احتلت التنظيرات المختلفة حول السلطة، مكانةً كبيرةً في الوجدان الإسلامي الجمعي. في هذا السياق، شهدت كل من المصادر السنية والشيعية حضورًا مكثفًا للسؤال الذي يدور حول علاقة رجل الدين/ الفقيه بالحكم. بطبيعة الحال، اختلفت الإجابة على هذا السؤال لتباين المباني العقائدية والأصولية في كل من المذهبين. نلقي الضوء في هذا المقال على مفهوم ولاية الفقيه في الحالتين السنية والشيعية، لنرى كيف تسببت التجربة التاريخية في تعدد التصورات المطروحة حول تلك المسألة.
ولاية الفقيه عند أهل السنة
وردت بعض الآيات القرآنية التي أشارت لمفهوم أولي الأمر، والتي أكدت على ضرورة طاعتهم من قِبل عموم المسلمين. من تلك الآيات، الآية رقم 59 من سورة النساء “يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ…”. وهي الآية التي علق عليها ابن جرير الطبري في تفسيره، بقوله: “…واختلف أهل التأويل في “أولي الأمر” الذين أمر الله عبادَه بطاعتهم في هذه الآية؛ فقال بعضهم: هم الأمراء… وقال آخرون: هم أهل العلم والفقه…”.
بالرجوع للتجربة التاريخية السنية، لم يحظ الارتباط بين الفقهاء والسلطة بالقبول في الأغلبية الغالبة من الفترات، فيما استأثر الأمراء/ الحكام/ السلاطين بالحكم وتمتعوا بالنفوذ في مختلف المجتمعات الإسلامية. في سنة 11هـ، ومع اختيار أبي بكر الصديق كخليفة للنبي في سقيفة بني ساعدة، نُظر للخلفاء الراشدين الأربعة باعتبارهم ولاة الأمر الذين اجتمعت فيهم صفات الفقه والعلم والإمارة. ويشهد على ذلك بعض الأحاديث المنسوبة للنبي، والتي ربطت بين الجانبين الديني والدنيوي في شخوص هؤلاء الخلفاء. من تلك الأحاديث ما ورد في سنن الترمذي “… فإنه من يعش منكم فسيرى اختلافًا كثيرًا؛ فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين…”. وما ورد في صحيح البخاري بشأن عمر بن الخطاب “… لقد كان فيما كان قبلكم من الأمم ناس محدثون؛ فإن يك في أمتي أحد فإنه عمر…”. وهو الحديث الذي علق عليه ابن حجر العسقلاني في كتابه “فتح الباري بشرح صحيح البخاري”؛ فقال شارحًا معنى المُحدث: “… هو من أُلقي في روعه شيء من قِبل الملأ الأعلى؛ فيكون كالذي حدثه غيره به… وقيل من يجري الصواب على لسانه من غير قصد، وقيل مكلَّم أي تكلِّمه الملائكة بغير نبوة….”. رغم ذلك، سرعان ما انفك الارتباط بين الجانبين -الديني والدنيوي- بدءًا من تأسيس الدولة الأموية في سنة 41هـ.
حكم الأمويون بصفتهم أمراء أقوياء تمكنوا من توحيد العالم الإسلامي تحت رايتهم. وفي سنة 132هـ، وصل العباسيون للخلافة، وحكموا العالم الإسلامي بالمنطق ذاته. وعلى مر القرون، ظهر السلاطين والأمراء المتغلبون الذين أسسوا شرعيتهم السياسية على قاعدة التغلب والسيف، لتزداد الهوة الفاصلة بين رجال الدين والسلطة المُطلقة.
في القرن العاشر الهجري وقع تطور مهم بالتزامن مع تأسيس الدولة الصفوية في إيران وبلاد فارس. اعتنق الصفويون المذهب الشيعي الاثنا عشري، ونشروه في إيران. وفي سبيل تحقيق هذا الهدف، تم استدعاء المحقق الكركي من جبل عامل في لبنان، وعهد له الشاه الصفوي طهماسب بصلاحيات دينية ودنيوية كبرى
على الصعيد الفقهي، تحدثت كتب السياسة الإسلامية عن العلم والفقه كأحد الشروط الواجب توافرها في الإمام/ الخليفة. على سبيل المثال، أكد أبو الحسن الماوردي في كتابه “الأحكام السلطانية”، أن هناك سبعة شروط ينبغي توافرها في شخص الإمام، أحدها “… العلم المؤدي إلى الاجتهاد في النوازل والأحكام…”. في أغلب الفترات، ظل ذلك الشرط شرطًا صوريًا، لا يمكن تطبيقه ولا التأكد من تحققه؛ الأمر الذي همش -إلى حدٍ بعيد- من مفهوم ولاية الفقيه في الحالة السنية.
