في البحث عن أصل وجذور الفكر القومي الحديث، تبين أنه كان رد فعل على وجود الاحتلال الأجنبي، وأنه ترافق مع ظهور حركات التحرر؛ حيث لوحظ أن الفكر القومي في أوروبا نشأ خلال القرن التاسع عشر كرد فعل على الإمبراطوريات متعددة القوميات، كالإمبراطورية العثمانية والنمساوية، أما في العالم العربي فقد ظهر هذا الفكر في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، كرد فعل على الاستعمار الغربي والتجزئة السياسية التي فرضتها معاهدات مثل سايكس– بيكو، وقد أشار أنطون سعادة في كتابه “نشوء الأمم” (ص 21) إلى أن القومية جاءت لتعزيز الهوية الجماعية في مواجهة الاحتلال خلال بحثه عن مصدر نشوء المجتمعات فكريًا.
مع الوضع في الاعتبار أن القومية الحديثة كانت لها تجليات قديمة موروثة من التعصب العشائري والقبلي؛ فمفردة “القومية” والمشتقة من القوم، تعني الولاء للأقوام المحلية، وهؤلاء هم العشائر في شكلهم البدائي، ويعني هذا أن القومية تحمل معنى العشائرية مع تطور لفظي ليصبح أكثر حداثة، لينسجم مع طبيعة المجتمعات الحديثة بعد تطور وسائل السفر وانفتاح الإنسان، الذي أدى للوصول إلى عشائر ومجتمعات أخرى مختلفة ثقافيًا بشكل جذري.
وقد حمل الفكر القومي أبعادًا ثلاثة تميز بها على مدار تاريخه:
أولًا: الهوية الوطنية: وتعني التركيز على اللغة والثقافة والتاريخ المشترك كأساس للوحدة، وفي هذا البعد انفصل القوميون عن طريقة التفكير العشائرية القديمة التي حصرت هذه الهوية في العشيرة، ليتوسع القوميون لضم أقوام وعشائر أخرى لها نفس اللغة أو ثقافة وتاريخ مشترك.
ثانيًا: الاستقلال السياسي: ويعني السعي لتحرير الأوطان من الاستعمار والتبعية، وفي تلك الجزئية ورث القوميون الحمية العصبية العشائرية القديمة التي رفضت سلطة العشائر الأخرى، وهي من السمات المشتركة مع الخوارج كما سنوضح بعد قليل.
ثالثًا: الوحدة القومية: وتعني الدعوة إلى توحيد الدول ذات الهوية المشتركة في كيان سياسي واحد، وفي هذا البعد تمرد القوميون على الفكر العشائري القديم عن طريق إيمانهم بالدول متعددة الديانات، والذي لم يكن يسمح الوضع العشائري القديم بحدوثه، نظرًا لبدائية وسائل السفر وانحسار وجود القبائل ذات الدين الواحد في منطقة جغرافية واحدة.
هل يحمل الخوارج نفس الفكر القومي؟
إذا تأملنا في السطور السابقة نرى أن ما حدث من تجربة قومية شبيه بما حدث مع الخوارج في صدر التاريخ الإسلامي.
فقد ظهر الخوارج ككتل عسكرية موحدة في سياق الصراع السياسي الذي أعقب معركة صفين عام 37 هـ/657م بين الخليفة علي بن أبي طالب ومعاوية بن أبي سفيان، عندما قبل علي التحكيم لحل النزاع، رفضت مجموعة من أنصاره هذا القرار، معتبرين أن الحكم يجب أن يكون لله وحده، مستندين إلى الآية القرآنية: “إن الحكم إلا لله” (سورة الأنعام: 57)، وقد انشق هؤلاء عن جيش “علي” وأعلنوا خروجهم على السلطة، مما جعلهم أول فرقة إسلامية تتبنى مبدأ التمرد المسلح ضد الحاكم.
فإذا نظرنا للمبادئ الفكرية التي رفعوها نجدها تتمحور حول ثلاثة مبادئ رئيسة كما هو حال الفكر القومي:
أولًا: التكفير: حيث عدّوا مرتكب الكبيرة كافرًا خارجًا عن الإسلام، وأن من خالفهم في الرأي يستحق العقاب بما في ذلك القتل. وبالنظر لتجارب القوميين نرى أنهم غالبًا ما يتبنون رؤية مثالية للوحدة القومية أو الهوية الوطنية، ويرفضون أحيانًا التنازلات السياسية أو التعايش مع تيارات أخرى إذا تعارضت مع رؤيتهم المطلقة للأمة، وهو ما أدى لظهور فكرة (التخوين) التي هي مقابل التكفير.
