كان يحاول يائسًا الظهور كفرد له احترامه في مدينة قاسية، لكن مظهره الذي يعاني هزالًا شديدًا بلباسه البالي، يجعل من المستحيل إخفاء حالته البائسة. أخذ يلعن نفسه ويتساءل مرارًا وتكرارًا منوجهًا إلى الله؛ لماذا أنا؟ لماذا أنا؟ لماذا أنا يا الله؟ ” لماذا أعاني ذلك لماذا كل هذا الشتات والرفض والهروب من الواقع المرير والصراع الفارغ؟
هكذا بدأت القصة، تمامًا كما في رواية “الجوع” لهنريش كنوت هامسون؛ حيث يشعر بطل الرواية – الرجل الذي لم يُذكر اسمه قط – بأن هويته مسلوبة، وربما هو أنا، أو أنت، أو حتى نحن جميعًا. نحن الذين نجد أنفسنا فاقدي الهوية والانتماء عنوة، محاطين بمعضلة كبرى وصراع نفسي جاء فجأة على هيئة صفعة قاسية. وحتى الآن، لم نتمكن من تجاوزها أو احتوائها أو حتى فهمها. كل ما تبقى لنا هو تساؤلات يومية لا تفضي إلى حلول أو إجابات.
وودت أن أكتب تجربتي كفتاة مسحوب جنسيتها. وأحاول حقًا الحصول على بعض السلام في أكثر اللحظات اضطرابًا وعشوائية، لا يمكنني تعميم تجربتي على سائر البدون المولودين في الكويت، فأنا حالة أكثر بؤسًا.
اليوم المشؤوم
كان القرار قد رفع منذ وقت طويل، وكنت أشعر بوجود خطب ما في مراجعاتي المستمرة لتجديد جواز سفري، كانت الأعذار قد نفذت، “تعالي يوم ثاني، أو راجعي الضابط الفلاني جيكي مع أمن الدولة!”، دون تحديد أسباب تعطل تجديد الجواز. لا أحد يعرف الأسباب الرئيسية التي تمنع تجديده، وبقيت هكذا قرابة الشهرين خلال مايو ويونيو “أروح وأرجع”حتى حفظوا وجهي.
اقترح خطيبي أن نسافر في المدة المتبقية بالجواز لمدينة طبيعية ريفية حتى نسترخي وننسى هموم الحياة، قبل بدء موسم العمل والطحن في سبتمبر، وأيضًا هروبًا من حرارة القيظ التي تحرق الحي والميت. توجهنا إلى المطار وصارت الأمور على خير ما يرام، لكن ظل في أعماقي شعور غامض وخفي يراودني، كأن نذير شؤم يهمس في أذني أن مصيبة وشيكة ستقع عليّ. هكذا، نبوة؟ ربما، أو استحضار لمصيبة ثقيلة.
في 25 من يوليو 2024 جاء خبر سحب الجنسية الكويتية من والدي، والذي يشملني وأخي الصغير والأفراد المتبقين في العائلة. لا أسباب واضحة سوى عبارات معلبة وجاهزة، مزودج مزور، أو جدكم قد أخذها بالتبعية، قبل هذا كله شكل الوزير الحالي للداخلية لجانًا سرية تدقق في سجلات وأسماء من دول خليجية مجاورة، قد تأتي سوء الصدفة أن يجمعكم بذات الاسم. كما قد خصصت اللجنة العليا للتحقيق وسحب الجنسية رقم واتساب وخطًا ساخنًا للإبلاغ عن أي حالات مشكوك في أمرها بالتزوير أو الازدواج بالجنسية، وهذا حسب المادة 11 من المرسوم الأميري رقم 15 لسنة 1959 بقانون الجنسية، والقوانين المعدلة لها، وهذا دفع الكثير للتبليغ عن حالات ازدواج أو حتى حالات طلاق بعد اكتساب الجنسية الكويتية، دفع الكثير من المواطنين للتبليغ عن طليقاتهم وسحب الجنسية منهن تشفيًا أو حقدًا أو حماية للهوية الوطنية لا أدري، ما أعرفه على وجه الخصوص هو أنني الآن في ورطة.