ولاية الفقيه عند الشيعة
يؤمن الشيعة الإمامية الاثنا عشرية بأن الإمامة منصب إلهي لا دخل للبشر فيه، بمعنى أن الله قد نص على أسماء الرجال الذين سيتعاقبون على هذا المنصب واحدًا بعد آخر. في هذا السياق، يعتقد الاثنا عشرية أن علي بن أبي طالب كان أول الأئمة، كما يعتقدون أن محمد بن الحسن العسكري، الذي اختفى عن الأنظار سنة 329هـ كان آخر هؤلاء الأئمة.
بعد اختفاء الإمام الثاني عشر، دخل الشيعة في الفترة المعروفة باسم “الغيبة الكبرى”، وظهرت العديد من الأحاديث التي تؤكد على ضرورة ابتعاد الشيعة عن شؤون السياسة والحكم، حتى يظهر الإمام الغائب مرة أخرى. على سبيل المثال، نُسب للإمام جعفر الصادق قوله: “كل راية تُرفع قبل قيام القائم -عليه السلام-؛ فصاحبها طاغوت يُعبد من دون الله عز وجل”. من جهة أخرى، عرف الشيعة في تلك الفترة ظهور المراجع الدينية، وهم الفقهاء الذين عُهد إليهم بمهمة قيادة المجتمع الشيعي في فترة غيبة الإمام، والذين تم النص على سلطتهم في الرسالة الأخيرة التي بعث بها الإمام الغائب إلى أتباعه، عندما كتب لهم “… وأما الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا؛ فإنهم حجتي عليكم وأنا حجة الله عليهم…”.
على مر القرون المتتابعة، ظل الشيعة يتبعون مراجعهم في مسائل الفقه والدين. وفي القرن العاشر الهجري وقع تطور مهم بالتزامن مع تأسيس الدولة الصفوية في إيران وبلاد فارس. اعتنق الصفويون المذهب الشيعي الاثنا عشري، ونشروه في إيران. وفي سبيل تحقيق هذا الهدف، تم استدعاء المحقق الكركي من جبل عامل في لبنان، وعهد له الشاه الصفوي طهماسب بصلاحيات دينية ودنيوية كبرى، كما أصدر مرسومًا جاء فيه: “إن كل مَن يخالف حكم خاتم المجتهدين، ووارث علوم سيد المرسلين نائب الأئمة المعصومين ولا يتابعه؛ فإنه لا محالة ملعون مردود، وعن مهبط الملائكة مطرود، وسيؤاخذ بالتأديبات البليغة والتدبيرات العظيمة”. عُدّت تلك الصلاحيات، الخطوة الأولى على طريق تأسيس نظرية ولاية الفقيه الشيعية، كما مثلت إرهاصًا بوصول الفقهاء للحكم.
مواضيع ذات صلة
في بدايات القرن التاسع عشر الميلادي، خطت أطروحة ولاية الفقيه خطوة أخرى مهمة على يد الفقيه أحمد بن مهدي النراقي، في كتابه “عوائد الأيام في مهمات أدلة الأحكام”، قال النراقي: “إنَّ كلية ما للفقيه العادل توليه، وله الولاية فيه أمران: أحدهما كل ما كان للنبي والإمام الذين هم سلاطين الأنام وحصون الإسلام، فيه الولاية وكان لهم؛ فللفقيه أيضًا ذلك، إلا ما أخرجه الدليل بإجماع أو نص أو غيرهما، وثانيهما أنَّ كل فعل متعلق بأمور العباد في دينهم ودنياهم، ولا بدَّ من الإتيان به ولا مفرَّ منه…”. بموجب ذلك الرأي، تم وضع الإطار النظري العام لولاية الفقيه، وإن لم تتح الفرصة لتطبيقها بشكل عملي خلال تلك الفترة.
في النصف الثاني من القرن العشرين، وقع التأسيس الحقيقي لولاية الفقيه على يد المرجع الشيعي الإيراني آية الله الخميني. ناقش الخميني مفهوم وصلاحيات ولاية الفقيه في كتابه الشهير “الحكومة الإسلامية”، والذي صدر على شكل محاضرات متتابعة أثناء فترة نفي الخميني في العراق، واعترض فيه المرجع الإيراني على النظرة الشيعية التقليدية للسياسة؛ فقال: “هل نترك أحكام الإسلام مُعطلة؟ أم نرغب بأنفسنا عن الإسلام؟ أم نقول إن الإسلام جاء ليحكم الناس قرنين من الزمان فحسب ليهملهم بعد ذلك؟ أو نقول إن الإسلام قد أهمل أمور تنظيم الدولة، ونحن نعلم أن عدم وجود الحكومة يعني ضياع ثغور المسلمين وانتهاكها، ويعني تخاذلنا عن حقنا وعن أرضنا؟ هل يسمح بذلك في ديننا؟ أليست الحكومة ضرورة من ضروريات الحياة؟”.
