في ظل الأزمات السياسية والاجتماعية التي تجتاح العالم العربي اليوم، ومع تصاعد التوترات والانقسامات الداخلية، تتزايد الحاجة إلى أصوات فكرية وأدبية واعية وملهمة أكثر من أي وقت مضى. إننا نواجه قضايا مشابهة لما تناولها الأدب العربي منذ عقود، مثل الاستبداد والإحباط والبحث عن الهوية، ولكن بوجوه جديدة و أزمات متفاقمة. وفي هذا السياق، تبدو العودة إلى أصوات مثل “سعد الله “ونوس” ضرورة مُلحّة؛ فقد كان “ونوس” نموذجًا للمثقف الذي يرى في الأدب والفن وسيلة للتغيير؛ حيث قدم في مسرحياته نقدًا صادقًا للواقع، متناولًا قضايا السلطة، الحرية، الأمل، والانكسار، وسعى لفهم الأسباب العميقة للفشل والعقبات التي تواجه النهضة العربية.
واليوم، ومع ما نشهده من أحداث ونعيشه واقعًا، تعود رؤى “ونوس” وأفكاره لتكون مصدر إلهام ودعوة للتفكير؛ فنحن بحاجة إلى أدب يتجاوز الترفيه ليصبح أداة للتساؤل والنقد، تعكس لنا مرآة واقعنا بصدق، وتحفّزنا للبحث عن سُبل جديدة للخروج من أزماتنا المتراكمة.
في مسرحياته، كان "ونوس" يبحث باستمرار عن إجابة لسؤال: كيف يمكن تغيير الواقع؟ ورغم عدم تقديمه حلولًا مباشرة، إلا أنه طرح تساؤلات تحفز التفكير في طرق جديدة لمواجهة هذه الأزمات.
يُعد “ونوس” من أبرز الكتاب المسرحيين العرب في القرن العشرين، وواحدًا من أهم الأسماء التي قدمت المسرح كأداة للتغيير والنقد الاجتماعي والسياسي. وُلد عام 1941 في قرية حصين البحر، القريبة من طرطوس بسوريا، وتابع دراسته في دمشق، ثم انتقل إلى فرنسا حيث تأثر بالثقافات المختلفة والمسرح الأوروبي. أسهمت هذه التجارب في صياغة رؤيته المسرحية الخاصة التي تمزج بين الواقعية السياسية والتعبير الفني.
تميّزت أعماله بتقديم مفهوم “مسرح التسييس”، المسرح بالنسبة له ليس مجرد فن؛ بل ضرورة لاستنهاض وعي الجمهور ومساعدته على فهم الواقع ومواجهته. كان “ونوس” يؤمن بأن التفاعل بين المسرح والجمهور قادر على إحداث تغيير حقيقي؛ خاصة في المجتمعات التي تعاني من التسلط والتخلف، كما في سهرة مع أبي خليل القباني، التي تناولت دور الفن في مواجهة الجمود والتخلف.
الهزيمة التي تجمعنا
لعل أهم المشتركات بين حقبة “ونوس” وأيامنا، هو شعور الهزيمة صحبة ما حدث بعد الربيع العربي أو حرب غزة وغيرها من مواقف مرت علينا؛ فكانت نكسة 1967 نقطة تحول حاسمة في حياته؛ إذ أثارت فيه الرغبة في توظيف المسرح للتعبير عن الصدمة العربية من الهزيمة وطرح التساؤلات حول أسباب الفشل العربي. من هنا كتب مسرحياته الشهيرة، مثل “حفلة سمر من أجل 5 حزيران“، التي تناولت أثر الهزيمة على المجتمعات العربية.
فقبل الحرب كانت المنطقة العربية في حالة استنفار سياسي وتوتر منذ سنوات؛ خاصة مع تصاعد الخطابات القومية والوحدوية في مصر بقيادة جمال عبد الناصر، كانت هناك آمال كبيرة في تحقيق الوحدة العربية واستعادة الأراضي المحتلة؛ خاصة فلسطين، قوبلت هذه الطموحات بآمالٍ شعبية عريضة في أن تكون الدول العربية قادرة على التصدي لإسرائيل واستعادة الأرض.
أما بعد الحرب فقد تجلّت صدمة الهزيمة بوضوح في المجالات الثقافية والفكرية، أصبحت هناك موجة من النقد الذاتي ومحاولات لفهم الأخطاء التي أدت إلى النكسة، طرح المفكرون أسئلة عميقة عن الاستبداد والفساد وغياب الحريات ودور الثقافة والتعليم في تكوين وعي متقدم. كانت هناك دعوات لنهضة جديدة تعتمد على الإصلاح الداخلي وتعزيز المشاركة السياسية.
