إبّان الحرب الإسرائيلية على غزة ولبنان، سَاد في أواسط المثقفين العرَب حَالة مِن الارتباك المفاهيمي، وَذلك راجع في الأساس إلى مُفارقة “التحليل العقلاني والانحياز العاطفي“. تداعى الانحياز العاطفي لَدَى المثقف العربي إلى صَك مُصْطلح الشمولية الديموقراطية، متأثرًا في ذلك بحَجْم الخسائر المهولة التي ألحقتها الآلة العسكرية الإسرائيلية -بدعْم أمريكي- على حركات المقاومة، وَالبنى التحتية لمؤسَسَات وَشعُوُب المنطقة، مُتخليًا في ذلك عَلى النهج العلمي وَالمنطقي في التعاطي مَعَ القضايا بالطرق العقلانية والوقائعية.
يعُوُد السبب الرئيس في صَك هذا المُصْطلح وَتداوله على نطاق واسع إعلاميًا، إلى سُؤال الإيطيقا؛ عَن دور الديموقراطيات الغربية -خاصة الأوروبية- في الحرب الإسرائيلية على غزة ولبنان. حَيث تم قراءة الموقف الغربي قراءة إيطيقية، حكم مِن خلالها المثقف العربي على عَدَم أخلاقية الموقف الغربي المؤيد لإسرائيل. وَبطريقة مَا -غالبًا لانحياز عاطفي- أسقط ذات الحكم الإيطيقي على حَالة الديموقراطيات الغربية وَاصفًا إياها بالشمولية الجديدة.
في حقيقة الأمر، ليسَت المرة الأولى التي يتعاطى فيها العقل وَالمثقف العَربي بطريقة مُخلة، سَطحية وَعَاطفية مَعَ المُصْطلحات؛ فقد سَبَق لهُ أن وَصَف العلمانية بالكفر، والرأسمالية بالإمبريالية، والحرية بالانحلال، وَالنسوية بالدعوى إلى التعري وَالانفتاح الجنسي. ها هو اليوم يصك -أو يُحاول- مُصْطلح الديموقراطية الشمولية؛ جَامعًا بذلك مُصطلحين مُتناقضين من حيث الماهية والمرامي. وإذا ما تمعنّا في هذا المُصْطلح، نلاحظ أنه يُجَافي أبسَط قواعِد المنطق وَالدلالة اللغوية: وَهي تطابق الشيء مَعَ نفسه وَمَعَ الواقع.
يأخذ المثقف العربي الديموقراطية وَيصفها بالشمولية، لا لأسباب وَعُيُوُب قابعة في المنظومة الديموقراطية نفسها؛ بل مِن خلال إسْقاط الموقف الغربي المؤيد لإسرائيل عليها، وَهذا خطأ مَنهجي وإجْحَاف مَنطقي؛ فإذا افترضنا انتفاء الإيطيقا في الموقف الغربي في حَرب إسرائيل على غزة ولبنان؛ فذلك لا يفيد بالضرَورة ولا بأي شكل مِن الأشكال شمُولية المنظومَة الديموقراطية.
قبل تفنيد هذا المُصطلح مفاهيميًا، لا بُد مِن الاشارة إلى انتفائه لغويًا وَدلاليًا، وتحميل المصطلح مفهومين متناقضين يفسر على أنه ازدواجية لغوية، وَهي حالة مُلازمة للشخصِية المفكرة في ظل الأنظمة الشمُولية، حَيث تعمل هذه الأخيرة على صِياغة قواميس مِن شأنها تحميل المُصْطلح مَعنيين متناقضين، مُستهدفة في ذلك آليات التفكير لدى الشعوب، وَمِن ثمَة إقصَاء الشخصية المُعنوية وَحَيويتها لدَى الإنسان، وَتحويله إلى تُرس وَظيفي في المنظومة الشمولية وَهذا مَا يتطابق مَعَ تصورات جُورج أورويل للغة الازدواجية في دُستويبيته الشهيرة “1984”. وَعليه؛ لا يتطابق مُصْطلح الشمولية الديموقراطية مَع نفسه؛ ولا يفيد بأي شكل مِن الأشكال مَعنى واضحًا يفيد مَدلولاً معنويًا مُعينًا، ذلك أن المثقف العربي يأخذ الديموقراطية وَيصفها بالشمولية، لا لأسباب وَعُيُوُب قابعة في المنظومة الديموقراطية نفسها؛ بل مِن خلال إسْقاط الموقف الغربي المؤيد لإسرائيل عليها، وَهذا خطأ مَنهجي وإجْحَاف مَنطقي؛ فإذا افترضنا انتفاء الإيطيقا في الموقف الغربي في حَرب إسرائيل على غزة ولبنان؛ فذلك لا يفيد بالضرَورة ولا بأي شكل مِن الأشكال شمُولية المنظومَة الديموقراطية.