في سنة 1979م، تهيأت الظروف لتطبيق نظام ولاية الفقيه بشكل عملي عقب انتصار الثورة الإسلامية في إيران. وتولى الخميني هذا المنصب بعدما أقرته المادة الخامسة من الدستور الإيراني، والتي جاء فيها “في زمن غيبة الإمام المهدي -عجل الله تعالى فرجه- تكون ولاية الأمر وإمامة الأمة في جمهورية إيران الإسلامية بيد الفقيه العادل، المتقي، البصير بأمور العصر؛ الشجاع القادر على الإدارة والتدبير…”.
الاعتراضات على ولاية الفقيه
بطبيعة الحال، لم تسلم نظرية ولاية الفقيه -في صيغتها الشيعية الخمينية- من الاعتراض والنقد، خصوصًا وأنها قد خالفت ما درج عليه الشيعة من بعد عن الشأن السياسي لما يزيد عن العشرة قرون. في هذا السياق، عورضت النظرية من قِبل العديد من المراجع الدينيين الذين عدّوها ترسيمًا للدكتاتورية وحكم الفرد.
في سنة 1979م، تهيأت الظروف لتطبيق نظام ولاية الفقيه بشكل عملي عقب انتصار الثورة الإسلامية في إيران. وتولى الخميني هذا المنصب بعدما أقرته المادة الخامسة من الدستور الإيراني
على سبيل المثال، كان آية الله حسين علي منتظري -والذي شغل منصب نائب المرشد الأعلى للثورة- سباقًا في نقد نظرية الخميني. في كتابه “دراسات في ولاية الفقيه وفقه الدولة الإسلامية”، أكد منتظري أن: “نفي الولاية المطلقة للفقيه لا يستدعى دليلًا؛ إذ الأصل الأولي يقتضي عدم ولاية أحد على أحد؛ بل إثباتها يستدعي دليلاً قاطعًا، ولم أعثر على ذلك في الكتاب والسنّة ولا في حكم العقل”. المعنى ذاته، عبّر عنه المرجع العراقي محمد الحسيني الشيرازي في كتابه “كيف نجمع شمل المسلمين؟” عندما قال: “إن الحكومة الإسلامية قوامها: شورى المراجع الذين هم مراجع تقليد الناس لأنهم نواب الأئمة -عليهم السلام- الذين نصبوهم حكامًا وخلفاء، ولا وجه لأن يكون بعض المراجع في الحكم دون بعض، لأنه عزل لخليفة الرسول، والحاكم المنصوب من قبل الإمام، ولا حق أن يقول أحدهم إن المرجع الفلاني لا يفهم أو ما أشبه (من الاتهامات) إذ ما دام قبلته جملة من الأمة بملء إرادتها؛ فاللازم أن يكون شريكًا في الحكم”.
ولم يقتصر الاعتراض على النظرية على مراجع إيران والعراق فحسب؛ بل امتد كذلك للعديد من البلاد الإسلامية الأخرى. على سبيل المثال، أكد المرجع اللبناني الراحل محمد حسين فضل الله في بعض حواراته بأنه “لا يؤمن بولاية الفقيه العامة والمطلقة، لكنّه يرى ولاية الفقيه محدودة في الأمور الحسبيّة التي قد تتوسّع لتشمل الشؤون العامّة، إذا اقتضى ذلك حفظ النظام العام”.
وهكذا، بقيت نظرية ولاية الفقيه الخمينية واقعة في مرمى سهام النقد الديني من جانب العديد من المراجع المعتبرين، فيما انقسم العالم الشيعي حولها ما بين مؤيد يرى أهمية النظرية في توحيد الصف الشيعي، وتثبيت حكم الجمهورية الإسلامية في إيران وحلفائها في مختلف البلاد العربية من جهة، ورافض يعدّها -أي النظرية- بدعة وانحرافًا عن السبيل القويم الذي أشارت إليه الأحاديث والروايات المنسوبة للأئمة من جهة أخرى.
- الآراء الواردة في هذا المقال تُعبّر عن رأي الكاتب ولا تعكس بالضرورة مواقف وآراء “مواطن”.