تبلورت أيضًا اتجاهات جديدة في الأدب والشعر والفن؛ حيث ركّز الأدباء على قضايا الواقع ومشاكل الإنسان العربي بشكل أكثر واقعية، متخلّين عن الطابع الرومانسي أو المثالي، ظهرت أعمال روائية وقصصية ومسرحية تناولت قضايا الفقر والظلم، والغربة والهزيمة النفسية، مثلما حدث في أدب الروائي المصري صنع الله إبراهيم، والأديب الفلسطيني غسان كنفاني، والشاعر السوري نزار قباني، والمسرحي السوري سعد الله ونوس.
كما تراجع الإيمان بقدرة الدول العربية على تحقيق الوحدة والانتصار، وبدأت التيارات الإسلامية تكتسب قوة، وظهرت حركات سياسية دينية متأثرة بالهزيمة، ورأت في ضعف الالتزام الديني سببًا كبيرًا لفشل المشروع القومي، وفتحَ هذا التحول الطريق لاحقًا لصعود الحركات الإسلامية في مختلف البلدان العربية.
لعلّ الهزيمة هي درسنا الأكبر، لعلها توقظنا، تضعنا أمام مرآة الحقيقة؛ فمن لا يواجه نفسه، سيظل مهزومًا
وحول مسؤولية النكسة يوجه نقدًا لاذعًا للنظام والمجتمع معًا، ويعكس إحساسًا عميقًا بالخذلان من الشعارات الزائفة والأوهام التي عاشَ فيها الناس، ويشير إلى أهمية الاعتراف بالخطأ بدلًا من الهروب منه، كما قدم دعوةً صريحة للتغيير الحقيقي عبر مواجهة الذات وتحمل المسؤولية، مؤكدًا أنّ الهزيمة قد تكون بداية الصحوة وليسَت نهايتها. وكان من الواضح أنه يرفض أيضًا الرهان على الحلولِ العسكرية وحدها، وكان يؤمن بأنّ الثورات والانتصارات العسكرية يجب أن تُترجم إلى إصلاحاتٍ سياسية واجتماعية حقيقية، وأنّ الشعوب بحاجة إلى تغيير جذري في بنية أنظمتها.
فلسطين
ظهر ذلك الأثر للنكسة جليًا في مسرحياته التي تناقش أثر الهزيمة على الوعي الجمعي في “حفلة سمر من أجل 5 حزيران”، ينتقد تواطؤ النخب السياسية مع الهزيمة، ويطرح أسئلة صعبة حول أسباب الفشل، ما زال هذا الشعور بالهزيمة والإحباط يعيش في الذاكرة العربية؛ حيث استمرت الأزمات والصراعات بدون حلول، وخاصة قضية فلسطين التي تشكل جرحًا مفتوحًا إلى الآن.
وفي مسرحية “فصد الدم” التي كتبها في عام 1963، يتناول القضية الفلسطينية بشكل رمزي وعميق. تعكس المسرحية قضايا الهوية والكرامة الفلسطينية، وتجسد الصراع الفلسطيني في مواجهة الاحتلال الإسرائيلي والظروف القاسية التي يعيشها الفلسطينيون، كما يتناول “ونوس” من خلال العمل محنة اللاجئين الفلسطينيين والشتات الفلسطيني، معبّرًا عن قسوة الواقع السياسي والإنساني الذي يعيشه الشعب الفلسطيني.
إنّ المسرحية تحمل رسائل قوية حول التضامن العربي مع القضية الفلسطينية، كما تسلط الضوء على أن فلسطين ليست مجرد قضية سياسية؛ بل هي قضية إنسانية وثقافية تخص كل العرب. ومن خلال الرمزية والأسلوب المسرحي، يعبر “ونوس” عن التزامه الدائم بالقضية الفلسطينية كمحور رئيس في نضال الأمة العربية.
يقول “ونوس” أيضًا في مسرحية “الاغتصاب“: “نحن لا نحتاج إلا إلى السلام؛ فقط السلام، حينما يكون الواقع مهتوكًا فلابد أن يكون النص قاسيًا”. عكست هذه المقولة بوضوح عُمق اهتمامه بالقضية الفلسطينية؛ إذ كان يرى أن فلسطين ليست مجرد أرض تُقاتل من أجلها؛ بل هي رمز الكرامة والهوية العربية التي تعرضت للتهديد من قبل الاحتلال الإسرائيلي، وكان يعتبر أن الفلسطينيين ليسوا فقط ضحايا للاحتلال؛ بل هم من يحملون إرثًا حضاريًا وثقافيًا يجب أن يُحترم.
