"كثيرًا ما يكون الحبل الملفوف حول الرقاب هو الأوهام والأفكار المرتبطة بعادات وتقاليد ومقدسات"
يرى الفيلسوف الألماني فردريك نيتشه أن الفرد المتفوق هو الذي يتمرد على القيم الجماعية والقيود الاجتماعية التي يفرضها القطيع، الذي يعكس نوعًا من التبعية والامتثال الأعمى، في حين أن الفرد هو من يسعى لتحقيق ذاته. وعلى الرغم من بساطة الأفكار في ظاهرها؛ فإن أصعب ما يواجه الفرد في مواجهة القطيع هو أن يكون ذاته، وما يرغب أن يكون عليه؛ فكيف تُصنع أفكار الجماعة؟ ولماذا يتبناها الأفراد دون نقد أو تشكيك؟
بين القيادة والتبعية
يتداول أهالي جبال الساحل السوري حكاية تعود إلى ثلاثينيات القرن الماضي، تقول إنه في إحدى ليالي الشتاء القارسة في جبال الساحل السوري، تحرك جنود فرنسيون برفقة أتباعهم من السوريين، مستغلين سكون الشوارع حتى من الكلاب. كانت مهمتهم تنفيذ أوامر بحفر ثقوب في كل جدار وكل سور، ووضع القمح داخلها ثم إغلاقها بإحكام. وفي الصباح، ظهر رجل في الساحة يخطب بالناس مدعيًا أنه من أولياء الله الصالحين؛ فبين مشكك ومصدق، وبين من اقتنع دون دليل ومن طالب بالبرهان، ارتفع صوت الرجل الواثق من حجته. لم يكن الأمر هذه المرة عصا تتحول إلى حيّة؛ فالمسألة ليست سحرًا بل فقرًا منتشرًا. أقسم الرجل أنه إذا ضرب الحائط سيخرج منه القمح، وفعلًا ضرب الجدار مرة ومرتين وثلاثًا، وعلى مرأى الجميع من نساء وأطفال ورجال وشباب خرج القمح من الحائط؛ فهل كان هناك مجال بعد ذلك للشك بصدق الرجل وأنه من أولياء الله؟ وهل كان لأحد من بين هذه الجموع أن يكذبه أو يحيد عن رأيه بأي شأن؟
بالطريقة السابقة نفسها، وعلى غرار نفس الحكاية، وبتعديلاتٍ طفيفة على السيناريو، يُصنع الكثير من المؤثرين في العالم وفي كلّ المجالات، مستغلين عوامل القيادة والتبعية، عن طريق هندسة إرادة الجماعة والتحكم بها لتبدو أفعالهم وسلوكياتهم نابعة من ذواتهم؛ في حين أن إرادة الجماعة لطالما كانت دائمًا مسخرة لخدمة أهداف سياسية واجتماعية ودينية وحتى تسويقية.
أخلاق الجماعة مقابل الفرد
يعدل الناس معتقداتهم وأفكارهم وسلوكياتهم حتى تتوافق مع الأغلبية؛ فالخروج عن القطيع يحمل تبعات خطيرة على الفرد، ولذلك يميل الأفراد إلى انحيازات معينة متأثرين بقيم الجماعة التي ينتمون إليها، ويتعاملون معها على أنها حقائق، وذلك في سبيل الحفاظ على الموقع ضمن الجماعة، مهما حمل الأمر من تناقضات أو مواقف مضادة.
في فيلم Jojo Rabbit، الذي يتناول سياسة هتلر القائمة على تغييب التفكير الحر واستلاب عقول الأطفال، بتحويل تفكيرهم باتجاه وحيد يمجّد الزعيم، نرى في المشهد الأخير تحولًا جذريًا في مواقف الناس بمجرد هزيمة هتلر؛ فبلمح البصر تغيّر من بطل يُمَجَّد إلى مجرم يُدان. هذا المشهد يفتح الباب أمام العديد من التساؤلات حول طبيعة الأخلاق التي تتبناها الجماعات، وكيف تتغير مفاهيم الناس حول ما هو صواب أو خطأ، خير أو شر، عادل أو غير عادل بناءً على تأثير هذه الجماعة. مرة أخرى نجد أنفسنا أمام مفهوم الضمير الجمعي، الذي تحدده في الأساس سلطة تسعى لتحقيق مصالحها كما يقول دوركايم: “الأخلاق تبدأ حيث تبدأ حياة الجماعة، إذ إن التفاني ونكران الذات لا معنى لهما إلا في هذا الإطار”.