لم أعرف بلدًا غير الكويت، ولم يعرف والدي سوى هذا البلد، وهو الذي خدم في الجيش الكويتي حتى التقاعد، وهو الأسير في غزو العراق في الـ 90، كيف أقنعكم أنني أعمل في أسمى وأرفع وزارة؟ أنتقل من بلد إلى آخر مع وفود رسمية تمثل بلدي؟ كيف أقنعكم أن أخي الصغير حارس وحامٍ للأمير؟
هوت أنباء الخبر على قلوبنا كالصاعقة، وما زاد الأمر سوءًا هو اتصالات الأقارب التي لم تنقطع، مع سيل من الأسئلة التي تعصف بأذهاننا دون أن نجد لها إجابات. وفي ختام الحديث، تنتهي الأمور بعبارة “خيرة” و”ابتلاء”.
تغير صوت أبي السبعيني منذ ذلك الحين حتى الآن، صار صوته مكتومًا محشرجًا ومبحوحًا، بالكاد يخرج الهواء ليعبر عما يريد ببعض كلمات، في اليوم التالي دعانا لنبحث معه على الكثير من الأوراق في مقبرة خزانته، صندوقه الحديدي الصغير الذي يحوي كل أوراق جدي التي تعد على أصابعه.
بعد أسبوع من المشاورات والنقاشات مع عدد كبير من القانونيين والمحامين، انتهت معظم تلك اللقاءات إلى الفشل، بينما الذين عادوا منهم لم يملكوا سوى الاعتذار، معبرين عن مشاعرهم بكلمات مؤثرة وأدعية للصبر في مواجهة البلاء والظلم. وأن الأمر سيادي، ولا كلمة تعلو كلمة الأمير، ولا حل للقضية، وأن الموضوع صعب للغاية، وتلك القرارات لا يمكن العدول عنها في محاكم الدنيا.
إنهاء الخدمات
تجمدت مشاعري وانعقد لساني حين اتصل بي مديري ليخبرني بخبر إنهاء الخدمات، مشددًا على ضرورة الإسراع بالحضور الشخصي لتوقيع القرار. لقد استعدت نفسي للذهاب إلى سلسلة من الوزارات وديوان الخدمة المدنية، ليصل بي الأمر إلى مركز غامض يُدعى “الجهاز المركزي”؛ حيث يبدو أنني على أبواب مرحلة جديدة من التحديات. وضرورة ختم الأوراق من الجهاز الذي يجمع الأشخاص المقيمين بصورة غير قانونية داخل البلد، أو كما يطلق عليهم “البدون”.
التقيت بمديري الدكتور، الذي أعرب عن عميق أسفه لهذه الأخبار التي تجتاح البلاد، مشيرًا إلى أنه فقد موظفة استثنائية وعقلية نابغة في فريقه. وبدأ يطرح خيارات لإصلاح الوضع غير القانوني، بما في ذلك فكرة شراء جواز سفر مقابل الاستثمار بـ 500 ألف دولار من أحد الدول في القارة الأمريكية، والبدء جديًا بالتخطيط والهجرة والعودة مجددًا للكويت
شكرت لطفه والتمست منه أن يُسرع في إنهاء الإجراءات حتى أتمكن من الخروج؛ فشقيقي ينتظرني في الخارج؛ ففتح هذا نصف ساعة جديدة عن مصير أخي الصغير ذي الخامسة والعشرين ربيعًا، لم يدرك أحد منا ماذا يحدث، فخلفنا جميعًا ظلام كثيف من التساؤلات حول مصائرنا الغامضة؛ فموضوع سحب الجنسية من أسوأ الكوابيس التي قد تخطر على بال بشر أي كان، في أي بقعة في الأرض، سحب جنسيتك يعني أن تكون محاصرًا في حياة غير قانونية، تعيش بلا عمل، بلا سفر، بلا هوية، دون أن تملك حسابًا بنكيًا يضمن لك الحد الأدنى من الاستقرار. وسأعود لاحقًا للحديث عن الحساب البنكي.