ثانيًا: الخروج على الحاكم: وتعني أنه إذا لم يحكم الحاكم بما أنزل الله، وجب التمرد عليه، وهو ما طبقوه ضد علي والخلفاء الأمويين لاحقًا، وفي تلك الجزئية، يؤمن القوميون بالاستقلال السياسي واعتبار الحاكم الأجنبي عدوًا يجب الخروج عليه، مع الوضع في الاعتبار أن الحاكم في عصر الخوارج لم يتم تعريفه بالوطني والأجنبي، نظرًا لعدم ظهور فكرة الجنسية والدولة الحديثة آنذاك.
ثالثًا: الجماعة المؤمنة: وفي تلك الجزئية رأى الخوارج أنفسهم الفرقة الناجية الوحيدة، واستبعدوا سائر المسلمين من دائرة الإيمان، وفي هذه يسلك القوميون مسلكًا مشابهًا؛ حيث يركزون على الهوية القومية (كالعروبة أو غيرها)، ويعتبرونها محور الولاء والانتماء، وقد يستبعدون من لا يتماهى مع هذه الهوية، مع إطلاق تهم الخيانة، وفي بعض الحالات التاريخية (كالقومية المتطرفة في أوروبا أو الشرق الأوسط)، أظهروا نزعة عدائية تجاه “الآخر”؛ سواء أكان عدوًا خارجيًا أو داخليًا يُنظر إليه كتهديد للهوية القومية.
لم يكن الخوارج من قريش في غالبيتهم؛ بل كانوا من قبائل عربية أخرى؛ خاصة من المناطق الشرقية والجنوبية لشبه الجزيرة العربية، مثل تميم وبني حنيفة والأزد وبكر بن وائل، وعبد القيس، بالإضافة إلى بعض الموالي
هذه العناصر الثلاثة للخوارج كانت لها أسباب تتعلق بطريقة تناولهم للآخر بشكل عام، وتلك الأسباب يمكن حصرها في ما يلي:
أولًا: التعصب الشديد للرأي والرفض المطلق للتنازل؛ حيث تميزوا بتمسكهم الشديد بمبادئهم، كقولهم “لا حكم إلا لله”، ورفضهم التحكيم بين علي ومعاوية في معركة صفين، معتبرين أي تنازل عن مبادئهم خيانة للدين، وهي نفس السمة القومية التي كانت وما زالت ترى أي نقد للهوية أو مراجعة ذاتية أو بحث في الأصول والجذور هو خيانة للوطن، واصطفاف مباشر مع العدو، برغم أن مكونات تلك الهوية قد تتضمن عناصر استعمارية سابقة لم يجر البحث فيها كما ينبغي، مثلما درج بعض الباحثين على إيجاد الصلة بين الاستعمار الأجنبي وبعض السلوكيات الاجتماعية والمعتقدات الدينية، واعتبار أن تلك السلوكيات والمعتقدات هي عن تأثيرات أجنبية ولا تدخل في صلب الهوية.
ثانيًا: التطرف في مواجهة الخصوم؛ حيث لجأ الخوارج إلى العنف والتكفير ضد من خالفهم، بما في ذلك المسلمون الآخرون، معتبرين أنفسهم الوحيدين على الحق، وعند القوميين سلكوا نفس الشيء؛ خصوصًا عند من تعصب لقوميات أقدم زمنيًا كحزب الكتائب اللبناني الذي تعصب للهوية الفينيقية وأراد فرضها على المجتمع اللبناني المتعدد عرقيًا ودينيًا وحضاريًا، إضافة لتجارب قومية أخرى مارست العنف مثل حزب العمال الكردستاني ومجاهدي خلق الإيرانية والجيش الجمهوري الأيرلندي، وغيرهم، مع الوضع في الاعتبار حركات اليهود القومية إبان تأسيس دولة إسرائيل؛ حيث كانت تمارس العنف ضد الإنجليز والفلسطينيين بدافع قومي.
