تستيقظ كل الآلام التي مر بها الصومالي علي عبدي عمر، طفلاً وشابًا، حين هرب من أتون الحرب في الصومال إلى ليبيا ثم بلجيكا، في رحلة شاقة لا تصدق. تمر ابنة عمه، ساكادا، المختطفة في ليبيا بالأهوال نفسها التي تكبدها هناك طوال فترة الأسر، وهو يبحث عن سبيل لإنقاذها عبر جمع مبلغ فدية الــ 10 آلاف دولار التي طلبها الخاطفون، بعد تخفيضها حيث كانت 20 ألف دولار. رغم حياته المستقرة نسبيًا تطارده ليلاً كوابيس المآسي التي عاشها هناك مختلطة بآلام ابنة عمه المستمرة.
رحيل في الظلام
كان “علي” عام 2016 مجرد طفل نحيل شبّ قبل أوانه، تشي عيناه المتوقدتان بعزم وتصميم، يدفعه خوفه الذي لازمه في كل خطوة من سنيّ حياته القصيرة إلى الإصرار على النجاة. بدأت محنته في سن الثانية عشرة، وانتهت بعد سنوات بندوب نفسية وجسدية يصعب شفاؤها. كانت تجربته أكثر من قصة هجرة مأساوية؛ هي قصة عذاب حقيقية.
انطلق “علي” في رحلة مروعة ستأخذه عبر طريق خطرة من قريته قوريولي (123 كيلومترًا جنوب غرب العاصمة مقديشو، و23 كيلومترًا غرب مدينة مركا الساحلية) إلى بروكسل، واستمرت هذه الرحلة لمدة عامين. كان هروبه مدفوعًا بمقتل والده المأساوي على يد حركة الشباب المسلحة المرتبطة بالقاعدة، بعد أن رفض التعاون معهم.
كان “علي” في الثانية عشرة من عمره عندما جندت حركة الشباب والده، ثم قتلوه لأنه لم يستطع التوفيق بين أفكاره وأيديولجيتهم. وعندما جاءت الجماعة لإبلاغ أم “علي” بمقتل زوجها، ولإخبارها بأن على “علي” الابن الأكبر أن يحل محل والده، توسلت إليهم الأم من أجل تأجيل ذلك، لكن “عليًا” قال لأمه إنه يفضل الموت على الانضمام إلى تلك الجماعة؛ فردت عليه قائلة: “أنا أيضًا أفضل أن تموت على أن تعمل معهم”.
في صباح اليوم التالي، أيقظت الأم عليًا مبكرًا، لتساعده على الهرب، فقال لها بينما كان يستعد للمغادرة: “لن أرجع هذه الأرض أبدًا”، وبدأت رحلة “علي” برحيل مؤلم من وطنه، تاركًا وراءه 10 أشقاء ووالدته، هاربًا من تهديدات حركة الشباب؛ حيث تنقل عبر الصومال وكينيا وإثيوبيا والسودان وليبيا، مدفوعًا بوعد الوصول إلى الجنة الأوروبية الموعودة.
استقل الحافلة إلى العاصمة مقديشو، وفي محطة الحافلات المركزية، التقى بأحد مهربي البشر يدعى محمدًا، أخذه إلى منزل فوجئ فيه “علي” بأربعة وجوه مألوفة من قريته -أمينة ومحمد وخضرة وأشيم-؛ فغمره الفرح؛ حيث جميعهم متجهون إلى نفس الوجهة؛ فعانقه كل منهم فرحين بلقاء دافئ حميم غير متوقع، وغمرت السعادة “عليًا” بصحبة هذه الرحلة الصعبة، مع رفاق يعرفهم جيدًا.
وبعد استقرارهم قال المهرب محمد لعلي. “إذا اعتقلتنا الشرطة؛ ستقول إنني عمك. أنا أثق بك، وعليك أن تنفذ كل ما أطلبه منك”.
رعب في الصحراء
حُشر الأصدقاء الخمسة في مؤخرة سيارة، وغادروا إلى نيروبي مع آخرين في نفس الليلة مع مهرّب جديد. لم يتم إيقافهم من قبل الشرطة على طول الطريق؛ بل طلبت منهم مواصلة الرحلة.
بعد 3 أيام من الهروب المتواصل، توقفوا ليلاً، وكان اثنان من مهربي البشر في انتظارهم ليعبروا بهم الحدود.