بعد جولة مضنية على وزارتين في الدولة، انتهى وقت الموظف، كانت الساعة تشير إلى 12 ولم أنه حتى نصف أوراقي لأتوجه إلى المحطة الأخيرة؛ إلى الجهاز المركزي. قررنا استكمال الأوراق في اليوم التالي، واتفقت أنا وأخي أن ننهي كل أسئلة الموظفين الفضولية بكلمة واحدة؛ “ما أدري”، أو “ما عندنا خبر”، وكان هذا فعلًا طبيعة حالنا. أقدّر صدمتهم ومحاولة فهمه لطبيعة ما حدث، لكننا أيضًا في دوامة عميقة من التساؤلات المصيرية التي تنتهي؛ “شنو راح يصير لنا؟”، اضطراب عام شل عقول سائر مواطني الدولة الصالحين، هم يعرفون ماذا تعني بأن تجرد من موطنك وتنزع هويتك نزعًا؟
الجهاز المركزي لمعالجة المقيمين بصورة غير قانونية
عندما تبلغ هذا الجهاز، تأكد أنك قد شارفت على نهاية المطاف، نهاية الأشياء أو ربما نهايتها بطريقة قاسية. أنت الآن تخطو على البساط الأخضر متمهلًا، وتجلس على كرسي الإعدام برغبة واستسلام. جهاز يصنع منك رسميًا وقانونيًا عديم جنسية، أو كما يسمى مقيمًا بصورة غير قانونية.
يوثق أوراقًا ويستخرج لك بطاقات بألوان مختلفة، لم أعرف حتى اللحظة أسباب تباين تلك الألوان، الجهاز المسؤول عنك بكل خطوة تخطوها، أنت الآن في مبنى حقير شبه فارغ، تتصاعد فيه رائحة السجائر والموظفين المصريين في كل مكان.
على حد علمي في عام 2010 تم إنشاء هذا الجهاز تحت توصيات من مجلس الوزراء آنذاك، ووفقًا لما نصت عليه المادة 8 من المرسوم الأميري رقم 467، كان الهدف منه إيجاد حلول لمشكلة البدون، وتسهيل أمور معيشتهم، إلا أن هذا الجهاز لم يقدم سوى أساليب الابتزاز والتضييق وحلول عشوائية لتقليص أعداد البدون الحقيقيين. نعم يجب أن أوضح أنني لا أشبه البدون القدامى في البلد، أنا حديثة العهد وأحب أن ينادونا “كويتيين مسحوب جنسياتهم”، يجب أن أمارس الطبقية والفوقية كما يمارسها القانون في توزيع درجات الجنسية.
بعد توثيق الأوراق طلبوا منا القدوم مجددًا وتسليم وثائقنا؛ من بطاقات مدنية وجوازات لإصدار بطاقة أمنية مؤقتة نحتاجها في تسهيل أمورنا بشكل قانوني، لكننا نعيش تحت مسمى غير قانوني لنمارس أمورًا قانونية. لم يعاملنا أحد بسوء، لكنني شاهدت فتاة تصيح على رجل كبير “ترى اذيتنا؟ ترى أوديك للمخفر؟”. الكثير من التذمر والشكاوي وأفأفة المراجعين -البدون-، الوضع العام غير مريح، والطاقة المنبعثة في هذا المكان طاقة سوداء جعلتنا نهرب بسرعة إلى الخارج حين انتهينا، هذه الرحلة هي رحلة البداية للنهاية، وعندما تعتقد أنك تسير بشكل قانوني حتى تضمن سائر حقوقك، سيؤدي هذا الاعتقاد في النهاية إلى سقوطك، أنت تعيش الآن على أرض هشة متزعزعة، لا أمان متصور، ولا سيناريو أسوأ مما تعيشه.
