يمثل الملحن والمغني والباحث مصطفى سعيد نموذجًا فريدًا في عالم الفن، وفرت له النشأة أن يتلقى صغيرًا الموسيقى المصرية من نبعها الصافي، دنيا الإنشاد والابتهالات، ودرس خلال ذلك أيضًا علوم اللغة، كما تعرف على قواعد التلاوة وتعلم بحور الشعر، وكان ذلك مهمًّا في تكوينه الموسيقي حسبما يرى.
انطلق “سعيد” بعدها في رحلة تعليمية طويلة شملت المغرب العربي ووسط آسيا وتركيا؛ ففي رأيه أن النغم بهذه الأقاليم متّحد في نظامه المقامي، والذي يمكن أن يُغنّى بالعربية، أو الفارسية أو التركية أو اليونانية، وقبلها في سن العشرين، أسس مصطفى فرقة “أصيل” لتؤدّي “نغمًا عربيًا معاصرًا”.
إلى جانب النشأة والظروف، بشرت الموهبة التي لا ينكرها أحد بموسيقي فذ يملك من الجدية والعزم والقدرة؛ ما يجعل في استطاعته أن يختط مسارًا جديدًا ينأى عن الشكل التجاري الذي لا تعرف الساحة الموسيقية غيره تقريبًا.
يعلن مصطفى منذ بداية المشوار عن رغبته في تجديد الموسيقى العربية "ذاتيًا" أو "من الداخل"، وهو توجه يمليه عقل صوري يرى أن لكل شيء "جوهرًا" أبديًا يشكل الماهية، في حين أن "الاختلاف" هو النقيض والنقض لهذا الجوهر
هذه الصورة كادت أن تتحقق، لولا عقل صوري يغلب علي ساحتنا الثقافية بصفة عامة تفضحه لغة أمست مرضًا يصيب أصحابها بالعمى، عندما أودعها الواحد منا أوهامه، وبات يفكر من خلالها لتفرض عليه ما يفعل، ولهذا السبب وصفها هايدجر بأنها أخطر النعم، بل أخطر الأخطار جميعًا.
يعلن مصطفى منذ بداية المشوار عن رغبته في تجديد الموسيقى العربية “ذاتيًا” أو “من الداخل”، وهو توجه يمليه عقل صوري يرى أن لكل شيء “جوهرًا” أبديًا يشكل الماهية، في حين أن “الاختلاف” هو النقيض والنقض لهذا الجوهر؛ لهذا فمن الطبيعي أن يرى “سعيد” في كل محاولة للتعاطي مع الآخر (الغربي) انهزامية؛ فلا يتصور الآخر إلا ذلك “المستعمر” الذي يمثل لنا النقيض والنقض، والأنا هنا هي أنا ديكارتية تعيش في عزلة وجودية عن الآخر، في حين أن محددات ذلك الفكر “الأصيل” تقف -بطبيعة الحال- عند عتبة الذات والوعي والذاكرة.
لا يدرك “سعيد” أن هذا “التجديد من الداخل” هو “مدلول فارغ”، مبنى بلا معنى؛ فبداية أنت لا يمكن أن تعرف نفسك إلا من خلال الآخر، ببساطة شديدة، لن تعرف مثلاً إذا كنت طويلاً أم قصيرًا، ذكيًا أم محدود الذكاء…، إلا عبر الآخر، أنت مدين له بهذه المعرفة، لتنتفي أي إمكانية للمعرفة بالذات إلا من خلاله، ووفقًا لهذا المنطق فإن الاختلاف محكوم بعلاقة قوامها التعدد والثراء، لا النقيض والنقض، لكن الاختلاف في ظل منطق “سعيد” تابعًا للهوية، لذلك يجري التعامل معه بوصفه شرًا يهددها.
ابتدعت اللغة هنا هذه الصورة الوهمية “التجديد من الداخل”؛ فأملت على مصطفى مشروعًا موسيقيًا التزم إطارًا محدودًا لا يحافظ على الذاتية، بقدر ما يخنق أي قدرات إبداعية، وذلك بتحريض من رغبة تسعى إلى الحفاظ على جوهر خالد مفترض.
يكشف هذا النموذج عما يمكن أن تمثله اللغة من خطورة تصل إلى حد أنها أعمت سعيدًا عن حقيقة كونه أسيرًا لصدمة حضارية مثّلها حدث الحملة الفرنسية، أكثر من آخرين ألصق بهم هذا الاتهام، ورأى أن تلك الصدمة أملت عليهم مسارات “انهزامية” للتجديد الموسيقي؛ فتلك الصدمة الحضارية ما زالت تلزمه وغيره التمترس وراء معاني الهوية والتراث والأصالة ليدور حولها مشروعه للتطوير، في حين انطلق المشروع الحداثي الغربي من قيمة كبرى لازمة لأي نشاط إبداعي، وهي الحرية.