في الليلة الثانية، كان “علي” وأصدقاؤه مجهدين، لكنهم أجبروا على تناول المخدرات من المهرب حتى يستطيعوا مواصلة رحلة الهروب. تقيأت أمينة ولم تستطع مواصلة السير وقالت: “لا أستطيع المواصلة، اتركوني هنا”؛ فضربها المهرب بعصاه؛ فاضطر “علي” إلى حملها على ظهره، والمهرب خلفهم يسوقهم ويضربهم إذا توقفوا.
اضطر “علي” وأصدقاؤه إلى عبور الصحراء؛ يسيرون ليلاً وينامون نهارًا لمدة ثلاثة أيام. ثم ثلاثة أيام أخرى يعبرون الصحراء في سيارات جيب دون طعام أو ماء، وفي الليلة الثالثة اضطروا إلى الركض حيث كانت هناك سيارة تنتظرهم في الساعة 7 صباحًا لنقلهم إلى الكُفرة.
تعذيب في الكفرة
ليبيا، بوابة الجنة إلى أوروبا، كشفت فصلاً كابوسيًا لعلي؛ حيث وجد نفسه فيها محبوسًا في مستودع مع 400-500 مهاجر، في براثن شبكة لا ترحم للإتجار بالبشر، يقودها مهرب بشر سيء السمعة يدعى “وليدًا”.
احتُجز “علي” وأصدقاؤه في ذلك المستودع غير الآدمي في الكفرة (جنوب شرق ليبيا، على بعد 1,712 كيلومترا من طرابلس)، في تعذيب يومي، وتعاطٍ قسري للمخدرات، مع تجويع متعمد وواقع مرير.
وعن طريق مترجم صومالي، توجه وليد إلى “علي” سائلاً باللغة العربية: “أين الـ 5 الجدد؟ لقد قطعتم شوطًا طويلاً وما زال الطريق أمامكم طويلاً. أنا هنا لمساعدتكم ولن يستطيع أحد مساعدتكم كما أفعل. كل شيء هنا ملكي، وبفضلي ستصلون إلى البحر وتغادرون إلى أوروبا، وحتى ذلك أنتم ملك لي”.
طلب وليد من “علي” ومجموعته دفع 6000 دولار أمريكي؛ فقد كان ذلك متفقًا عليه قبل مجيئهم؛ فاضطروا إلى دفع 3300 دولار أمريكي بعد تعرضهم للتهديد بالتعذيب إذا لم يقوموا بالدفع.
أما المهاجرون فإنهم حين يصلون إلى المستودع يصبحون مثل طيور في قفص، لا يستطيعون الخروج إلا بإذن من المهربين، ثم يقوم المهربون بفرزهم حسب جنسياتهم، ولكل جنسية ثمن.
في هذه المستودعات، يمكن أن تباع إلى مهربين آخرين أو إلى الشرطة الليبية، ثم تقوم الشرطة ببيعك مرة أخرى إلى وليد وعبد السلام وكيدان… الخ.
طلب الفدية
والخطوة التالية في رحلة العذاب تلك كانت الاتصال بعائلات المهاجرين لدفع الفدية للمهربين. ويهددهم وليد قائلاً: “إذا دفعتم، لن أؤذيكم” .
أعطى “علي” الرجل الصومالي الذي يعمل لدى وليد رقم والدته للاتصال بها. قال “علي” لأمه: “عليكِ أن تدفعي يا أمي 9300 دولار. عليك أن تدفعي يا أمي”. أكدت الأم المسكينة لعلي أنها ستدفع، لكن عليه أن يمهلها وقتًا.
كان هناك جدول زمني للاتصال بالعائلات لطلب الدفع، تكون المكالمة الأولى في الساعة 6 صباحًا، والثانية في الساعة 2 بعد الظهر، والأخيرة في الساعة 8 مساءً، ويتعين على المهاجرين الجلوس على الأرض في طابور، وعندما يحين دور أحدهم، يعطونه الهاتف، وخلال ذلك يقوم وليد بضربك حتى تصرخ وتبكي لتسمع عائلاتنا صراخنا وهم على الهاتف.
“كانت معاملة الصوماليين مميزة عن الآخرين، وغالبًا ما يتم احتجازهم لتحقيق مكاسب مالية؛ في حين يتعرض الأفراد من أماكن مثل غينيا لممارسات استغلالية، أو تحويلهم إلى عبيد وإجبارهم على العمل”.