إضافة إلى ذلك فالمُصْطلح لا يتطابق مَعَ الواقع؛ ذلك أن الدول الغربية لا تتصِف بالشمولية؛ فبغض النظر عَن الموقف الرسمي الذي سَنعود إليه لاحقًا؛ فهذه الدول لا تشهد حَالة الشمولية أو أي بَوادر في التوجه نحوها؛ إذ نلاحظ عَمليًا أن المُوَاطن الغربي في أنظمته الديموقراطية أكثر تحررًا في التعبير عَن موقفه من الحرب، أيًا كانت طبيعة هذا الرأي –المؤيد أو المعارض-. والدليل العملي على ذلك، هو العَدَد الكبير للمُظاهرات الداعية لوقف الحرب، وَحَجْم تأثيرها الواسِع إعلاميًا وَسياسيًا، والذي لا يمكن مقارنته بطبيعة الحال مَع حَجْم المُظاهرات المحتشم في بلدان الشرق الأوسط وَشمال أفريقيا.
مواضيع ذات صلة
أما بخصوص المَوقف الرسْمي للدول الغربية وَالذي يندرج ضِمْن السِياسات الخارجية التي تحكمها المَصْلحَة الجيوسياسية لا الإيطيقا؛ نلاحِظ أنه ينقسِم إلى قسمين -في رأيي- مُتجانسين عَمليًا:
– الأول: يقضي بالاعتراف بحق إسرائيل في حِماية نفسها في مُواجهة جَمَاعات المقاومة التي تبنت أحداث السابع مِن أكتوبر، وَسردية الإفناء الديني لليهود -وهذا مَا يبرر إمدادها بالسلاح-.
– الثاني: المتمثل في الموقف الإنساني الرافض لسُقوط المدنيين وَالتهجير القسري للمواطنين العُزل، وَهذا ما يُبرر كون هذه الدُول الديموقراطية هي الأكثر تمويلاً للمُنضمات غير الربحية كغوث وَغيرها الكثير، مُتفوقة في ذلك وَبفارق مَلحُوُظ على الدول التي تنضوي تحت مِحور المقاومة والمُمانعة، وعلى رأسها إيران وَكذا الدُول العربية، وَبالأخص دُول الخليج العَربي -الغنية-. وأيضًا في كون الدول الغربية أكثر تحَرُرًا في نقد الدولة العبرية وَسِياسَات إدارة الحَرب والمأساة الانسَانية -كما هُوَ الحال مَع فرنسا، وَانتقادات مَاكرون المباشرة لحكومة بن يَمين نتنياهو، وَغيره الكثير من الساسة وَالبرلمانيين وَالحقوقيين.
المُوَاطن الغربي في أنظمته الديموقراطية أكثر تحررًا في التعبير عَن موقفه من الحرب، أيًا كانت طبيعة هذا الرأي –المؤيد أو المعارض-. والدليل العملي على ذلك، هو العَدَد الكبير للمُظاهرات الداعية لوقف الحرب، وَحَجْم تأثيرها الواسِع إعلاميًا وَسياسيًا، والذي لا يمكن مقارنته بطبيعة الحال مَع حَجْم المُظاهرات المحتشم في بلدان الشرق الأوسط وَشمال أفريقيا.
في الختام؛ نجد أن المثقف العربي مُصِرٌ دائمًا على صِناعة الوَهم وَصَك مُصْطلحات مُشوهة تتنافى مَعَ المنطق ومَعَ نفسها وَمَعَ الواقع، كما أنه -بدافع العاطفة والقومية المشوهة- وهو حَريصٌ جدًا على مُهاجمة القيم الديموقراطية الليبرالية كلما كانت الفرصَة سَانحة لَهُ، على غرار النزاعات المُسَلحة في منطقة الشرق الأوسَط. في حِين نجد أنه عَاجز تمامًا -أو أنهُ لا يُريد- الخوض في مَسَار فكري وَاقعي، يُوجه فيه جُهوُد الفكر والإعلام في نقد الحرب نقدًا مَوضوُعيًا، كأن ينتقد خيارات الحرب التي تأخذها جَمَاعَات المقاومة بالنيابة على شعوبها وَدُولها -دُوُن شرعية سِياسية-، وَدُوُن الأخذ بعين الاعتبار تداعيات هذه الحُرُوُب على شعُوُبهم وبلدانهم، كمَا هو الحال مَعَ حزب الله وَجماعة الحُوثي في كل من لبنان وَاليمن.
فضلاً على نقد انعدام الاستراتيجية في التخطيط للحرُوُب وَشنها؛ كقياس وَاقعية الأهداف وإمكانية تحقيقها، الاستعداد للحَرب وَتوفير الأدوات اللازمة لها وَالقدرة على حِمَاية المدنيين، وَنجاعة التحالفات دَاخليًا وخارجيًا كما هو الحال مَعَ حَمَاس، إضافة إلى توجيه جهود الفكر نحو إعادة التفكير وَنقد الأطاريح وَالسرديات الكبرى، والتي غالبًا مَا تكون الدينامية التي تحكم سُلوكيات هذه الحركات وَخياراتها في الحَرب والسلام -إن كان هذا الأخير خيارًا مَوجُوُدًا في الأساس-.
- الآراء الواردة في هذا المقال تُعبّر عن رأي الكاتب ولا تعكس بالضرورة مواقف وآراء “مواطن”.