في لحظة قاتمة توقفت الحياة في قرية ملحان الهادئة؛ حيث اجتاحت مياه السيول العاتية المنازل، مجرّدةً العائلات من أمنها وذكرياتها. تجمّع الأهالي في شوارعهم الغارقة، يراقبون بقلوب مكسورة كيف تسحب الأمواج كل ما يمت بصلة إلى حياتهم. كان الأطفال يبكون، محاطين بأحبائهم الذين لم يكن لهم من حيلة أمام هذه القوة الطبيعية في الوقت الذي تتخبط فيه البلاد بمشاكل الحرب والفقر، يجد اليمنيون أنفسهم عالقين في دوامة من الكوارث الطبيعية، بينما تُركوا بمفردهم لمواجهة تحديات الحياة اليومية.
“لقد جرفت السيول منزلي وكل ما أملك”، هكذا قال أحد الضحايا، بينما كانت عيناه تحملان عبء الفقد والخسارة. ولّد هذا الكابوس شعورًا بالعجز والقلق؛ حيث لم تقدم السلطات الرسمية لهم المساعدة المطلوبة، تاركةً إياهم لمواجهة الكارثة وحدهم. في هذه القصة نتتبع هذه الفيضانات التي ضربت اليمن، وكيف ساهم التقصير الحكومي في تفاقم المعاناة الإنسانية.
في ظل الأضرار الجسيمة جراء هذه الكارثة، لم تكن استعدادات الجهات الرسمية كافية لإغاثة المتضررين. اكتفت سلطات الحوثيين بتشكيل اللجنة العليا للطوارئ لمواجهة آثار السيول، ودعت الحكومة اليمنية المجتمع الدولي والمانحين إلى مساعدتها في التصدي لأضرار الفيضانات.
في منطقة ملحان بمحافظة المحويت، التي تبعد حوالي 112 كيلومترًا عن العاصمة اليمنية صنعاء، بقي العديد من ضحايا الفيضانات التي ضربت المنطقة نهاية أغسطس/آب الماضي عالقين في بطون الأودية وتحت أنقاض المباني المدمرة لعدة أيام دون أي تدخل أو إغاثة من الجهات الرسمية التابعة لسلطة الحوثيين. وقد تكرر هذا المشهد في سائر المحافظات المتضررة من الكارثة؛ خاصة في محافظة الحديدة الواقعة في الجزء الغربي من اليمن.
يقول اليمني هائل حماط، البالغ من العمر 40 عامًا، وهو أحد سكان مديرية زبيد: “جرفت السيول منزلي واثنين من أفراد أسرتي، ولم تتحرك السلطة المحلية لنجدتنا من هذه الكارثة”. ويضيف بحزن: “لم نجد استجابة عاجلة وفعالة من قبل سلطات الأمر الواقع؛ فقد بقينا عدة أيام نواجه تدفقات السيول من المناطق المجاورة إلى منطقتنا بمفردنا، ورغم مناشداتنا المتكررة، تُركنا وحدنا في مواجهة هذه القوة الطبيعية.”
ويؤكد “حماط” أن السلطات لم تقم بواجبها تجاهه كما تفعل معظم الحكومات حول العالم في مثل هذه المواقف، حتى فيما يتعلق بالبحث عن أبنائه الذين طمرتهم الرمال في بطون الأودية. ويستطرد بالقول: “كل ما قدمته لنا هذه السلطات في هذه المحنة الكبيرة، كان عبارة عن سلة غذائية وفرش، لا أكثر.”
لم يكن “هائل” الوحيد الذي تركته سلطات الأمر الواقع دون إنقاذ أو إغاثة، بعد أن ضربت السيول أسرته المنكوبة؛ بل هناك عشرات من المواطنين الذين كانوا ضحايا هذه الكارثة في ظل غياب الدور الحكومي. ومن بين هؤلاء الضحايا الشاب وديع قناف، الذي ضحى بحياته لإنقاذ طفلين من الغرق في محافظة إبّ وسط اليمن. يقول شقيقه رداد: “لم يترك شقيقي، الذي لم يتجاوز السابعة عشرة من عمره، الأطفال ليواجهوا مصيرهم المجهول كما حدث مع غيرهم ممن جرفتهم السيول في اليمن؛ بل قام بواجبه الإنساني وأنقذ طفلين من موت محقق؛ في مشهد أسطوري يجسد الشجاعة والتضحية.”
