تبذل المملكة العربية السعودية جهودًا حثيثةً للدفع نحو تسوية الأزمة السودانية، التي تشهد تحولًا لصالح الجيش في حربه ضدّ قوات الدعم السريع، كان أحدثها استعادة القصر الجمهوري في العاصمة الخرطوم، والذي عُدّ بمثابة إعلان لتحرير العاصمة، بعد عامين من الحرب التي تسببت في لجوء ونزوح الملايين، ومقتل وإصابة عشرات الآلاف، وتدميرٍ واسع النطاق للبنية التحتية والعمران.
اتخذت الجهود خطين متوازيين؛ الأول كان جولة في دول جوار السودان، قام بها نائب وزير الخارجية وليد بن عبد الكريم الخريجي، مصحوبًا بسفير المملكة في السودان، شملت إثيوبيا وجنوب السودان وكينيا وتشاد، في الفترة من 19 إلى 21 مارس/ آذار الماضي. والثاني من خلال استقبال ولي العهد الأمير محمد بن سلمان لرئيس مجلس السيادة السوداني وقائد الجيش، الفريق أول ركن عبد الفتاح البرهان، في مدينة جدة بعد أيام من جولة “الخريجي”، بالتزامن مع زيارة رئيس تشاد “محمد إدريس ديبي إتنو” إلى المملكة؛ ما دفع مراقبين للربط بين زيارة الرجلين، واستئناف وساطة المملكة في الأزمة؛ حيث تتهم الحكومة السودانية تشاد بمساندة الدعم السريع.
فهل تخطط الرياض لجولة جديدة من الوساطة بين طرفي الأزمة؟ وكيف ستختلف مقاربتها في ظل تحول مسار الحرب لصالح الجيش؟
المملكة وسيط فاعل في الأزمة
تسعى المملكة للحفاظ على موقعها كوسيط في الأزمة السودانية، بالرغم من تحدي الحفاظ على التوازن بين الأطراف المختلفة، وإدارة تضارب المصالح بين القوى الإقليمية، على غرار الإمارات التي أكدت تقارير مساندتها للدعم السريع، ومصر التي تقف خلف الجيش؛ الأمر الذي قد يُعقد أية جهود تبذلها الرياض لإعادة تفعيل مفاوضات السلام. وبحسب المحلل السياسي والعسكري السعودي فواز بن كاسب العنزي؛ فإن هذه التحركات الدبلوماسية تأتي في سياق جهود المملكة المستمرة لحل الأزمة، بعد جولات محادثات جدة بالتعاون مع الولايات المتحدة، التي نتج عنها توقيع “إعلان جدة” في مايو 2023، والذي هدف إلى حماية المدنيين وتسهيل المساعدات الإنسانية.
كاسب العنزي: " تدرك الرياض أن الحلّ لا يمكن أن يكون محصورًا بين طرفي النزاع؛ بل يجب أن يُبنى على توافق إقليمي يُسهم في تقليص التدخلات المتناقضة، خاصة من دول الجوار".
يضيف العنزي لـ”مواطن” أنّ المملكة “تتبنى نهجًا دبلوماسيًا نشطًا، وتنسيقًا مع الدول الأفريقية المجاورة للسودان، بهدف تحقيق اختراق. ومع ذلك يعتمد نجاح هذه الجهود على تجاوب الأطراف المعنية، واستعدادها للتوصل إلى حلول سلمية ومستدامة”. رعت المملكة والولايات المتحدة مفاوضات جدة في الشهر الأول من الحرب، وتمخض عنها أول اتفاق بين الجيش والدعم السريع، نصّ على الالتزام بحماية المدنيين وتسهيل وصول المساعدات الإنسانية، لكن عدم التزام طرفي الحرب بالمخرجات والهدن الإنسانية دفع الرياض وواشنطن إلى تعليق وساطتهما.