يمنحك الجهاز المركزي الحياة لتعيشها، ولكن لتموت قبل أوانك، حياة مليئة بالخوف والفشل، أنت معلق كدمية محشوة، الجهاز المركزي يلعب بخيوطك لتحريكك، باختصار حتى تفهم؛ الجهاز المركزي مسؤول عن توظيفك في أي مكان أو وزارة في الدولة، وفق اشتراطات صارمة، الجهاز مسؤول عن الموافقة أو الرفض لزواجك، الجهاز المركزي قد لا يوثق أوراقك أو شهادتك الأكاديمية؛ توكيلات أو حسابات، ويوافق أو يرفض استخراج جواز سفرك “البدون” الخاص، أنت الآن لا تملك أمرك. قرارتك ليست ملكك؛ بل هي ملك الجهاز وهذا ما يصنع صدمة جديدة للانتقال من هويتك الحقيقة المستقلة، إلى ما يريده الجهاز منك ويقرره نيابة عنك.
ماذا الآن؟ هل أنا "بدون"؟ بدون كالذين كنت أقرأ عنهم؟ نعم تمامًا هذا المسمى الرسمي لي الآن، بدون مسحوب جنسيتك كمسمى أنيق، لكني بدون كما البدون، ويجب أن أتأقلم.
تبدو فكرة المرور عبر هذا الجهاز بعد حياة مليئة بالتجارب، وأنا الآن في الثلاثين من عمري، كأنها نكبة تصيب الروح، تشبه إلى حد بعيد فقدان عضو حيوي من جسدك مما يؤدي إلى انهيار صحتك، تتطلع إلى إيجاد حلول، بينما تظن أن الجهاز هو طوق نجاة لك، لكن لا يبدو أن هناك ما يدعو للتفاؤل.
تجميد الرصيد البنكي
بعد زيارتي للجهاز المركزي مباشرة جاءت الكارثة التي لم أستعد لها أطلاقًا، صدر القرار سريعًا؛ حيث عمم بنك الكويت المركزي على جميع حسابات العائلة البنكية بمختلف البنوك المحلية، وعندما جاء القرار، أذكر أنني كنت أحمل عشرة دنانير فقط، واكتشفت الأمر داخل محل أجهزة إلكترونية لأشتري قطعة شاحن لهاتفي، مررت البطاقة البنكية مرارًا، لكن في كل مرة تظهر عبارة “البنك غير متوفر”. اتصلت على البنك فورًا، ليشرح لي المشكلة بأنني الآن يجب أن أصدر بطاقة مراجعة أمنية من الجهاز المركزي بأقصى سرعة لاستعادة أموالي، وأن استعادة رصيدي مستحيل دون بطاقة المراجعة سارية الصلاحية.