وبينما كان يتعرض للضرب والصراخ، كان “علي” يتوسل إلى والدته لدفع المبلغ للمهرب وليد؛ فلن يتوقف التعذيب إلا إذا دفعت الأسرة المال”.
تسلط تجربة "علي" مع المهرب سيئ السمعة، "وليد" المعروف أيضًا باسم Tewelde G. Welid، الضوء على شبكات الإتجار بالبشر؛ فمطالبة مهربي البشر بالمال والتعذيب اللاحق الذي تعرض له "علي" ومن معه يكشف الطبيعة القاسية لهؤلاء المجرمين
يقول”علي”: كنا نعيش على قطعة خبز وكوب ماء فقط يوميًا، وويل لمهاجر يكتشف المهربون أن له أقارب في أوروبا، حينها يتم ابتزازه ليدفع أموالاً أكثر من المتفق عليها، حيث أعرف أشخاصًا دفعوا 14000 يورو، وآخرين دفعوا 15000 و 1600 و17000 يورو، ورأيت أحدهم في البحر يدفع المتفق عليه ثلاث مرات؛ فكان هؤلاء بمثابة كنز للمهربين.
لذلك كان من الخطأ أن يذكر أحد المهاجرين أن لديه أقارب في أوروبا.
يقول “علي” متذكرًا: “أثناء إقامتنا في المستودع، كان وليد يجبرنا على تعاطي المخدرات، وعليك أن تدخن المخدر الذي يريدك أن تدخنه، وسوف تدخن كلما أراد وليد أن تدخن، لأنك ملك له”.
كان المهربون يسعون بشدة لتحقيق أقصى استفادة من المهاجرين؛ فإذا كنت تتحدث العربية؛ فسوف يجعلك تعمل لديه مترجمًا، وكذلك إذا لم تدفع؛ فسوف يجعلك تعمل لديه”.
يروي “علي” عن وافد صومالي جديد، وصل في وقت لاحق ولم يكن يملك مالاً، ولكي يتجنب التعذيب ادعى إجادة اللغة الإيطالية، ووجد نفسه مجبرًا على على إلحاق الأذى بزملائه الصوماليين.
حب وسط الجحيم
خلال إقامة “علي” في مستودع تخزين المهاجرين التابع لـ وليد، التقى بليلى، وهي فتاة صومالية تبلغ من العمر 12 عامًا، وسط معاناة لا يمكن تصورها، تشبث علي وليلى بحبهما، لكنه كان حبًا هشًا في ذلك المشهد البائس؛ فماذا سيحدث لو لم ينج “علي”، الذي أصبح ممزقًا بين الحب، وبين والتوق اليائس للهروب، وأخذ يفرغ مشاعره في أغنية “منارة الأمل” لعله يخفف عن نفسه وسط ركام اليأس.
وفي غفلة من المهربين، تمكن أصدقاؤه، واحدًا تلو الآخر، من الفرار، انسحق “علي” تحت ثقل فراقهم، وأخذ يصارع خيارات مؤلمة؛ إما البقاء مع ليلى في ذلك الجحيم، أو الشروع في رحلة محفوفة بالمخاطر نحو مستقبل غير مؤكد. تتفهم ليلى شوقه وتتوسل إليه أن ينتظر، وحبها ممزوج بمرارة حقيقة وضعهم البائس.
“كيف يكون ذلك ممكنا؟” يقولها “علي” وهو يبكي حاله الذي أصبح عليه، وقد ملأ اليأس صوته، يتمزق بين حبه والبقاء مع ليلى، وبين الفرار إلى مستقبل مجهول. إن قسوة حالهم تكشف استحالة تحقيق ما يريدون؛ فالحب ذو القوة الجبارة، يصبح عاجزًا أمام وضعهم الكئيب.
سبعة أشهر في هذا السجن اللاإنساني أثرت على “علي”، وقد أثخنت الجراح المؤلمة أجسادهم، لتصبح علامة دائمة تذكرهم بآلام رحلة الهروب إلى الحرية.
وتظل تلك الندوب العميقة، وعذاباتهم العاطفية تتفاقم في صمت وتسمم معنوياتهم.
يرسم نداء ليلى صورة مؤثرة للحب الذي يكافح من أجل البقاء في مواجهة المصاعب التي لا يمكن تصورها. إنها قصة تضحية ويأس وخيارات مؤلمة فرضت على أولئك الذين وقعوا في مرمى نيران الحرب.