ويواصل حديثه بحسرة: “تركنا نواجه صعوبات البحث عن شقيقي لمدة ثمانية أيام، وسط ظروف جوية سيئة، والمناطق المغمورة بمياه السيول والأمطار. كنا نبحث مشيًا على الأقدام من محافظة إبّ إلى محافظة الحديدة، عبر الأودية وممرات السيول، دون أي دعم أو مساعدة.”
فشل وتقصير الاستجابة الرسمية
في المقابل، وفي ظل الأضرار الجسيمة التي عمقت معاناة اليمنيين جراء هذه الكارثة، لم تكن استعدادات الجهات الرسمية كافية لإغاثة المتضررين. فقد اكتفت سلطات الحوثيين بتشكيل اللجنة العليا للطوارئ لمواجهة آثار السيول في المناطق الخاضعة لسيطرتها، ودعت الحكومة اليمنية المعترف بها دوليًا المجتمع الدولي والمانحين إلى مساعدتها في التصدي لأضرار الفيضانات الناجمة عن الأمطار الغزيرة نتيجة المنخفض الجوي.
ويستبعد الصحفي فاروق الكمال وجود أي خطط لدى السلطات اليمنية لمواجهة الكوارث الطبيعية، مؤكدًا بقوله: “الحقيقة المرّة هي أنه لا توجد أي خطط أو تخطيط لدى السلطات اليمنية لمواجهة الكوارث الطبيعية، ولو كانت هناك خطط من هذا النوع، لكانت السلطات قد وضعت في الحسبان المناطق المعرضة للخطر، وأجرت الدراسات اللازمة للحيلولة دون وقوع الكارثة، أو على الأقل التخفيف من آثارها في حال تعذر منعها”.
ويقول:”فيما يتعلق بدور الجهات الرسمية في إغاثة المتضررين في الحقيقة الحكومية اليمنية غير قادرة على الوصول إلى المناطق المنكوبة بشكل كبير؛ خصوصًا الواقعة تحت سيطرة(جماعة الحوثيين) التي لم تقدم أي شيء للمتضررين في مناطقها.
تشير إحصائيات التقرير الصادر مؤخرًا عن جمعيات الصليب الأحمر والهلال الأحمر الدولي، إلى أن 63,195 أسرة، أي حوالي 420,000 شخص، تأثروا بشكل مباشر جراء الأمطار الغزيرة والفيضانات التي اجتاحت 19 محافظة يمنية خلال الفترة بين أبريل/نيسان وأغسطس/آب 2024.
ويستطرد قائلًا: “سلطة الأمر الواقع تنتظر في الحقيقة تدخل المنظمات الدولية للقيام بدورها في تقديم المساعدة للمتضررين في مناطقها دون أي حرج”. وأشار في ختام حديثه إلى أن دور سلطة الحوثيين تجاه المتضررين لا يتعدى الدور الإعلامي فقط؛ حيث لم تصل إلى بعض القرى المنكوبة جراء سيول ملحان، وفقًا لما أكده له سكان المديرية.
وحسب تقرير تحليلي لموقع السفير العربي؛ فإن الاستجابة الأولية من قبل الحكومة الشرعية وجماعة الحوثيين اتسمت بالبساطة، وكشفت عن مدى تقصير الجانبين تجاه المتضررين. ووفقًا لتقرير صادر عن موقع صوت 24 ، المختص بالأخبار والدراسات؛ فإن الاستعدادات الحكومية لمواجهة الكوارث الطبيعية، والاستجابة الأولية، تظل ضعيفة أو منعدمة في معظم الأوقات”.