ثالثًا: الشعور بالاستقلالية والتمرد على السلطة المركزية، كان من أحد العوامل الكبرى التي صنعت فرق الخوارج؛ حيث خرجوا على الخلافة (سواء أكان على علي بن أبي طالب أو الأمويين لاحقًا)، رافضين السلطة التي لا تتوافق مع رؤيتهم للحكم العادل، وعند التجارب القومية رأينا نفس الشيء؛ حيث كثيرًا ما نشأت الحركات القومية كرد فعل على الاستعمار أو الهيمنة الأجنبية، وسعت للاستقلال عن السلطات الخارجية أو الأنظمة التي لا تعبر عن هويتها، أو التي يرونها عميلة للاحتلال، وقد أشرنا للفارق بين الدولة الحديثة والقديمة، والسلطتين القديمة والحديثة ونظم الحكم عبر الزمن لإثبات وحدة السلوك بين الاثنين.
رابعًا: تركيز الفريقين على الهوية الجماعية؛ حيث ركز الخوارج على هوية دينية صلبة، وقد اعتبروا في هذا السياق أنفسهم جماعة المؤمنين الحقيقيين، واستبعدوا من لا يشاركهم رأيهم، أما القوميون فهم يركزون على الهوية القومية الوطنية، وقد اعتبروا أنفسهم في هذا السياق جماعة الوطنيين الحقيقيين، واستبعدوا من لا يشاركهم رأيهم أيضًا، وقد رفضوا أي تسوية تضر بالهوية الوطنية أو الأرض لهذا السبب، وقد أشار فؤاد عجمي في كتابه “الدولة القومية العربية” (ص 89) إلى أن هذه المثالية أدت إلى صدامات مع الواقع السياسي، وفي تقديري أن هذا الصدام شبيه بما حدث مع الخوارج حيث تصادموا أيضًا مع الواقع السياسي لمثاليتهم المفرطة.
خامسًا: التضحية من أجل الفكرة، وقد اشتهر الخوارج باستعدادهم للموت دفاعًا عن معتقداتهم، كما في ثوراتهم المتكررة ضد الأمويين والعباسيين، كذلك فالقوميون في سياقات مثل الثورات ضد الاستعمار، أظهروا استعدادا للتضحية بالنفس من أجل تحقيق الأهداف القومية أيضًا، وقد اشتهر نمور التاميل بهذا السلوك الانتحاري لأجل تحقيق أهداف شعب التاميل في سيريلانكا ضد السنهاليين.
حقيقة صراع الخوارج مع قريش
في دراسة سابقة على مواطن، أشرنا إلى أن الخوارج لم يكونوا من قريش في غالبيتهم؛ بل كانوا من قبائل عربية أخرى؛ خاصة من المناطق الشرقية والجنوبية لشبه الجزيرة العربية، مثل تميم وبني حنيفة والأزد وبكر بن وائل، وعبد القيس، بالإضافة إلى بعض الموالي (غير العرب الذين اعتنقوا الإسلام)؛ فعلى سبيل المثال، يذكر الطبري في تاريخه (ج5، ص67) أن قادة الخوارج الأوائل، مثل عبد الله بن الكواء اليشكري وشبث بن ربعي التميمي، كانا من قبائل غير قرشية، يعني هذا أن الخوارج لم يكونوا جزءًا من النخبة القرشية التي كانت تسيطر على الخلافة منذ عهد أبي بكر الصديق رضي الله عنه؛ بل على العكس، كانوا يمثلون فئات اجتماعية وقبلية شعرت بالتهميش أو عدم الرضا عن هيمنة قريش على السلطة.
ويمكن القول بأن صراع الخوارج لم يكن موجها ضد قريش كقبيلة بشكل مباشر؛ بل كان ضد مفهوم الهيمنة السياسية التي مارستها النخبة القرشية، سواء أكان في العهد الراشدي أو في العهد الأموي لاحقًا، وهذه هي جذور الفكر القومي لدى الخوارج الذين مارسوا القومية بشكل بدائي تجلى في العصبية العشائرية العربية ضد هيمنة قريش.