بعد عام تقريبًا، تمكنت والدة “علي” من تأمين المال عن طريق بيع قطعة أرض مملوكة لهم، لدفع ثمن إطلاق سراح ابنها، لكن “عليًا” ظل يتعرض للابتزاز وسوء المعاملة حتى اليوم الأخير. وقد ضمنت مدفوعات والدته اليائسة إطلاق سراحه، وقرر “علي” المغادرة دون ليلى، ودون وداع، وبدأ أولى خطواته التالية في رحلته إلى المجهول.
تحديد هوية الجناة
تسلط تجربة “علي” مع المهرب سيئ السمعة، “وليد” المعروف أيضًا باسم Tewelde G. Welid، الضوء على شبكات الإتجار بالبشر؛ فمطالبة مهربي البشر بالمال والتعذيب اللاحق الذي تعرض له “علي” ومن معه يكشف الطبيعة القاسية لهؤلاء المجرمين، والعلاقة الوثيقة بين شبكات تهريب البشر وبعض أفراد السلطات الليبية، والتي تشكل مرحلة أخرى في الواقع المرير الذي يواجهه المهاجرون.
وليد الذي يواجه محاكمة في هولندا في الوقت الحالي، كان معروفًا بين المهاجرين القادمين من إريتريا وإثيوبيا والصومال. ذكر اسم وليد عدة مرات من قبل العديد من المهاجرين واللاجئين الذين قابلتهم. وليد هو مهرب في شبكة الإتجار بالبشر بين إثيوبيا وإريتريا والصومال، إلى جانب مهربين آخرين مثل عبد السلام، جابر وكيدان.
وقد اعتاد المهربون (وليد وكيدان وجابر وعبد السلام) معاقبة المهاجرين الذين لا يستطيعون دفع الأموال، بأن ينتهي بهم المطاف في إحدى المزارع؛ حيث يحتجزون حتى وصول الفدية. ولأن المهاجرين يضطرون إلى الاستعانة بالمهربين للعبور مرة أخرى، ينتهي الأمر ببعضهم في الأسر عدة مرات.
يقول علي: “بمجرد أن يرى وليد رجلاً أسود البشرة، يأخذه على الفور كعبد”، وغالبًا ما يقبل المهاجرون بمقدار نفقات السفر مع وعد بسدادها بعد العمل في أوروبا. وقد وثّقت الأمم المتحدة ومنظمة إنقاذ الطفولة غير الحكومية هذه الممارسات، ومن المعروف كذلك أن الاستغلال الجنسي للمهاجرات على يد المهربين كان من أسباب عمل النساء النيجيريات بالدعارة كعاهرات في أوروبا.
وقد ذكر تقرير لليونيسف أنه “بمجرد عدم دفع الأموال من قبل للمهربين، يكون المقابل هو تسديد الفتيات تلك الديون بالإجبار على العمل في الدعارة القسرية، لمدة تصل إلى ثلاث سنوات أو أكثر”.
في عام 2021، حكم على خمسة أعضاء في عصابة نيجيرية بالسجن لعدة سنوات، لتورطهم في النقل غير القانوني إلى بلجيكا لفتيات نيجيريات صغيرات، أجبرن بعد ذلك على ممارسة الدعارة.
تلوح في الأفق مزاعم التواطؤ بين السلطات الليبية والمتاجرين بالبشر، مما يعكس المشاعر التي يشاركها العديد من المهاجرين الذين قابلتهم على مر السنين. والاعتقاد السائد بين هؤلاء الأفراد هو أن السلطات الليبية ترتبط بشكل كبير مع هذه الشبكات غير المشروعة، مما يزيد من تفاقم المخاطر التي يواجهها أولئك الذين يبحثون عن موطئ قدم في القوارب المتجهة إلى أوروبا.
رحلة بحرية محفوفة بالمخاطر
استمرت رحلة “علي” إلى بني وليد وطرابلس وساحل ليبيا. تم نقله إلى بني وليد، عائدًا عبر الصحراء، مع حوالي 50 آخرين في سيارة. انتهي به المطاف في مستودع مماثل للمستودع الموجود في الكفرة. ومن بني وليد، تم نقلهم عبر طرابلس إلى قرية بالقرب من الساحل، وهناك تم اعتراضهم، لكن “عليًا” تمكن من الهروب من الشرطة.
أمضوا الليل في منزل على البحر، ثم السير لثلاث ساعات مع حوالي 100 مهاجر، ثم السير مرة أخرى عبر مستنقع لركوب قارب صغير في البحر المتوسط؛ حيث الظلام والليالي الباردة، والخوف الدائم من انقلاب القارب والغرق.