من جانبها، تؤكد الناشطة الحقوقية والمتطوعة في تقديم الإغاثة لمتضرري السيول، لطيفة الصراري، أن التقصير تجاه المتضررين من الفيضانات لا يقتصر فقط على عدم البحث عن المفقودين؛ بل يشمل أيضًا غياب التدابير الاحترازية والتوعية حول آثار هطول الأمطار.
وتتفق “الصراري” مع الصحفي فاروق الكمالي في أن التقصير موجود في جميع المناطق؛ سواء أكان تلك الواقعة تحت سيطرة الحوثيين أو الحكومة الشرعية. كما أشارت في ختام حديثها إلى أن حوالي 4000 أسرة نازحة في محافظة مأرب -حيث تقيم- قد تضررت من الأمطار وأصبحت معزولة عن المدينة، مما يضعهم في خطر كبير بسبب وقوعهم في مجرى السيول.
من جانبه، يرى محمد عمر، أحد سكان المناطق المنكوبة، أن السلطات الحكومية قامت بواجبها تجاه المتضررين في معظم المناطق، بما في ذلك منطقة ملحان. ومع ذلك، أوضح أن هناك عراقيل تعيق جهود الإغاثة وإيصال المساعدات؛ مثل التضاريس الجبلية في ملحان وانهيار الطرق.
وأشار تقرير حديث لموقع سوث 24 بعنوان: “أبرز تداعيات التغير المناخي”، إلى أن مواجهة التغيرات المناخية تأتي في ذيل قائمة أولويات واهتمامات الأطراف السياسية في اليمن، التي تظل منشغلة بالحروب والصراعات، وذلك رغم الخطر الاستراتيجي الذي تشكله هذه التغيرات على البلاد.
غياب الإنذار المبكر
تسببت الأمطار الغزيرة في اليمن بفيضانات مفاجئة، خلفت دمارًا هائلًا في مناطق عدة من البلاد، وكانت الحديدة وحجّة وصعدة وتعز، من بين المحافظات الأكثر تضررًا. ووفقًا لبيان حديث صادر عن منظمة الأمم المتحدة للطفولة (يونيسف)؛ فإن السيول ألحقت أضرارًا كبيرة؛ حيث جرفت المنازل والملاجئ والممتلكات. منذ بداية أغسطس/آب الماضي، تأثر أكثر من 180,000 شخص؛ فيما نزح حوالي 50,000 شخص في الحديدة وحدها، وهو رقم مرشح للارتفاع في الأيام المقبلة.
تشير إحصائيات التقرير الصادر مؤخرًا عن جمعيات الصليب الأحمر والهلال الأحمر الدولي، إلى أن 63,195 أسرة، أي حوالي 420,000 شخص، تأثروا بشكل مباشر جراء الأمطار الغزيرة والفيضانات التي اجتاحت 19 محافظة يمنية خلال الفترة بين أبريل/نيسان وأغسطس/آب 2024. ومن بين هؤلاء، نزح حوالي 50,000 شخص من ديارهم، كما تم تدمير أكثر من 17,093 منزلًا ومأوى للنازحين. بالإضافة إلى ذلك، تضررت أكثر من 22 مدرسة، منها 7 مدارس دُمرت بالكامل، و15 تضررت جزئيًا، إلى جانب تضرر 74 مرفقًا صحيًا. وأسفرت هذه الفيضانات عن مقتل وإصابة 720 شخصًا وفقًا للإحصائيات.
من جانبه، يعزو الدكتور خالد الخراز، أستاذ الأثر البيئي في اليمن، إلى غياب مراكز الإنذار المبكر في البلاد، إلى كونه سببًا رئيسًا في زيادة عدد الضحايا والأضرار الناجمة عن الكوارث الطبيعية. وأوضح أن “الآثار الناجمة عن غياب مراكز الإنذار المبكر تشمل عدم القدرة على تحديد مواقع وحجم وأنواع الكوارث الطبيعية التي تهدد المنطقة، بالإضافة إلى عدم تحديد المناطق الآمنة، وتلك المعرضة للخطر، مما يعيق وضع إجراءات الحماية المناسبة”. وأكد على ضرورة تعاون الجهات المختصة؛ مثل الدفاع المدني والسلطات المحلية، لوضع خطط احترازية لتخفيف آثار هذه الكوارث على السكان.