عاودت المملكة جهودها للوساطة ثانيةً، وزار نائب وزير الخارجية بورتسودان للمرة الأولى في يوليو/ تموز 2024، التقى خلالها رئيس مجلس السيادة، وعرض مقترح المملكة لتوسيع قاعدة المسهلين (الوسطاء) في مفاوضات جدة، لكن الأخير أبدى تحفظه على ما وصفه بوجود أي طرف يساند الدعم السريع، وبعد خمسة أشهر قام الخريجي بزيارة ثانية لبورتسودان. يقول الصحفي والمحلل السياسي السوداني عبدالله رزق: “من البديهي أن تهتم السعودية بالحرب الدائرة منذ عامين تقريبًا بحكم الجوار، وتأثرها بما يحدث في السودان بصورة أو أخرى”، موضحًا لـ”مواطن” أنّ التحرك السعودي في السودان والإقليم يستهدف كسر حالة الجمود التي خيمت على عملية المفاوضات، وتخفيف حدة المواجهات، واحتواء التطورات التصعيدية في مجريات الحرب.
ويشير إلى أنّ تحركات المملكة الأخيرة لا تحدث بمعزل عن الجهود الدولية في هذا الصدد؛ بل يمكن القول بأنها تتم بتنسيق مع شركاء “منبر جدة”، والذي يضم أيضًا ممثلين عن الإيقاد والاتحاد الإفريقي؛ ما يعني إشراك دول الجوار التي استهدفتها جولة نائب وزير الخارجية، وتنسيق الجهود الإقليمية والدولية في هذا الخصوص.
محددات الوساطة السعودية
رفضت المملكة إعلان نيروبي الذي تبنت فيه قوى سياسية بالاتفاق مع الدعم السريع، تشكيل حكومة موازية في مناطق سيطرة الأخير، وقال بيان الخارجية إن المملكة ترفض “أية خطوات أو إجراءات غير شرعية تتم خارج إطار عمل المؤسسات الرسمية لجمهورية السودان، قد تمس وحدته ولا تعبر عن إرادة شعبه، بما في ذلك الدعوة إلى تشكيل حكومة موازية”. وشدد البيان على الالتزام باستمرار بذل كل الجهود لوقف الحرب وتحقيق السلام، بما ينسجم مع إعلان جدة. كما شرعت في التباحث مع الحكومة السودانية حول أولويات إعادة الإعمار، ضمن جهودها الإنسانية للتخفيف من معاناة الشعب السوداني.
مواضيع ذات صلة
يعتقد الصحفي والمحلل السياسي التشادي سعيد أبكر أحمد، أن المملكة لعبت دورًا بارزًا في دعم القوات المسلحة السودانية، من خلال الزيارة التي قام بها نائب وزير الخارجية السعودي، إلى كل من جنوب السودان وإثيوبيا وتشاد وكينيا، واصفًا لـ”مواطن” هذه الجولة بأنها من أهم التحركات الدبلوماسية التي تعكس موقف الرياض الواضح في دعم الجيش السوداني، إلى جانب الضغط على حلفاء دولة الإمارات في إفريقيا للتوقف عن مساندة الدعم السريع.
كما يرجح أنّ “الخريجي” ركز خلال لقاءاته مع القادة الأفارقة على عدة محاور أساسية، أبرزها العمل بجدية على إنهاء الحرب في السودان، ومنع إمداد الدعم السريع بالأسلحة والطائرات المسيرة. يقول: إنّ الزيارة “شملت كذلك دعوة الدول الإفريقية للانضمام إلى المبادرة السعودية لحل الأزمة السودانية، كما أكد على التزام المملكة بدعم اللاجئين السودانيين في إفريقيا؛ خاصة في تشاد وإثيوبيا”.
وبحسب “أبكر”؛ فإن المملكة -إلى جانب جهودها السياسية- تعمل على تعزيز استقرار المنطقة عبر مشاريع تنموية يمولها الصندوق السعودي للتنمية في تشاد، إضافة إلى دعم إثيوبيا في تنفيذ مشاريعها الاقتصادية الطموحة، وهو ما يعكس دور المملكة في تعزيز التنمية والاستقرار في الإقليم. بدوره يرى “العنزي” أنّ المملكة تهدف إلى تدويل الحل السوداني؛ فالرياض تدرك أن الحلّ لا يمكن أن يكون محصورًا بين طرفي النزاع؛ بل يجب أن يُبنى على توافق إقليمي يُسهم في تقليص التدخلات المتناقضة؛ خاصة من دول الجوار.