ويمكن تفسير هذه الثورة الخارجية ضد قريش لثلاثة عوامل:
أولًا: العامل القبلي: كما أشرنا، كان الخوارج في غالبيتهم من قبائل غير قرشية في المجتمع العربي آنذاك؛ حيث كانت قريش تتمتع بمكانة خاصة بسبب ارتباطها بالنبوة وموقعها في مكة، مما أدى لحصولها على امتياز ديني بين العرب، هذا الامتياز أثار استياء بعض القبائل الأخرى التي شعرت بأنها أُقصيت من مراكز القرار؛ خاصة بعد توسع الدولة الإسلامية وزيادة تعقيدات الحكم في العصر الراشدي.
ثانيًا: العامل الديني: تبنى الخوارج فهما متشددًا للدين، يقوم على فكرة أن الخلافة ليست حكرًا على قريش أو أي قبيلة بعينها؛ بل يمكن أن يتولاها أي مسلم صالح، حتى لو كان عبدًا حبشيًا، علمًا بأن هذا الموقف يتعارض مع الواقع السياسي الذي كان يقصر الخلافة على قريش بعد أحداث السقيفة، مما يعطي لمحة عن قومية الخوارج آنذاك أنها كانت أوسع من نظرة قريش للحكم وحصره في قبيلة واحدة؛ فالخوارج كانوا شموليين أكثر، وإيمانهم بالقومية كان أوسع.
ثالثًا: العامل السياسي: بعد استشهاد الخليفة عثمان، برزت الانقسامات داخل الدولة الإسلامية، وأصبحت السلطة محط صراع بين النخب القرشية، شكّل الخوارج بمواقفهم الرافضة للتحكيم ولأي تسوية سياسية، تحديًا لاستقرار هذا النظام، مما جعلهم أعداء مشتركين لكل من “علي ومعاوية”، مما يعني أن ثورة الخوارج لم تكن على سلطة في جوهرها؛ بل على نظام حكم بالأساس، وهي سمة أي تمرد قومي مسلح في التاريخ، أنه يثور في الغالب على نظام الحكم ويسعى إلى تغييره بما يتوافق مع معتقداته، وليس مجرد تغيير سلطة بأخرى.
جماعات الإرهاب الحديثة: هل تجمع بين الفكرين؟
تُعرف جماعات الإرهاب الحديثة، مثل “داعش” و”القاعدة”، بأنها تنظيمات تسعى لإقامة دولة إسلامية عبر العنف، وقد تناول الباحث السوري عبد الرحمن الحاج في كتابه “داعش: الدولة الإسلامية بين التاريخ والأيديولوجيا” (ص 112)، كيف استندت هذه الجماعات إلى أيديولوجيات متشددة تجمع بين الدين والقومية؛ حيث تستلهم هذه الجماعات من الخوارج مبادئ التكفير والخروج على الحكام، واعتبار أنفسهم الجماعة المؤمنة، كما تستلهم من القوميين في طموحها للوحدة (الخلافة) والهوية الجماعية العابرة للحدود، وقد أشار أوليفييه روا في كتابه “الجهاد والموت” (ص 76) إلى أن داعش جمعت بين التشدد الديني والطموح السياسي القومي.
ويمكن اعتبار أن هجمات 11 من سبتمبر التي نفذتها القاعدة كتمرد على الهيمنة الغربية، وهو ما يعكس نزعة قومية معادية للاستعمار لها جذورها في نشأة فكر الجماعات الحديث عند جمال الدين الأفغاني (1838-1897)، الذي كان أول من دعا لإنشاء دولة إسلامية موحدة أكبر وأوسع من ممتلكات العثمانيين آنذاك في القرن 19، وحملت مقالاته في مجلة العروة الوثقى خطابًا وحدوديًا قوميًا إسلاميًا أثر في أتباعه لاحقًا؛ مثل محمد رشيد رضا ومحب الدين الخطيب وحسن البنا وغيرهم، وقد حمل خطاب هؤلاء نفس الشعور القومي لجمال الدين الأفغاني الذي جرى تمصيره وشرحه عن طريق صديقه الوفي الإمام محمد عبده مفتي الديار المصرية الأسبق.
وبرغم أساسها الديني، تُظهر الجماعات الإرهابية طموحًا قوميًا في سعيها لتوحيد الأمة الإسلامية تحت راية واحدة مثلما أراد الأفغاني، متجاوزة الحدود الوطنية التي تُعّ نتاجًا استعماريًا وفقًا لرؤيتهم للغرب المستعمر، واعتبار الحدود الجغرافية بين الدول لا معنى ولا اعتبار لها؛ بل وصفت في بعض أدبيات الإسلاميين بحدود الجاهلية نزولًا لوصف التعصب للوطن، لا للدين لأنه فعل من أفعال الجاهلية.
