تشهد السعودية في السنوات الأخيرة تحولًا ثقافيًا ملحوظًا تحت قيادة ولي العهد محمد بن سلمان، هذا التحول لم يقتصر على الإصلاحات الاقتصادية والاجتماعية؛ بل شمل أيضًا توظيف الثقافة كأداة سياسية لتعزيز رؤية المملكة 2030، والتي تهدف إلى تحويل البلاد إلى مركز عالمي للاقتصاد والسياحة والثقافة، مما يتطلب تغييرات جذرية في نمط الحياة الاجتماعية والثقافية للسعوديين.
وتعد هذه التحولات الثقافية جزءً من استراتيجية سياسية تهدف إلى تعزيز قوة السعودية الناعمة وتحسين صورتها العالمية؛ خاصة في مجال الحريات العامة والحقوق والتحول الثقافي نحو دولة أكثر انفتاحًا بعد سنوات طويلة من الانغلاق والتوجهات المحافظة.
هل الانفتاح الثقافي في المملكة ناتجًا عن رغبات المجتمع وأدواته الثقافية الخاصة، أم أنه مدفوع بجهود خارجية تسعى لفرضها بالقوة؟
وفي إطار جهود المملكة لتعزيز حضورها الثقافي العالمي ودعم رؤية 2030، أُعلن مؤخرًا عن خطة لافتتاح متحف لوفر جديد في السعودية. من المتوقع أن يكون المتحف امتدادًا لعلامة اللوفر العالمية، مشابهًا لمتحف اللوفر أبوظبي، الذي يُعدّ أول فرع دولي للمتحف الفرنسي.
ومن بين القطع الفنية التي يُتوقع أن تكون جزءًا من المعروضات في المتحف السعودي، لوحة “المسيح المخلص” للفنان ليوناردو دا فينشي، هذه اللوحة، التي اشتراها في وقت سابق شخص مجهول يُعتقد أنه مرتبط بالمملكة، تُعتبر واحدة من أعظم الأعمال الفنية في العالم، عرض هذه اللوحة في متحف سعودي يمثل رسالة قوية عن التزام السعودية بالانفتاح الثقافي، والتنوع، واحترام التراث الفني العالمي.
وتُعتبر اللوحة تحفة فنية من عصر النهضة، بيعت في مزاد علني عام 2017 بمبلغ قدره 450 مليون دولار، مما جعلها أغلى لوحة فنية تُباع في التاريخ، وبحسب تقرير نشرته صحيفة “نيويورك تايمز” في نوفمبر 2017، تم شراؤها من قبل مجموعة من المستثمرين، ويُعتقد أن أحد هؤلاء المستثمرين هو ولي العهد السعودي، إلا أن مسألة صحة هذه الأخبار لاقت بعض التشكيك، وأكدت بعض التقارير الأخرى عدم وجود دليل قاطع على أن محمد بن سلمان هو المشتري الفعلي للوحة.
ومؤخرًا، كشفت صحيفة الغارديان أن السعودية تخطط لعرض لوحة “Salvator Mundi” المسيح المخلص، التي تعد إحدى أشهر الأعمال الفنية في العالم في متحف تعتزم افتتاحه قريبًا في البلاد.
وأشارت الصحيفة إلى أن فيلمًا وثائقيًا عرضته شبكة “بي بي سي” البريطانية الشهر الماضي عن السعودية، كشف أن المملكة تخطط لاستخدام لوحة “سالفاتور موندي” أو “المسيح المخلّص” كجوهرة التاج في متحف جديد ضخم، صُمم خصيصًا من أجل تغيير صورة البلاد على الساحة الدولية.
وتنقل الصحيفة عن الخبيرة في مجال الفن المعاصر أليسون كول أن “الحديث عن تخطيط السعودية لأن تصبح اللوحة عنصرًا رئيسًا في المتحف الجديد ليس مفاجئًا، لأنها ستكون قوة جاذبة مذهلة كما يحصل مع الموناليزا في باريس”.
إلى ذلك يؤكد د. سامح إسماعيل، الباحث والأكاديمي، إن إلى أن وجود لوحة “المسيح المخلص” في متحف اللوفر الرياض؛ في أكبر بلد إسلامي يضم الكعبة، يحمل دلالة عميقة ومتعددة الأبعاد. أولًا، يعكس هذا العرض التزام السعودية بالتنوع الثقافي والانفتاح على مختلف المعتقدات الدينية، وهو تغيير جوهري في سياق اجتماعي وثقافي”.