في أعماله الأدبية ومواقفه العامة، كان “ونوس” دائمًا يدعو إلى التضامن العربي مع فلسطين، ويؤكد أن الشعب الفلسطيني يجب أن يُحترم في نضالهِ من أجلِ الحُرية والحقوق، وكان يرى أنّ تحرير فلسطين هو جزء من تحرير الأمة العربية بأكملها من الاستبداد والتخلف.
ضد الاستبداد
ليست الهزيمة وتحرير فلسطين هما وحدهما ما شغلا بال “ونوس”، فتقدم مسرحياته خاصة مسرحيته “الملك هو الملك”، نقدًا حادًا لظاهرة الاستبداد؛ حيث عرضَ كيف تتغيّر الوجوه السياسية، لكن يبقى جوهر النظام نفسه، هذه الفكرة تنطبق على الوضع الراهن في كثير من الدول العربية التي تعاني من نفس التحدي؛ إذ يظل الفساد والاستبداد رغم التغيرات الشكلية في الحكومات. كما قدّم نقدًا للنظام السلطوي الذي يسيطر على حياة الناس، ما يتشابه مع الواقع الحالي؛ حيث تتجلى تجاوزات السلطة بوضوح في أوضاع العديد من الدول العربية اليوم.
- الملك (بضحكة ساخرة): ماذا لو جعلتُ أحدكم ملكًا ليوم واحد؟ نعم، مجرد يوم واحد، أستطيع أن أغير من أشاء، ولن يتغير شيء، لأن الملك هو الملك
- الرجل الفقير: (يتلفت حوله مترددًا) هذا كلام لا يصدق يا مولاي، كيف للفقير أن يكون ملكًا؟ وهل تستطيع الأحلام أن تصنع واقعًا؟
- الملك: (يقترب من الفقير مبتسمًا) يا عزيزي، ليسَ المهم من يجلس على العرش؛ بل المهمُ من يسيطر على اللعبة، العرش لا يحتاجُ إلا لوجه، ونحنُ نعرف كيف نصنعه.
- الوزير: (مقاطعًا) بالضبط، العرش يحتاج للهيبة والقوة، والأمر لا يختلف كثيرًا إن كنت أنت أو هو، نحن فقط نبدّل الأدوار، واللعبة تستمر.
- الرجل الفقير: (بحيرة) ولكن كيف ستفعل ذلك؟ هل يكفي مجردُ ثوب وتاج لتصير الأمور كما هي؟
- الملك: (بابتسامة خبيثة) ثوب وتاج وبعض القوانين، يا عزيزي، هذا كلُّ ما نحتاجه، وسترى أن الجميع سيصدق أنك الملك.
- الوزير: (ضاحكًا) نعم، الناس لا يهمهم من هو الملك، بقدر ما تهمهم الأوامر والخوف، ستكتشف بنفسك أنّ “الملك هو الملك”، لا يهم من يعتلي العرش.
في هذا الحوار من مسرحيته “الملك هو الملك“، يقدم “ونوس” نقدًا حادًا لفكرة السلطة وكيف تتحكم في الشعوب؛ ليس بالعدالة أو الشخصية؛ بل عبر أدوات التخويف والهيمنة. يرسم “ونوس” صورة قاسية للأنظمة التي تتعامل مع شعوبها كقطيع يتأثر بالهيبة والمظاهر.
نفهم من مسرحيات سعد الله "ونوس" أن السلطة في جوهرها لا تتغير؛ بل تتبدل الأوجه والأدوات؛ فيبقى الملك هو الملك، ومضمون السلطة الاستبدادية يظل ثابتًا.
كيف يمكن تغيير الواقع؟
كما ناقش “ونوس” كيفَ يؤثّر الاستبداد والقمع على حياة الأفراد وعقولهم، ويتجلّى هذا بوضوح في مسرحية: طقوس الإشارات والتحولات؛ حيث يواجه الأفراد تناقضات بين رغباتهم وتقاليدهم، مما يخلق حالة من الازدواجية والانفصام، هذا الوضع يشبه ما تعيشه المجتمعات اليوم؛ حيث يقيد القمع السياسي والفكري الحرية الفردية ويزيد من الانقسامات الداخلية.
يُعد “ونوس” -حقيقة-من أبرز الكتاب الذين انتقدوا الاستبداد وبشكلٍ لاذع بأعماله الأدبية في العديد من مسرحياته؛ حيث تناولَ موضوع الاستبداد السياسي والاجتماعي، وأثرهُ المدمّر على الأفراد والمجتمعات.