وباستدعاء مشهد الحجرة الأولى في فيلم “رجم ثريا”؛ حيث تنهال الحجارة على رأس امرأة مظلومة لتُهشّمه، نتساءل: هل حاول أحدهم محاكمة الموقف من الناحية الأخلاقية؟ على العكس، اندمج الجميع مع الحشد الغاضب ضد “الزانية”، ليصبحوا جسدًا واحدًا يفكر بالطريقة ذاتها، ويمتثل لقرارات صاحب السلطة في تلك الجماعة، الذي اتخذ من الأخلاق قناعًا لتحقيق أهداف لا أخلاقية. هذه الآلية الاجتماعية تلبس عباءة الأخلاق المستندة إلى دوافع دينية، لكنها في جوهرها غير أخلاقية وظالمة. وقد نشأت نتيجة الامتناع عن التفكير النقدي خوفًا من التشكيك الذي قد يهدد الاستقرار والأمن الشخصي للجميع.
صناعة الوهم
عن سيطرة الأوهام على عقل الفرد تحدث فرانسيس بيكون، الذي عاش في المرحلة الانتقالية بين القرون الوسطى وبداية العصر الحديث، عن سيطرة الأوهام على ما نقوله ونفعله ونقرره، في كتابه الأورغانون الجديد. وتناول أربعة أنواع من الأوهام التي تحكم الإنسان وتمنعه من التطور، مؤكدًا أن المواجهة الداخلية هي الأصعب والأكثر تعقيدًا مقارنة بأي مواجهة خارجية. قبل أن نواجه تأثيرات المجتمع أو “القطيع”، يجب أن ننتصر على هذه الأوهام الأربعة:
- أوهام القبيلة: وهي الأوهام الناتجة عن طبيعة الإنسان الذي يميل إلى التعميم وإطلاق الأحكام التي ترضي ميوله ورغباته. هذه الأوهام تفضي إلى أخطاء فطرية، لأن البشر غالبًا ما يتبنون اختصارات ذهنية، ويعتمدون على آراء وسلوكيات الآخرين بدلًا من التفكير العقلاني والمنطقي.
- أوهام السوق: تتعلق بسوء استخدام اللغة وعدم القدرة على فهم المعاني الدقيقة، مما يؤدي إلى انتشار مفاهيم مغلوطة وألفاظ بلا معنى حقيقي. وقد لفتني في هذا السياق منشور ساخر لصديق باحث اجتماعي ينتقد فيه العبارة المتداولة “الحمد لله حتى يبلغ الحمد منتهاه”، والتي انتشرت بكثرة في المجتمع السوري، رغم أنها بلا معنى حقيقي، إلا أن الناس يستخدمونها بلا تمييز، كأحد مظاهر التقليد الأعمى.
- أوهام الكهف: تنبع من تأثير بيئة الفرد وثقافته على تفكيره، مما يعيق قدرته على نقد أو دحض تلك المعتقدات. الإنسان يميل بطبيعته إلى البحث عما يؤكد أفكاره ومعتقداته، حتى لو كانت تلك المعتقدات مجرد تركة ورثها عن أجيال سابقة. وهنا يتبادر إلى الذهن سؤال حول عملية التنشئة الاجتماعية: هل نقوم بتعليم الفرد كيفية التفكير ضمن سياق المجتمع؟ أم نقوم بحشو عقله بثقافة المجتمع بشكل تلقيني، مما يجعله يرفض أي تغيير ويرى الاختلاف تهديدًا شخصيًا؟
- أوهام المسرح: تشبه إعجابنا بالممثلين على خشبة المسرح؛ حيث نقدس أفكار السابقين فقط لأنهم من عصور ماضية. تجلى هذا الوهم في سيطرة الفكر الأرسطي خلال العصور الوسطى في أوروبا؛ حيث اعتُبرت أفكار أرسطو مقدسة وغير قابلة للنقد.