كانت الخطة زيارة المركز الجهاز والاعتراف الرسمي بأننا بدون الآن، بدون رسميًا، بدون بطاقة مدنية، بدون عمل، بدون جواز سفر، بدون رصيد بنك؛ فعلام يعيش المواطن الكويتي وماذا يميزه؟ على كل تلك الأشياء رفاهيته القصوى تعتمد على البدونيات التي ذكرتها، دون وظيفة أو عمل أو سفر؛ حيث لا يكون الكويتي كويتيًا، هذا الكائن المرفهة الكريم الذي يعيش الحياة بطولها وعرضها، ولا يخاف من القادم مدام المعاش جاي جاي، لكن لا معاش سيأتي ولا هوية قطعت، ولا مصروف داخل جيبي لأعيش، لكن هل يجب أن أدفع للجهاز؟ وكم أنني حرة في أموالي، وأني لا أقبل المساومة على تعب عمري وشقائي في ألاعيب يتحكم بها الجهاز المركزي، خمس سنوات أجمع المال حتى أشتري أنا وخطيبي هذا البيت الحالم الريفي داخل الطبيعة، وكنا نسير فوق مخطط متصور. بات الآن الكابوس يفوق أي توقعات، معركة صامتة داخلي، وجرح ينزف، ووسواس يقول لي إن الأموال ستضيع كما ضاعت جنسيتي. تواصلت مع الكثير من مدراء البنوك والأصدقاء، لا شيء يفضي لشيء سوى بطاقة مراجعة صالحة، حتى أتحكم في حسابي البنكي، وأستلم سائر الرصيد، أو حيلة بنكية ألعبها؛ حيث أوقع على نفسي كمبيالات وهمية لشخص أثق به بالمبلغ المتبقي بالرصيد، كي تتحول بأمر من المحكمة لحساب الشخص الموثوق، والذي يدينني بهذا المبلغ،
لم أستطع تحمل تلك الفكرة؛ فاجتاحتني موجة من الغثيان، والتي لازمتني حتى هذه اللحظة. استيقظت في اليوم التالي مصابة بوعكة صحية حادة، وكأنني شعرت بثقل الأحداث والمواقف التي تلاحقت بسرعة تفوق توقعاتي، وبأسلوب لم أتمكن من الاستعداد له أو حتى تخيله، بعد موجة المرض والحرارة، والعيش على مصروف بسيط من خطيبي وأختي.
قررت النزول للجهاز المركزي مجددًا، وهذه المرة حتى أصدر بطاقة تسمى بطاقة المراجعة أو بطاقة أمنية، سأقدم رسميًا طلب اعتراف رسمي بسحب الجنسية الكويتية، واختياري بأن أكون عديمة جنسية، أو مسحوبة جنسيتها حتى -فقط- أحرر قيد الحساب البنكي.
بعد اتصالات كثيرة وتدقيق في الأوراق أخذ موظف البنك يسألني ما إذا كانت علي قروض بنكية أو سلفة من أي جهات حكومية، وأجبت قطعًا بلا والحمد لله، ما قاله لي خفف وجع التجميد بنسبة قليلة، غيري ينتظر المحاسبة القانونية بالحبس والسجن نتيجة قروض معلقة، وتم سحب جنسياتهم و إنهاء خدماتهم كما حدث معي. وأن وضعي شبه ممتاز مقارنة بالبقية، طلبت منه أن يشرح معنى “ممتاز”، قال: ببساطة لا ينتظرك السجن أو أي مطالبات مالية، وأن الأمور ستكون زينة وعلى ما يرام فور صدور البطاقة. طلبت منه الاستعجال بصرف بطاقة المراجعة حتى أستطيع فتح تجميد المصرف، لكن اعتذر وقال: الأمر بصرف البطاقة لكم لم يأت بعد، لكنه قادم لا محالة. حدد لي موعدًا بمراجعته بعد أسبوعين. قلت له الوضع صعب بدون البنك؛ هل تستطيع الاستعجال بأقل من أسبوعين؟ كان صريحًا للغاية، قال: “والله يا أختي نحن أنفسنا لا نعرف الإجراءات المتبعة بعد، وما الشروط التي تنطبق، نحن ننتظر الأوامر من الرأس الكبير”.
كان يعرف حجم التخبط والعشوائية غير المدروسة في أمور أدق ما توصف به هو “الانهيار والتفكك”. كيف لجهاز يحل كل تلك المشاكل، ولم يجد الخطة بعد في حل المسحوب جنسياتهم؟ كيف لم تخطر ببالهم بعد كل تلك الأمور قبل الزج بنا نحو الهلاك؟ لم يكن الجهاز مستعدًا آنذاك لاستقبال العوائل المسحوبة جنسياتهم ومنحهم إجابات واضحة على سير العملية. إنها تجربة لإدراك العبثية القذرة التي تدار في الواقع داخل هذا الكيان المسمى بالمركزي.