وفي حوار أجريته مع الموسيقي النابه، أكد على أن الأصل في النظام النغميّ العربيّ، فهم اللغة العربيّة والمعرفة بالأوزان وبحور الشعر، تحت هذه الصلة يمكن أن نقع على رباط بين العربية وموسيقاها يطوّق القدرة الإبداعية؛ فالبلاغة التي يؤكد “سعيد” على ضرورة تحصيلها تحدّ من التفكير وتحاصره.
إذا استدعيت -على سبيل المثال- بيتا للمتنبي أو أبي تمام أو المعري، أو ربما لأحد الشعراء الجاهليين: امرئ القيس أو عمرو بن كلثوم أو زهير بن أبي سلمى، أو حتى مقولة لواحد من البلغاء المعاصرين مثل: نجيب محفوظ أو طه حسين أو العقاد، ستقع على حكمة أو إجابة بليغة، استقبالها لدى القارئ يرتبط بشعور الإشباع أو المتعة السريعة التي يتحصل عليها من الحكمة، أو ربما الإجابات الجامعة المانعة.
هذه الرؤية -ربما- تحرض الموسيقي المتفرد على اتهامي بالانهزامية أمام الآخر، لكني أرى في الآخر مرآة تتيح لنا إبصار أنفسنا عرايا دون تلك الأقنعة التي نضعها؛ فتحول بيننا ورؤية ما نحن عليه حقًا.
هذا الشعور بالمتعة السهلة والإشباع، هو نفسه الذي يحصله المستمع إلى موسيقانا “الفصحى” مع كل جزء من اللحن أو “القفلة”، في حين يستقبل الغربي موسيقاه الكلاسيكية بذهنية تأملية، يتتبع بها اللحن الذي لا يكتمل إلا مع آخر جملة موسيقية، وهي نفس الحالة التي يستقبل بها بلاغته في مجملها، لأنها لا تتيح له تلك الإجابات الجامعة المانعة؛ فمثلاً حين يصف فيلسوف -اعتمد البلاغة أو اللغة الأدبية في صياغة فلسفته مثل نيتشه- الإغريق أنهم كانوا “سطحيين من شدة عمقهم”، لن تهبك تلك المقولة البليغة ما يبثه فيك المتنبي حين يقول:
إذا أنت أكرمت الكريم ملكته… وإن أنت أكرمت اللئيم تمرّد، أو ما يلمسه لديك أبو تمام في بيته: نقّل فؤادك حيث شئت من الهوى … ما الحب إلا للحبيب الأول، أو ما يصوره لك المعري في قوله: أيها الغرّ إنْ خُصِصْتَ بعقلٍ … فاتّبعْهُ فكلّ عقلٍ نبي.
خلافًا لتلك البلاغة التي تمنحك الإجابة الفورية وترشدك إلى الحقيقة في سهولة ويسر، تستدعي بلاغة نيتشه الحيرة والتأمل، كما أنها تتطلب المعرفة للفهم والتفسير، لتعلم أن الإغريق لم يُورثوا رسالة سماوية تحصر تفكيرهم في حيز محدود، ولم يعتقدوا في عقيدة صلبة تحجزهم عن التفكير الحر، ولم يسيّجوا عقولهم بأكوام من الحكمة والبلاغة المغوية، كان عليهم على الدوام أن يعوضوا هذا الفراغ بالتفكر الحر ليبلغهم أعماقًا لا يبلغونها في حالة الامتلاء، لذا كانت السطحية شرطًا لعمقهم، في حين كان الامتلاء قدرنا الذي عالج تفكيرنا بالحكم البليغة والوصايا الجاهزة والإجابات الجامعة.
هذه الرؤية -ربما- تحرض الموسيقي المتفرد على اتهامي بالانهزامية أمام الآخر، لكني أرى في الآخر مرآة تتيح لنا إبصار أنفسنا عرايا دون تلك الأقنعة التي نضعها؛ فتحول بيننا ورؤية ما نحن عليه حقًا. الآخر ضرورة للمعرفة بأنفسنا، وبالتبعية لأي تجديد أو تطوير أو تقدم، ولا مجال لذلك “التطوير الذاتي” أو “التطوير من الداخل”، كما لا صحة لتلك الهوية الخالدة؛ فالهوية كما هي بحث عن التميز؛ فهي إقامة علاقات وعقد روابط، لذلك فهي على الدوام في طور التشكل، ولن يكون ذلك إلا على يد فنان مبدع لا كاهن للنغم “العربي”.
- الآراء الواردة في هذا المقال تُعبّر عن رأي الكاتب ولا تعكس بالضرورة مواقف وآراء “مواطن”.