وعلى الرغم من أننا الآن في عام 2024؛ فما زالت الأوهام التي تحدث عنها “بيكون” لم تفقد تأثيرها مع مرور الزمن؛ بل إنها تبدو جزءً من الطبيعة البشرية التي تعرقل عملية التطور الفكري؛ في ظل هذه الظروف، تبقى التحديات الكبرى أمام التفكير المستقل والنقدي؛ حيث يسهل للجماعة أن تفرض ضميرها الجمعي على الأفراد، محاربةً أي محاولة للخروج عن المألوف.
تجنب التفكير، لماذا؟
يقول عالم النفس الأمريكي ج، ب. جيلفورد: “إن أصالة التفكير تعني إنتاج ما هو غير مألوف، ما هو بعيد المدى، ما هو ذكي وحاذق من الاستجابات”. لكن هل يمكن لجميع أفراد الجنس البشري أن يمتلكوا هذه الأصالة في تفكيرهم؟ أو حتى خصائص أخرى مثل المرونة والسرعة؟ بالطبع لا. من خلال ملاحظة سلوك الناس اليومي، نرى اختلافات واضحة في خصائص التفكير بينهم، وهذا ما يميز بعض الأشخاص عن غيرهم في مواقف معينة؛ فتظهر سمات القائد في حالة تعرض مجموعة من الناس لحادث ما؛ سواء أكان حريقًا أو حادث سير، نجد أن فردًا من بين الجماعة يتولى دور القائد بشكل فوري، يُصدر الأوامر والتعليمات، بينما يتبع الآخرون دون مقاومة تُذكر.
من منظور نفسي، يُقال إن التفكير ينطلق مثل أي نشاط إنساني آخر من حاجات ودوافع شخصية؛ فإذا لم توجد حاجة أو دافع للتفكير؛ فلن يحدث.
هذه الديناميكية تُظهر أن هناك نوعًا من الحاجة للعلاقة مع القائد أو المفكر، لأنهم يحققون ما نرغب نحن في تحقيقه أو نسعى إليه، مما يولد نوعًا من الاعتماد الوظيفي عليهم. إضافة إلى ذلك، هناك اعتماد معرفي؛ حيث يساعد القائد الناس على معرفة ما يعجزون عن اكتشافه بمفردهم، ويقودنا هذا إلى نقطة مهمة تحدث عنها عالم الاجتماع “شلينرج” في ولاية إنديانا، وهي أن البشر “خدم لكل ما له قيمة عندهم”، وبالتالي فإن أي شخص يستطيع التأثير علينا مادام يؤثر على ما نعتبره ذا قيمة.
من هنا تبرز سمة مهمة في سلوك “القطيع”، وهي الانتهازية؛ فالتفكير القطيعي ليس مجرد تماشٍ بريء مع الجماعة؛ بل هو يحمل في طياته فوائد ومصالح لأصحابه. مثال على ذلك هو التبعية المطلقة التي نراها لدى فئة التجار تجاه السلطة السياسية، حتى لو كانت قمعية، طالما أنها تخدم مصالحهم. وكذلك نجد تبعية الذكور لرجال الدين، أو الفقراء لشخص فاسد يوزع عليهم مساعدات شهرية. هذه الأمثلة تُظهر أن الانتهازية هي جزء لا يتجزأ من التفكير القطيعي؛ حيث يكون الانضمام للجماعة أداة لتحقيق المصالح الشخصية.