جاءت الأخبار سريعًا بعد مغادرتي باجتماع وزير الداخلية مع رئيس الجهاز المركزي لوضع حلول وتسهيلات، مشكورين للمسحوبة جنسياتهم ووضع آلية مميزة لهم. برافو، لقد أدركت حينها التخبط الذي تعيشه كافة الأجهزة في القرارات المصيرية التي يقروننها بالبشر، والتي تزيد الطين بلة. خرجت وأنا فارغة من كل شيء؛ من بطاقة مراجعة إلى حسابي البنكي.
إخلاء البيت
بعد طلب مراجعة من الرعاية السكنية والإسكان، ذهب والدي المتقاعد السبعيني هناك، أمروا بإخلاء منزلنا ورد القسيمة للحكومة، وتوقيع مقررات من أحكام النيابة، شاملة المسحوب جنسياتهم برد البيت إلى الحكومة خلال27 يومًا من التوقيع، طلب أبي مهلة لفهم ما يمكن فهمه من هذا القرار السريع المفاجئ، أين سنذهب؟ وما مصير البيت بعد الإخلاء؟ هذا أمر لا يخصهم! هم ينتظرون تسليم البيت فقط بأسرع وقت ممكن ولا سبيل سوى ذلك، رغبت بالأمر طواعية، أو بإجبار القانون والقوة سيعود البيت لهم.
بعد عودة والدي إلى المنزل كثرت الاتصالات للسؤال عن مصير البيت المسحوب إذا ما كان سيطرح بالمزاد أو سيقدم لطلبات الإسكان. سوف يقف الأقارب سويًا لاسترجاعه وتسجيله باسم أحدهم إلى أن يشاء الله، ويفك الحصار عن الوالد وممتلكاته القليلة المتبقية. يحمل البيت ذكرياتنا كاملة، الولادة والزواج، أعيادنا، الأوقات المريرة والعزاءات المتكررة، كون أبي كبير العائلة، وكان البيت المرجع الرئيسي لهم. صار أبي عصبيًا وبدأ صوته يختفي، وهذا ما أخافني كثيرًا، أن أصحو على فقدانه فجأة، كما فقدت أختي الكبرى حين توقف قلبها، لا أدري كيف يستمد والدي الصلب العسكري شجاعته على توالي الأحداث الصعبة المتتالية، والمملؤة بالتحولات الجذرية، أطلب من الزمن قليلًا من الرحمة لاستيعاب ما يحدث من صدمات لا تتوقف.
الصدمة النفسية
قبل أن تسحب جنسيتي كنت أشعر بالضياع والكثير من التساؤلات الوجودية ونوبات الاكتئاب، كنت مهتمة جدًا بتحسين الصحة النفسية وإعادة التوازن والسلام النفسي مع ذاتي والوجود، قبل أن تتحول بعد فقدان جنسيتي إلى نوبات غضب مستمرة وتشتت وإنكار. صرت أكثر عشوائية وتخبط بين الحلول والأفكار، وباتت حالتي النفسية تؤثر على سائر أعضائي؛ لا شهية للطعام، لا للموسيقى ولا لمشاهدة الأفلام أو قراءة كتاب، فقدان التركيز التام، تدهورت أموري الحياتية والاجتماعية، وظل الهاتف على وضع الطيران لا أستقبل الاتصالات، وأتواصل مع ثلاثة فقط على الواتساب.