التحول الثقافي في المملكة يمثل هزة اجتماعية وزلزالية معرفية كبيرة” حسبما يرى سامح إسماعيل، والذي يشير إلى ضرورة توخي الحذر في حال كان الانفتاح الثقافي يهدف فقط إلى تحقيق أهداف سياسية، مرتبطًا بمدة زمنية محددة، قد يؤدي إلى انهيار هذا التحول الاجتماعي التقدمي عند انتهاء المشروع السياسي.
كذلك يطرح إسماعيل، تساؤلات حول ما إذا كان هذا الانفتاح الثقافي ناتجًا عن رغبات المجتمع وأدواته الثقافية الخاصة، أم أنه مدفوع بجهود خارجية تسعى لفرضها بالقوة. يعتبر أن أي عنصر ثقافي خارجي قد يرفضه المجتمع بمرور الوقت، حتى لو لم يكن هذا الرفض فوريًا. لذا، من الضروري أن تكون البنية الثقافية الجديدة ذات خصوصية اجتماعية وثقافية وتاريخية نابعة من المجتمع نفسه، ولا تكون مفروضة من الخارج.
ومن جهته ينوه العضو المؤسس بجمعية الفلسفة السعودية، د.عماد عباس إلى أنه حتى اللحظة الراهنة لا توجد تصريحات رسمية من الجانب السعودي تؤكد عرضة لوحة المسيح المخلص في متحف بالرياض.
تنوع يثري المجتمع
من جهته، يؤكد كذلك د. محمد صفر، رئيس مركز دراسات السلام واللاعنف، إلى أن هذه التحولات تمثل جزءًا من السياسة الحالية للمملكة، والتي تتسم بتنوع ثقافي كبير، يشمل اختلافات بين سكان المناطق المختلفة، مثل سكان الجنوب والشمال والشرق والغرب.
فعلى سبيل المثال، يرتدي سكان الجنوب العمة بدلًا من الشماغ؛ في حين تميزت المنطقة الوسطى بالعرضة كمشاركة شعبية، بينما تشتهر المنطقة الغربية بالمجرور. هذا التنوع يمتد إلى الألوان، الأكلات، والرقصات الشعبية، بالإضافة إلى اختلافات في المذاهب الفقهية؛ حيث يتواجد المالكية والشافعية في الغرب، والحنبلية في الوسطى. كذلك يوضح صفر أن المملكة تسعى إلى تطوير هوية سعودية مستقلة تعكس التراث العربي والإسلامي، مع الحفاظ على هذا التنوع.
من بين الجهود السعودية لنشر الثقافة أيضًا ما يسمى بالمقاهي الأدبية أو الشريك الأدبي الثقافي، بلغ عددها 80 مقهى تقدم محتوى متنوعًا في مجالات الأدب والثقافة والموسيقى والمسرح، وغيرها، وعليها إقبال شديد.
فيما يتعلق بالانفتاح الثقافي وتحسين الصورة الوطنية، يوضح صفر، أن المملكة العربية السعودية لا تهدف فقط إلى تحسين الصورة؛ بل تسعى من خلال مشاريع مثل موسم الرياض والمتاحف العالمية، إلى دعم وتشجيع السياحة الداخلية والخارجية. وتنويع مصادر الدخل، وتشمل هذه المشاريع التخطيط لاستضافة فعاليات كبرى مثل كأس العالم والأولمبياد.
تحولات ثقافية جذرية ومستقبل واعد
ويقول د.عماد عباس: “إن حالة التنوع الثقافي في المملكة العربية تجعلها محطًا لأنظار العالم، وفي الداخل ينظر المواطن السعودي إلى هذا التنوع نظرة فخر وسعادة، وأيضًا من يعيشون داخل الأراضي السعودية يعتبرون أن ذلك يعد نقلة على المسار الصحيح”.