وفقًا للمنظمة الدولية للهجرة (IOM)، كان عام 2023 هو العام الأكثر دموية بالنسبة للمهاجرين غير الشرعيين؛ حيث لقي ما يقرب من 8,600 شخص حتفهم. وما زال طريق البحر المتوسط هو الأكثر دموية بالنسبة للمهاجرين؛ حيث بلغ عدد حالات الوفاة والاختفاء بسببه 3,129 شخصًا على الأقل. ويمثل هذا أعلى عدد من القتلى يسجل في البحر الأبيض المتوسط منذ عام 2017. وظل طريق وسط البحر الأبيض المتوسط أكثر طرق الهجرة نشاطًا في عام 2023؛ حيث أبلغت السلطات الوطنية عن أكثر من 157,479 حالة هروب في الأشهر الــ 11 الأولى، وهو أعلى إجمالي على هذا الطريق في هذه الفترة منذ عام 2016.
قصة "علي" هي مرآة تعكس التكلفة البشرية للهجرة والحاجة إلى الإصلاح في السياسات الأوروبية. لا تروي الرحلة الصراعات الشخصية فحسب؛ بل تروي أيضًا التحديات النظامية التي تدفع أفرادًا مثل "علي" إلى رحلات محفوفة بالمخاطر.
بينما في عام 2024، سجل طريق وسط البحر الأبيض المتوسط انخفاضًا كبيرًا في الأشهر الأخيرة. وخلال الفترة من كانون الثاني/يناير إلى آب/أغسطس، شهد طريق الهجرة هذا انخفاضًا بنسبة 64٪ في عدد العابرين، ليصل إلى 41,250 شخصًا حتى 13 من أيلول/سبتمبر. ومع ذلك، ما زال وسط البحر الأبيض المتوسط أكثر طرق الهجرة نشاطًا إلى الاتحاد الأوروبي.
نقطة الانطلاق نحو أوروبا
عندما وصل “علي” ومن معه إلى نقطة الانطلاق على البحر، كانوا ينتظرون في طابور طويل، ثم يمشون إلى القارب الذي يبعد قليلاً في الماء، حتى وصل الماء فوق خصر “علي” الذي لا يجيد هو ومعظم الآخرين السباحة. كان القارب صغيرًا؛ ما اضطرهم إلى الجلوس فوق بعضهم بعضًا وحشرهم مثل السردين. أخذهم المهربون إلى قارب أكبر، أركبوهم فيه ثم غادروهم، تاركين إياهم يواجهون مصيرهم وحدهم. ومن ثم تولى مصريان قيادة القارب، بينما يفرغ آخرون الماء من القارب خلال الليل الذي كان قارص البرودة.
الوصول إلى مالطا وواقع اللاجئين
بعد أسبوع في البحر؛ في 10 من أغسطس 2018، سمعوا صوت طائرة هليكوبتر، وبعد ذلك بقليل ظهرت SOS Méditerranée وأنقذت 116 شخصًا، بعد أن ظلوا أيامًا على القارب، تمكنوا من الرسو في فاليتا، مالطا، فقط ليتم احتجازهم فيما يمكن وصفه بمراكز الاحتجاز. تكشفت الحقيقة القاسية لحياة اللاجئين في مالطا، وكشفت التحديات التي واجهها أولئك الذين يبحثون عن الحرية.
ظل يذهب من حين لآخر إلى مطعم صومالي في المنطقة؛ حيث التقي بشخص سيأخذه في النهاية إلى بروكسل.
من مالطا إلى بروكسل
اتخذ مصير “علي” منعطفا هامًا، وذلك عندما تواصل مع عبد العزيز المقيم في مالطا، والذي ينتمي لنفس قبيلة “علي”، وهو أيضًا الذي مهد الطريق بعد ذلك لرحلة “علي” إلى بروكسل.
في مطعم صومالي صغير يعج بالأحاديث المفعمة بالحيوية وأصوات مباراة أرسنال وإيفرتون، يجلس “علي” الذي خرج حديثًا من مركز الاحتجاز، مع عبد العزيز، ومع توق “علي” إلى الحرية، يتحول حوارهما حول كيفية هروب “علي”. ويقترح عبد العزيز حلاً محفوفًا بالمخاطر؛ جواز سفر مزور يخرج به من مالطا.
قال لعلي: “سأحضر لك جواز سفر شخص آخر يشبهك”.