وقال جميل القدسي، مدير عام الطوارئ والبيئة في وزارة المياه والبيئة بعدن: “إن غياب إدارة الكوارث الفعالة هو أحد أبرز الأسباب التي أدت إلى تفاقم الأضرار الناجمة عن الكوارث والفيضانات في اليمن”. وأشار إلى أن “هناك عوامل أخرى ساهمت في تفاقم الأضرار؛ مثل التقصير الحكومي، وضعف البنية التحتية، والتغيرات المناخية المتطرفة، وضعف الموارد وغياب التخطيط الفعال؛ هذه العوامل مجتمعة أدت إلى تفاقم المشكلة”. وأضاف خاتمًا بأن هناك قصورًا في الوعي على مختلف المستويات، مما يزيد من صعوبة التعامل مع هذه المخاطر بشكل فعال.
حلول مفقودة
بينما تواجه دول العالم التغيرات المناخية، بما في ذلك اليمن التي تعاني من تدهور مستوى الخدمات وغياب الإمكانيات لمواجهة الكوارث بسبب الحرب، يشدد أيضًا المختص اليمني وأستاذ الأثر البيئي في جامعة الحديدة، الدكتور خالد الخراز، على أهمية إنشاء وتفعيل مراكز الإنذار المبكر، معتبرًا إياها من أبرز الوسائل التي تساعد في التخفيف من تبعات الكوارث البيئية مثل الفيضانات والأعاصير.
كما يدعو الخراز الجهات الرسمية إلى عدم التهاون في ملف التغيرات المناخية والكوارث الطبيعية، معتبرًا إياه من أخطر الملفات التي تتطلب اهتمامًا خاصًا. ويشدد على ضرورة تكليف الكوادر المؤهلة والخبراء ذوي الكفاءات العالية في التخطيط، لوضع استراتيجيات مستقبلية، وتقديم الاقتراحات والدراسات التقييمية الواقعية لتقييم الأثر المستقبلي للكوارث، مما يسهم في التخفيف من تداعياتها على المواطنين.
ويؤكد على أهمية التنسيق بين الجهات المختصة؛ مثل الدفاع المدني والسلطات المحلية، للعمل معًا لوضع خطط احترازية وتقييم الخطط التي يمكن أن تسهم في تفادي وقوع الضحايا وتقليل الخسائر الكبيرة. كما شدد جميل القدسي، مدير عام الطوارئ والبيئة في وزارة المياه والبيئة التابعة للحكومة الشرعية، على ضرورة وجود إدارة فعالة تقلل من مخاطر الكوارث البيئية، مستندًا إلى تجارب عدة دول، لا سيما في إطار سندي.
وأشار أيضًا إلى الحاجة الملحة لوقف العبث في تخصيص الأراضي السكنية في مجاري الأودية؛ حيث عانت البلاد لفترة طويلة من هذا الإهمال. ويؤكد على أن تحسين البنية التحتية وتقويتها أمر ضروري، ويجب أن يتم بشكل متكامل عبر عدة قطاعات، وليس بشكل منفصل.
في خضم هذه الكارثة، تبقى معاناة اليمنيين شاهدةً على فشلٍ ذريع في إدارة الأزمات من قبل السلطات. إن الحاجة الملحة لتفعيل مراكز الإنذار المبكر وتعزيز الجهود الحكومية والمجتمعية أمرٌ لا يمكن تجاهله. لا يكفي أن تكون الحلول والتوصيات مجرد كلمات على الورق؛ بل يجب أن تتحول إلى خطوات عملية تدعم المجتمعات المتضررة، وتعزز من قدرتها على التكيف مع الكوارث. إن تعزيز الاستراتيجيات والتنسيق بين الجهات المعنية، يعد السبيل الوحيد نحو غدٍ أكثر أمانًا لليمنيين الذين عانوا كثيرًا.