في مسرحيته “الملك هو الملك” (1977)، يُبرز “ونوس” من خلالها تأثيرَ الاستبداد على الحكم والشعب، وكيف يؤثّرُ على العلاقات الإنسانية والمجتمع ككل، تتناولُ المسرحية العلاقة بين الحاكم والمحكوم، وتُظهر كيف يمكن لنظام استبدادي أن يُفقد الأفراد إنسانيتهم وحريتهم، ويُحولهم إلى أدوات مجردة. إحدى المقولات الأشهر بالمسرحية، والتي تعكس رأيه الجليّ في الاستبداد حين قال: “في لحظات التعاسة فقط، يشعر الإنسان أنه لم يعد قادرًا على الاحتمال، لكن قدرته على الاحتمال لا تنفذ، هو يتحمل أي جحيم لأنه يعرف ولو بالفطرة، أن الشقاء لا يمكن أن يستمر”.
نرى كيف يُشير “ونوس” بوضوح إلى أنّ الاستبداد لا يقتصر فقط على القمع السياسي؛ بل يمتد ليشمل تدمير حياة الأفراد وجعل الحرية والشجاعة أشياء بعيدة المنال، و لمواجهة الاستبداد. يوضح “ونوس” أنه على الفرد أن يكون شجاعًا في مواجهة الظلم، وأن لا يخاف من الوقوف ضد الظالم حتى لو كانت التكلفة كبيرة؛ ففي مسرحياته، غالبًا ما تظهر شخصيات تعيش في صراع داخلي بين الخوف من السلطة وبين الرغبة في التحرر، وهو ما يعكس الصراع الذي يعيشه الفرد في ظل الأنظمة الاستبدادية.
لذا إجمالًا، يمكنني القول بأنّ “ونوس” كان يرى بأن الاستبداد يُقيد الفرد ويقوض إرادته، لكنه أيضًا يعتقد أنّ هناك دائمًا إمكانية للمقاومة حتى في أحلك الظروف، وأنّ الإنسان يجب أن يُحافظ على كرامته وعزيمته في مواجهة الظلم. يمكننا إسقاط هذه الفكرة على الواقع الحالي؛ حيث نجد كثيرًا من الأفراد يعيشون في ظل أنظمة قمعية تقيد حرية التعبير، وتضع المجتمع في حالة من التوتر بين ما هو مفروض عليه وبين ما يسعى إليه.
في مسرحياته، كان “ونوس” يبحث باستمرار عن إجابة لسؤال: كيف يمكن تغيير الواقع؟ ورغم عدم تقديمه حلولًا مباشرة، إلا أنه طرح تساؤلات تحفز التفكير في طرق جديدة لمواجهة هذه الأزمات، وهذا البحث عن التغيير ما زال يمثل تحديًا اليوم؛ خاصة مع محاولات بعض الحركات الإصلاحية والسياسية تقديم رؤى جديدة، ورغبة الشباب في تحقيق تغيير حقيقي.
كان يرى أن المثقفين والمسرحيين لديهم دور في قيادة التغيير وتحفيز الوعي، ورأى أنه على المثقف أن يلتزم بقضايا شعبه، ويشارك في تحسين الواقع. هذه الفكرة تبقى مهمة اليوم؛ حيث تحتاج المجتمعات إلى دور فعال للمثقفين والمبدعين لإثارة النقاش حول المشاكل المجتمعية والسياسية، وتحفيز الناس على التفكير في حلول بديلة، تعطي مسرحياته نموذجًا للمثقف الملتزم الذي يطرح الأسئلة الضرورية، ويضع القضايا الصعبة أمام الجمهور، ليكون لهم دور في تشكيل الوعي والنقد.
ختامًا، أقول بأنّ مسرح سعد الله ونوس قدّم لنا نافذة لرؤية قضايا معاصرة من خلال عدسة نقدية عميقة، كما أسهم في كشف التناقضات والمشكلات التي يعاني منها المجتمع العربي منذُ هزيمة 1967، وهو ما يمكن أن يُستَلهَم اليوم في سياقِ الوضع الراهن؛ فكان أدبهُ بمثابة مرآة صادقة لواقعنا العربي، سلطّ بها الضوء على أزمات الاستبداد والهزيمة وتخاذل الذات، من خلال تقديمه نقدًا جريئًا للمجتمع والسلطة، وداعيًا من خلاله إلى الوعي والتغيير من خلالِ مواجهة الحقيقة بشجاعة والتخلي عن الأوهام والشعارات الزائفة، إنّ رؤى “ونوس” للحقيقة تجاوزت حدود الزمن لتبقى صالحة كأداة لتفكيك الواقع الراهن؛ حيث ما زالت مجتمعاتنا تعاني من الأزمات التي رسمها على خشبة المسرح.
- الآراء الواردة في هذا المقال تُعبّر عن رأي الكاتب ولا تعكس بالضرورة مواقف وآراء “مواطن”.