمين ونخبة الجماعات؛ بل في الغالب كانوا يربطون الحداثة بالإلحاد والحرب على الدين؛ حيث جرى تفسير العلمنة والحداثة على أنها فصل الدين عن الحياة العامة، وتراجع التأثير الديني في المجتمع، جرى تصوير الحريات بمعارضتها القيم الإسلامية والتقاليد والأعراف الموروثة التي جعلت من المسلم أداة ووسيلة وعنصرًا صغير داخل مجتمع شريعة متناغم، يقوده الحكام وأولو الأمر وجماعة الحل والعقد، لذلك كان الفكر الإسلامي منذ صدمة الحداثة يرى أن استقلال الفرد عن محيطه والدعوة لحقوقه الشخصية، هي في حد ذاتها دعوات للتمرد على المجتمع الإسلامي والعبث به وتفكيكه على أسس غير دينية، كذلك تصورهم للنسبية –وهي إحدى منتجات الحداثة- على أنها تدعو لعدم وجود حقائق أخلاقية مطلقة، وبالتالي تقويض وهدم المبادئ الأخلاقية الإسلامية لصالح العدمية والإلحاد، وعدم الاعتراف بأي مرجعيات وقوانين منظمة لأحوال البشر.
لكن في المقابل؛ كان ظهور دعوات القرضاوي وعمارة والمسيري وغيرهم في تلك الحقبة، برغم قلتها الكمّية، لكنها كانت مؤثرة في السلوك العام للإخوان بفترة حكم الرئيس مبارك، وهنا بيت القصيد في اعتبار الحداثة مؤثرة بذاتها، وأنها تمتلك قيما معرفية وأخلاقية عابرة للحدود، وأنها تفرض نفسها آليًا؛ ليس فقط باعتبارها منتجًا علميًا جيدًا على المستوى النظري، ولكن لأنه تم تجريب تلك القيم، وأدى ذلك لظهور حضارة وأخلاق وعدالة لم توجد عند العرب والمسلمين منذ قرون طويلة، وهذا الذي أدى لانقسام نخبة الفكر الإسلامي حول الحداثة لهذا الشكل الذي ظهر فيه أن رؤيتهم للحداثة هي نفسها رؤيتهم للدولة والمختلفين في الرأي.
- الآراء الواردة في هذا المقال تُعبّر عن رأي الكاتب ولا تعكس بالضرورة مواقف وآراء “مواطن”.