ويتابع: إنّ المملكة تسعى لتقريب وجهات النظر بين دول لديها مواقف متناقضة مثل كينيا وإثيوبيا ومصر، بجانب استثمار رصيدها الدبلوماسي ومكانتها الإقليمية والدينية في لعب دور الوسيط المحايد، خصوصًا بعد نجاحاتها النسبية في الملف اليمني ومحادثات جدة. ويشير أيضًا إلى أن تلك الزيارات تحمل رسائل غير مباشرة لقوى دولية مثل أمريكا وروسيا والإمارات، بأن السعودية تملك أدواتها الخاصة في الساحة الأفريقية، ولا تكتفي بدور ثانوي.
توسيع دائرة أطراف الحلّ
يمكن للمملكة أن تلعب دورًا كبيرًا لإعادة طرفي الحرب إلى طاولة التفاوض، بإعادة تفعيل “منبر جدة”، والتنسيق مع الشركاء الدوليين، وتعزيز الضغوط الدبلوماسية، والتنسيق مع القوى الإقليمية، لضمان موقف موحد من دول الجوار في دعم الحل السلمي. وما زالت جهود الرياض تواجه بعض التحديات، وعلى رأسها استمرار تعنت طرفي الحرب، واعتقادهما بإمكانية تحقيق انتصار عسكري، وتدخلات قوى إقليمية أخرى تدعم أحد الطرفين، مما يعقّد مساعي التهدئة، بجانب ضعف الآليات الرادعة لفرض الالتزام بأي اتفاق يتم التوصل إليه.
وفي هذا الصدد يقول الصحفي “رزق”: “من المتوقع أن يكون نائب الوزير السعودي قد حمل معه رؤية جديدة لتجاوز حالة الجمود، من أجل إقناع طرفي الحرب بالعودة إلى طاولة التفاوض مرة أخرى والتوصل لاتفاق وقف إطلاق النار، وإطلاق عملية سياسية لاستعادة المسار المدني، بجانب السماح بمرور المساعدات الإنسانية إلى المتضررين المعرضين لخطر الجوع”.
جدير بالذكر أنّ الحكومة السودانية تنظر بشكل سلبي إلى سياسة الدول الأربع التي شملتها زيارة الخريجي؛ حيث تتهم تشاد بشكل علني بالسماح بنقل السلاح والمجندين إلى الدعم السريع عبر أراضيها بالتعاون مع الإمارات، بينما تتهم كينيا بأنّها منبر سياسي داعم لقوى سياسية حليفة للدعم السريع، وتتبنى مواقف مشابهة تجاه إثيوبيا وجنوب السودان.
من جنوب السودان، يعلق المحلل السياسي أتيم سايمون، بأن زيارة الخريجي ركزت على تعزيز العلاقات الثنائية والاستثمارات، بالإضافة إلى بحث الدور الذي يمكن أن تلعبه “جوبا” في دعم استقرار المنطقة، لا سيما السودان، بحكم الحدود المشتركة والتجربة السابقة لها في الوساطة بتعاون المملكة والإمارات في اتفاق سلام جوبا.
يقول لـ “مواطن”: “إنّ جنوب السودان يمتلك خبرة في عمليات التوسط، ويمكنه تقديم قراءة موضوعية للوضع في السودان وفرص تحقيق السلام، إضافة إلى إدراك التحديات الجوهرية التي يجب معالجتها”. منوهًا بأن جوبا تحافظ على علاقات متوازنة مع كل من الجيش والدعم السريع، مما يمكنها من لعب دور حيوي وإيجابي في تقريب وجهات النظر بين الطرفين، كما أنّ الرئيس سلفاكير سيتولى الرئاسة الدورية لتجمع شرق أفريقيا.