ويشير فواز جرجس في كتابه “صعود داعش” (ص 97)، إلى أن “داعش” رفضت حدود سايكس-بيكو، وسعت لإنشاء كيان سياسي موحد يضم العراق وسوريا كمرحلة أولى، مع خطط للتوسع إلى بلاد الشام وشمال أفريقيا، وهذا الطموح يشبه دعوات القوميين العرب، مثل ميشيل عفلق في كتابه “في سبيل البعث” (ص 33)، لتوحيد الأمة العربية في دولة واحدة، وهي الأفكار التي تمت ترجمتها في ميثاق تأسيس الجامعة العربية، باعتبارها نواة لتأسيس هذه الدولة الموحدة، وقد أيدها الإسلاميون على أنها نواة لدولة إسلامية موحدة، مما يعكس تناميًا للشعور الوحدوي آنذاك في منتصف القرن العشرين، وهيمنته على النخبة الإسلامية بشتى لغاتها.
وبرغم أساسها الديني، تُظهر الجماعات الإرهابية طموحًا قوميًا في سعيها لتوحيد الأمة الإسلامية تحت راية واحدة مثلما أراد الأفغاني، متجاوزة الحدود الوطنية التي تُعّ نتاجًا استعماريًا وفقًا لرؤيتهم للغرب المستعمر، واعتبار الحدود الجغرافية بين الدول لا معنى ولا اعتبار لها
وفي كتابات الإسلاميين الأوائل نرى توجهًا قوميًا لم يجرِ تقبيحه بعد؛ حيث قال حسن البنا في المؤتمر الخامس للجماعة سنة 1938 عن القومية العربية: “الإخوان المسلمون يعتبرون العروبة كما عرفها النبي محمد فيما يرويه ابن كثير عن معاذ بن جبل: “ألا إن العربية اللسان… ألا إن العربية اللسان”، وبالطبع اختلف الأمر بعد وفاة البنا؛ حيث بدأ تقبيح الفكر القومي العربي على يد سيد قطب، مستلهما الفكرة من مبدأ الحاكمية المأخوذ من أبي الحسن الندوي وأبي الأعلى المودودي.
وكرد فعل على الناصرية وشيوع الفكر القومي العربي في حقبتي الخمسينيات والستينيات، التي شهد فيها سجن قطب واقعًا إخوانيًا عانوا في ظله من القمع السياسي المصحوب بتمجيد القومية العربية، ولذلك كانت ردة فعل الإخوان والإسلاميين عامة على القوميين العرب شديدة، ورفضهم لمنتجات القوميين أشد، نظرًا لهذا القمع بالأساس، ومن تلك الزاوية حدث الافتراق بين منهجي الخوارج القديم والقومية الحديثة، نظرًا للصراع السياسي المتمثل بينهم في صراع الجماعات مع القوميين العرب، أو اليسار بشكل عام، والذي مثل الحاضنة الأوسع للفكر القومي الحديث.
الأفغاني وإعادة الدمج
وبالعودة لتأثير الأفغاني في نشوء هذا الشعور القومي وتنميته، أشير إلى أن الأفغاني عاش فترة شهدت تصاعدًا للهيمنة الاستعمارية الغربية على العالم الإسلامي، مثل الاحتلال البريطاني للهند والفرنسي للجزائر، وكان يرى أن ضعف المسلمين يعود إلى تجزئتهم وابتعادهم عن الإسلام الحقيقي، وبالتالي فمن خلال نصوص الإسلام نفسه يعود استقلال المسلمين وإنشاء دولتهم بعيدًا عن نفوذ أوروبا، وبهذا السياق يذكر ألبرت حوراني في كتابه “الفكر العربي في عصر النهضة” (ص 108)، أن الأفغاني سعى لإحياء الروح الإسلامية كوسيلة لمواجهة التحديات الخارجية، وهو ما يعد خلطًا بين الدين والسياسة، كان هو المهيمن على فكر الجماعات إلى اليوم.