وبالعودة إلى مقولة “شلينرج”، سنضع خطًا أحمر تحت كلمة “قيمة”؛ فهل الإنسان اليوم حر في تحديد ما له قيمة وما ليس له؟ هل نمتلك حقًا خيار الرفض أو القبول؟ وهل هناك أي ظاهرة معاصرة بريئة من سيطرة الرأسمالية العالمية على كل حركة وتوجه ودافع لدينا، مهما بدا شخصيًا؟
فمثلًا عند هجوم قطيع من المراهقين على صورة فتاة بملامح طبيعية من دون فلاتر، هل يمكننا تخيل نوع التصورات التي تسيطر اليوم على أفكارهم الجمعية، وعلى أسلوب حياتهم ونظرتهم لما يجري حولهم؟ هل لهذه الأمور قيمة حقيقية في أعينهم؟ أم أن الأمر لا يتجاوز كونه خوفًا من النبذ والخروج عن القطيع؟ إن هذه الأسئلة تفتح بابًا واسعًا للتفكير في مدى سيطرة النظام الرأسمالي على تشكيل ما نراه ذا قيمة، وكيف تفرض علينا معايير محددة دون أن نعيها، مما يجعلنا نختار دون اختيار، ونتبع دون وعي كامل.
استغلال غريزة القطيع لدى البشر سهل على جهات معينة والتحكم بالعقول. بالعودة للقصة التي رويتها في البداية نقلاً عن أهالي جبال الساحل السوري، يتضح كيف يتم استغلال الفقر والجهل لصالح هذه السيطرة؛ فبخلق بيئة معينة، يمكن لهذه الجهات استنباط المؤثرين منها. وفي رأيي الشخصي، هذا بالضبط ما يحدث في عالمنا المعاصر. تم خلق بيئة تغذي الثقافة السطحية والتفاهة على حساب الجوهر والمهم؛ حيث يتم تعويم ما هو سطحي على الساحة العامة، ثم تبدأ عملية صنع المؤثرين.
وقد لا يتطلب الأمر أكثر من الترويج لشخص واحد فقط، لفت الأنظار إليه، ثم تكرار النسخة آلاف المرات على منصات مثل تيك توك، يوتيوب، سناب شات، وإنستغرام ليحصد ملايين المتابعين. كما قال نيتشه: “هكذا هو القطيع دومًا، يتبع شخصًا لا لشيء إلا لكونه يركض أمامه.” تُظهر هذه الديناميكية بوضوح كيف أصبح القطيع يتبنى دون تفكير ما يُقدَّم له، متأثرًا بالتوجهات السائدة التي تروّج للاستهلاك السريع والسطحي، مما يرسخ من سلطة الرأسمالية والتحكم في العقول عبر خلق قادة مزيفين.
يراقب الناس اليوم تصريحات المشاهير؛ سواء أكانت سياسية أو اجتماعية، رغم أن هؤلاء غالبًا ما يفتقرون إلى عناصر التأثير التي أشار إليها هوارد جاردنر، أستاذ علم النفس في جامعة هارفارد: “هناك عناصر أساسية تؤثر في الآخرين وتغير آراءهم واتجاهاتهم، من بينها العقلانية، المنطق، الأبحاث، أحداث العالم الواقعي، ومدى المقاومة التي تواجهها الفكرة الجديدة. كل هذه الأمور تشكل جزءًا من صناعة الرأي العام.” ومع ذلك، نجد أن تصريحات المشاهير تفتقر في كثير من الأحيان إلى المنطق أو العقلانية أو الأبحاث المعمقة؛ بل تعتمد في معظمها على العواطف، المشاعر الشخصية، أو حتى الأجندات السياسية. وعلى الرغم من هذا؛ فإنها تمتلك قدرة ملحوظة على زعزعة الرأي العام، تأجيجه وتحريكه. وقد أثبتت العديد من الدراسات في علم النفس أن الناس مبرمجون على الاستجابة الإيجابية لأقوال المشاهير، ويتبعونها أحيانًا دون وعي. ومن منظور نفسي، يُقال إن التفكير ينطلق مثل أي نشاط إنساني آخر من حاجات ودوافع شخصية؛ فإذا لم توجد حاجة أو دافع للتفكير؛ فلن يحدث.
- الآراء الواردة في هذا المقال تُعبّر عن رأي الكاتب ولا تعكس بالضرورة مواقف وآراء “مواطن”.