فرص وتحديات
بدوره، يضع “العنزي” عدة شروط لضمان تحقيق اختراق نسبي في الأزمة السودانية، وهي استمرارية حراك المملكة بنفس الزخم وبدعم من القيادة العليا، مع العمل على إعادة تفعيل منصة جدة كمركز موحد للحوار، بدلاً من تعدد المسارات؛ مثل مسار كينيا/الإيقاد. مشددًا على ضرورة احتواء مصالح دول الجوار؛ خاصة مصر وتشاد وإثيوبيا، عبر مبادرة سعودية لحوار إقليمي موازٍ يهدف لتنسيق الرؤى حول مستقبل السودان، ومناقشة قضايا اللاجئين والأمن الحدودي والتدخلات العسكرية، وخلق حوافز اقتصادية وإنسانية للأطراف السودانية للجلوس إلى طاولة الحوار، لافتًا إلى قدرة المملكة على ذلك من خلال أدوات مثل صندوق التنمية وبرامج الإغاثة.
ويؤكد على ضرورة إدماج الأطراف المدنية بصورة أوسع في المسار السياسي، وليس فقط المكونات العسكرية، وترتيب قمة إقليمية برعاية سعودية، تكون خريطة طريقها قائمةً على مخرجات جدة، ودعمها دوليًا من مجلس الأمن والاتحاد الأفريقي.
يمكن للمملكة أن تلعب دورًا حيويًا لإعادة طرفي الحرب إلى طاولة التفاوض، بإعادة تفعيل منبر جدة، والتنسيق مع الشركاء الدوليين، وتعزيز الضغوط الدبلوماسية، والتنسيق مع القوى الإقليمية.
يظل نجاح جهود المملكة في احتواء الأزمة مرتبطًا بشكل وثيق بالموقف الميداني، والذي قد يغري الجيش برفض الجلوس على طاولة التفاوض في ظل تقدمه على حساب الدعم السريع. اللافت أنّ قائد الجيش أعاد التأكيد على موقفه الرافض للتفاوض بعد عودته من المملكة، وقال: “أقول لهم بصوت الشعب النازح والمُهجر، والذي نهبت أمواله، والمحاصر، والأمهات الثكالى والأطفال الأيتام والشهداء، إننا لن نغفر ولن نساوم ولن نفاوض ولن ننكص عن عهدنا مع الشهداء”.
من جانبه، برر قائد الدعم السريع محمد حمدان دقلو “حميدتي”، الانسحاب الذي حصل في الأيام السابقة من أم درمان بأنّه “كان قرارًا جماعيًا وتقديرًا من القيادة وإدارة العمليات”، متعهدًا بـ”العودة إلى الخرطوم بقوات أشد قوة”.
أمام هذا، تبدو مقاربة المملكة بتوحيد جهود الأطراف الإقليمية والدولية وجميع الدول المنخرطة في الصراع بمثابة ضغط على طرفي الحرب للقبول بالعودة إلى المفاوضات، ومن المرجح أنّ تستفيد المملكة من العلاقات القوية مع الرئيس الأمريكي دونالد ترامب؛ خاصة وأنّ البلدين هما الراعيان الرسميان لمنبر جدة التفاوضي.
لعل الاختراق النسبي الممكن هو التوصل لاتفاق لرفع حصار الدعم السريع عن مدينة الفاشر في إقليم دارفور، مع إكمال الانسحاب من ولاية الخرطوم، مقابل وقف غارات طيران الجيش على مدن أخرى يسيطر عليها الدعم السريع في الإقليم، وهي خطوات كفيلة بتجميد القتال، والتمهيد للانتقال إلى محادثات سياسية تأخذ بعين الاعتبار نتائج الميدان، وتمهد لمرحلة ما بعد الحرب، التي تشمل تشكيل سلطة سياسية مقبولة من المجتمع الدولي، تقود جهود إعادة الإعمار بدعم دولي.