ويشير نيكي كيدي في كتابه “جمال الدين الأفغاني: سيرة سياسية” (ص 45)، إلى أن الأفغاني كان يمزج بين الدعوة الدينية والسياسية، مستخدمًا الإسلام كأداة لتعبئة المسلمين ضد الاستعمار، وهو نفس شعور التمرد الذي سيطر على الجماعات الدينية لمكافحة السلطات والحكومات المختلفة؛ حيث استخدموا الإسلام كأداة للتعبئة السياسية والحشد، وهي طريقة الخوارج الأولى مثلما أشرنا في دراستنا على “مواطن”.
ويمكن تلخيص أفكار الأفغاني حول القومية إلى ثلاثة مطالب، هي التي صنعت الفكر القومي الديني الذي كان جامعًا بين رأي الخوارج الأولين والقومية المعاصرة؛ حيث طالب الأفغاني بثلاثة أشياء:
أولًا: الوحدة الإسلامية: حيث دعا إلى توحيد المسلمين تحت راية واحدة، متجاوزًا الحدود القومية والطائفية، وقد رافق دعوته تلك صعودٌ وتنامٍ للشعور القومي مثلما أشرنا، حتى إن مفكرين مسيحيين أيدوا الدعوة، مثل قسطنطين رزيق في كتاب الوعي القومي الصادر عام 1938م، والذي قال فيه إنه يجب على كل عربي -بصرف النظر عن معتقده الديني- أن يدرس الإسلام والنبي محمدًا، من جهة أنه موحد العرب وجامع شملهم؛ حيث إن القومية الحقيقية لا يمكن بحال من الأحوال أن تتناقض مع الدين الصحيح، وقسطنطين رزيق شأنه كشأن الكثير من نخبة المسيحيين العرب، كان من المؤسسين الأوائل للفكر القومي العربي.
ثانيًا: الإصلاح الديني: حيث رأى أن العودة إلى الإسلام الأصيل، بما في ذلك الجهاد، ضرورية لاستعادة قوة الأمة، وهذا المزج بين الإصلاح الديني والجهاد أعطى لمحة عن هوية ومعتقد الجماعات الدينية التي خلطت بين الدين والسياسة لاحقًا، لأن سائر تلك الجماعات -دون استثناء- رفعت كلا الشعارين؛ (الإصلاح الديني والجهاد)، مع الاختلاف الكبير والتباينات فيما بينهم حول تسمية ذلك الإصلاح ونوعية ذلك الجهاد.
ثالثًا: مقاومة الاستعمار: حيث اعتبر الأفغاني الغرب عدوًا مشتركًا يجب مواجهته، وهو ما يعكس نزعة قومية معادية للهيمنة الأجنبية بقيت آثارها في فكر الجماعات، بتصوير الأنظمة السياسية والحكومات والدول كعملاء للاستعمار؛ فما من جماعة إرهابية حديثة إلا ورفعت شعار مقاومة الاستعمار وعملت عليه وفقًا لتصنيف هذا الاستعمار، ورؤيتهم لفعل الاستعمار بشكل عام، لأن العديد منهم رأى بعض الجيوش العربية كاستعمار يجب القضاء عليه، مثل ثوار سوريا الذين نشطوا عسكريا ضد بشار الأسد منذ عام 2011، وانتهى الحال بسيطرتهم على سوريا في ديسمبر 2014، وما ترتب على تلك السيطرة من تدمير للجيش السوري، والشروع في تكوين جيش جديد بمعتقد جديد يتوافق مع رؤية الثوار الدينية التي يجب أن يكون فيها الجيش إسلاميًا.
وبالتالي ووفقًا لمشروع الأفغاني؛ فقد دعا إلى تجاوز الانقسامات الطائفية بين السنة والشيعة، ورأى أن الوحدة الإسلامية هي السبيل لاستعادة المجد المفقود، مما أعطى لمشروعه بعدًا أخلاقيًا إصلاحيًا إسلاميًا في الداخل، يشبه في جانب الطموح دعوات القوميين العرب؛ مثل أنطون سعادة في كتابه “نشوء الأمم” (ص 21)، لتوحيد الأمة العربية، ومن خلال تلك الدعوات، حصل الإسلاميون والقوميون على الشعبية والقبول السياسي والاجتماعي، الذي كان مقدمة لحصولهم على الحكم في دول مختلفة وبتجارب مختلفة.
- الآراء الواردة في هذا المقال تُعبّر عن رأي الكاتب ولا تعكس بالضرورة مواقف وآراء “مواطن”.