بينما أهدر وقتي كله على البحث في محرك جوجل على حلول ومواد دستورية قد تعيد جنسيتي، وأنا أعلم يقينًا أن لا كلمة تعلو على كلمة الأمير، لكنني أواسي نفسي بالأمل الزائف، خيارات متعددة باهظة الثمن، محاولة أن أحتوي تلك الأفكار وتنظيمها لكي أفكر مجددًا. فكيف بدولة متحضرة أن تزج بمواطنيها لقعر الحضيض دون تأهيل نفسي من آثار الصدمة المفجعة، وتركهم يخوضون حروبًا مرضية ونفسية دون تقييم ولا تأهيل لما يحدث!؟
بدون هوية بدون جواز سفر
ماذا الآن؟ هل أنا “بدون”؟ بدون كالذين كنت أقرأ عنهم؟ نعم تمامًا هذا المسمى الرسمي لي الآن، بدون مسحوب جنسيتك كمسمى أنيق، لكني بدون كما البدون، ويجب أن أتأقلم مع المسمى لتهدئة عقلي، قبل 5 سنوات ألغت وزارة الداخلية جوازات السفر للبدون، وخصصت استخراج الجواز لفئتين؛ المرضى والدارسين في الخارج، وفي شهر يوليو لعام 2024 تم سحب جميع الحجوزات للبدون كاملة وإيقافها، ووضع منع سفر على تلك الفئتين؛ الدراسين في الخارج والمرضى، مما أثار حالة من الفوضى العارمة داخل مطار الكويت، قاموا بتخصيص طابور مخصص للبدون؛ فقط ليسلموا جوازاتهم فور وصولهم إلى مطار الكويت عنوة، ووضع قيد يمنع سفرهم مجددًا، حتى هذه اللحظة لم يسلم مريض ولا طالب من القرارات الجائرة في مواصلة الدراسة. وحين سألنا عن إمكانية استخراج جواز سفر لأنفسنا قوبل الطلب بالرفض من الجهاز المركزي، حتى في سؤالنا عن كيفية إيجاد وظائف قريبة لأعمالنا السابقة، ضحك الكثير من الأصدقاء وقالوا لي حرفيًا؛ (لن تصمدي في وظائف البدون)، كما أن معدل الرواتب منخفض ولا يتعدى 400 دينار كويتي، وساعات العمل طويلة ومكثفة، كما يعانون من العنصرية والاحتقار.
لذلك أعد أيامي للابتعاد والهجرة، لكن لا أعرف حتى اللحظة كيف ستسير الأمور دون جواز سفر، سأتزوج قريبًا بإجراءات معقدة، لكنني أيضًا لا أعرف الإجراءات الرسمية في البلاد؛ هل سيسهل ذلك حصولي على جواز سفر وبطاقة هوية حتى أغادر نهائيًا؟ أقضي الكثير من الساعات الآن للبحث عن مخرج أو حلّ مع خطيبي، لكنني أفكر أيضًا بمصير والدي وأخي الصغير. كل الحلول تشير إلى الهجرة واللجوء وإعادة تنظيم حياتي مجددًا.
وودت أن أكتب تجربتي كفتاة مسحوب جنسيتها. وأحاول حقًا الحصول على بعض السلام في أكثر اللحظات اضطرابًا وعشوائية، لا يمكنني تعميم تجربتي على سائر البدون المولودين في الكويت، فأنا حالة أكثر بؤسًا، خضت العذاب لنهاية ليست متوقعة، ونظام سادي أجبرت أن أصبح تحت رحمته. أحاول إيصال صوتنا المكتوم الذي لا يخرج في ظل أحكام قاسية وحازمة في الكويت، أحكام تحرمنا لذة التعبير عن رأينا، أصواتنا التي لطالما طافت وجالت في الخليج مرددة شعار التغيير والإصلاح والرفض، صار الكل الآن يخاف أن يكتب كلمة، الحال ليس كالسابق، ما زالت مليئة بالأسئلة وتائهة، حاولت قدر الإمكان أن أرسم نهاية لحكاية معاناتي ليسمعنا العالم بأسره، تلك الغاية قد تحررني، ربما من مقاومة واقعي الجديد.
- الآراء الواردة في هذا المقال تُعبّر عن رأي الكاتب ولا تعكس بالضرورة مواقف وآراء “مواطن”.