ويضيف عباس في حديثه لـمواطن: “بالعودة إلى الوراء قليلًا، منذ أن انفصلت وزارتا الإعلام والثقافة عن بعضهما بعضًا عام 2018، كان هناك توجه واضح وقوي نحو عزم المملكة على التركيز على الجانب الثقافي للتسويق السياحي للمملكة داخليًا وخارجيًا، هذه الوزارة كانت قد تم تشكيلها من (7) هيئات تعمل جميعها على خدمة المشروعات الثقافية داخل المملكة، كان بينها هيئة للأفلام، وأخرى للمتاحف، وهيئات أخرى للموسيقى، وفنون الطبخ، والأدب والترجمة، والمسرح والفنون الأدائية، وهيئة للتراث، والفنون والعمارة والتصميم، وهيئة للمكتبات، والفنون البصرية، وأخيرًا للأزياء.”
ويتابع:” تعمل جميع الهيئات بمختلف عناصرها ملتصقة بهوية المملكة العربية السعودية، وتقدم للعالم ذلك الجانب الثقافي الذي ظل غائبًا لسنوات طويلة، لكن جاءت رؤية المملكة 2030، تحت رعاية الملك سلمان وولي عهده محمد بن سلمان، لتعمل على استغلال المجال الثقافي بالشكل الأمثل؛ ما يجعل المملكة وجهة ثقافية وسياحية.
وبالحديث عن جهود هذه الهيئات وكيف تعمل على تعزيز دور المملكة العربية السعودية دوليًا وإقليميًا، يقول عضو جمعية الفلسفة السعودية: “أقيم مؤخرًا مهرجان المسرح الخليجي، كذلك يعقد مهرجان البحر الأحمر السينمائي بشكل مستمر ودوري في المملكة، مشيرًا إلى أنه تقدم إليه (631) عملاً سينمائيًا سعوديًا”.
اليوم أيضًا هناك نحو (613) شاشة عرض سينمائية تعرض مختلف الأعمال، وتساهم الثقافة في الإنتاج المحلي؛ فقد رصد تقرير حديث عن حصاد 35 مليون ريال سعودي خلال عام 2021، وفق عباس.
كذلك أقامت السعودية 3 مؤتمرات للفلسفة، وسيقام الرابع قريبًا؛ فضلًا عن إنشاء منصة فضائية لخدمة المشروعات الثقافية التي تنتجها الهيئات الـ7 داخل المملكة.
ويشير عباس، إلى أن الفلسفة كان ينظر إليها بشكل سلبي داخل المملكة في السابق، لكن ما يحدث اليوم هو العكس، وهناك دفعة قوية لصناعة حراك ثقافي وفلسفي واسع، وعودة برنامج الفيلسوف على القناة السعودية بهدف تقديم محتوى فلسفي مبسط للعامة بشكل احترافي”.
من بين الجهود السعودية لنشر الثقافة أيضًا ما يسمى بالمقاهي الأدبية أو الشريك الأدبي الثقافي، بلغ عددها 80 مقهى تقدم محتوى متنوعًا في مجالات الأدب والثقافة والموسيقى والمسرح، وغيرها، وعليها إقبال شديد.
فضلًا عن ذلك هناك دعم للمجالات البحثية في الثقافة، والنشر في المجلات العلمية، هناك نحو 405 أبحاث ثقافية تم نشرها في الدوريات العلمية مؤخرًا، وأطلقت وزارة الثقافة ما يسمى بالابتعاث الثقافي في مختلف الهيئات، بهدف جعل الثقافة محركًا حيويًا لخلق عالم أكثر حيوية واستدامة لجميع الشعوب، وذلك بحسب تصريحات وزير الثقافة السعودي مؤخرًا، ما يعكس حالة الانفتاح ورغبة السعودية في التأثير على المستوى العربي والدولي.
وقد أسهمت الجهود الثقافية إلى حد كبير في دعم الجهود السياحية بالمملكة، وقد سجلت السعودية نحو مليون رحلة سياحية، 13 ألف سائح زاروا السعودية خلال العام الجاري، أكثر الأماكن زيارة هي المناطق التاريخية والجبلية.
ختامًا، يبقى التوظيف السياسي للثقافة في السعودية موضوعًا مثيرًا للجدل؛ إذ يتداخل بين مساعي التنمية والتحديث ورغبة القيادة في الحفاظ على الهوية الوطنية. ورغم التحديات، يبدو أن المملكة مصممة على مواصلة هذا النهج في إطار رؤيتها الطموحة للمستقبل. ومهما كانت الآراء المتباينة حول هذا الموضوع، يبقى الأكيد، أن السعودية قد دخلت مرحلة جديدة من تاريخها، تحمل في طياتها الكثير من الفرص والتحديات.