على الرغم من خوفه من الطيران؛ فإن “عليًا” كان يائسًا ومصممًا على الخروج من مالطا بأي وسيلة. وأخذ عبد العزيز يدربه على كيفية الخروج من المطار، ويعلمه كيف يتعامل مع إجراءات موظفي المطار، ومن ثم يشرع في بدء رحلة المغادرة.
أكد عبد العزيز على “علي” أنه سيكون أمامه في المطار، وأن عليه أن يفعل مثله تمامًا. نجح”علي” في الخروج من المطار بسلام، وصعد الطائرة بمزيج من القلق والترقب. أقلعت الطائرة حاملة آماله وأحلامه وصموده، متجاوزة به الحدود، ويتردد في صدره الأمل والسعي لمستقبل أكثر إشراقًا.
رحلة علي
من أعماق اليأس إلى حياة جديدة
وصل “علي” إلى بروكسل في سن 14؛ في 23 يناير 2019. وبدأ “علي” رحلة العمل الفني من خلال الانضمام إلى ورش الرقص والمسرح. وبدأ يرى شعاعًا من الأمل، وهو الطفل القاصر الذي افتقد ذويه حين أصبح في أشد الحاجة إليهم.
تتذكر سيسكا، والدة “علي” بالتبني حين نظمت ورش عمل للرقص والمسرح في مركز المراقبة والتوجيه، للقصر غير المصحوبين بذويهم.
قالت سيسكا: “شارك “علي” وحوالي عشرة أولاد آخرين في عرض عبّروا فيه عن أعمق مشاعرهم مع الجمهور، وتحدثوا عن مدى افتقادهم لأمهاتهم، وقرأوا القصائد، وأظهروا موهبتهم في الرقص”.
بعد مرور عام، دعت سيسكا “عليًا” وصديقًا له إلى تدريب مسرحي في الحي. لم يشعر “علي” بحالة جيدة في مركز اللجوء في منطقة آردن، لكنه استمتع بشقة سيسكا الهادئة، وكان من المفترض أن يعودوا خلال عطلة عيد الفصح، لكن أزمة فيروس كورونا فرضت واقعًا خلاف ذلك.
ذكرت سيسكا أن مركز اللجوء الذي كان يقيم به “علي” فرض إقامة مؤقتة للشباب، وحينها استفسر عما إذا كان بإمكانه الإقامة معها لفترة وجيزة بسبب الأزمة الصحية المستمرة لـ COVID-19، اتفقت سيسكا و”علي” بشكل متبادل على ترتيب مكان دائم له للعيش معها في منزلها، من خلال برنامج الرعاية البديلة.
الدعوة إلى التغيير
بينما استقر “علي” في حياته الجديدة في بروكسل، تذكر قصته التي مثلت قدرة الروح الإنسانية على الصمود، داعيًا إلى إعادة تقييم سياسات الهجرة، وإلقاء الضوء على الحاجة الملحة إلى معالجة الأسباب الجذرية، وتقديم الدعم لأولئك الذين يتقدمون بطلب اللجوء.
ترى سيسكا “عليًا” بطلاً، والفتى الأكثر شجاعة، لأنه يريد أن تروى قصته لأولئك الذين لم يعد بإمكانهم سردها. يريد أن يعرّف أكبر عدد ممكن من الناس أن هناك كثيرًا من الأطفال مثله؛ من الشباب الذين يقومون الآن بنفس الرحلة الخطيرة، الذين يسيرون لأيام في الصحراء تحت رحمة المهربين، والذين تقطعت بهم السبل في جحيم ليبيا ينتظرون الصعود على متن قارب متهالك لعبور البحر إلى أوروبا.
قصة “علي” هي مرآة تعكس التكلفة البشرية للهجرة والحاجة إلى الإصلاح في السياسات الأوروبية. لا تروي الرحلة الصراعات الشخصية فحسب؛ بل تروي أيضًا التحديات النظامية التي تدفع أفرادًا مثل “علي” إلى رحلات محفوفة بالمخاطر.
وفي ظل القوانين الأوروبية، ما زال آلاف المهاجرين يتحسسون مساراتهم إلى الجنة الأوروبية التي يتصورونها، يحدوهم أمل تقف دونه مخاطر الغرق في البحر المتوسط أو الموت في الصحراء، أو الوقوع في يد شبكات التهريب على طول هذا الطريق، أو الاتجاه إلى شبكات أخطر وطرق أخرى أقسى لتهريب البشر.