“بكت الطفلة “ليان” بحرقة، ملتجئة إليّ وإلى جدتها بسبب خوفها واضطرارها لمعايشة هذه الأهوال”. يصف عبد الرحمن، وهو مواطن يمني يسكن العاصمة صنعاء، معايشته وأسرته خلال إحدى الغارات الأمريكية على المدينة، والتي أصابت هدفًا يبعد أمتارًا قليلة عن منزلهم. يحكي لـ”مواطن” أنّه من شدة الانفجار كاد سقف المنزل أن ينهار فوقهم أثناء تناولهم وجبة العشاء.
ليست الغارة التي كادت تصيب بيت عائلة “ليان” سوى واحدة من مئات الغارات الجوية والقصف البحري، التي تشنها الولايات المتحدة والمملكة المتحدة وإسرائيل، ضدّ مناطق سيطرة جماعة أنصار الله (الحوثيين) شمالي اليمن، بعد دخول الجماعة على خطّ الحرب في غزة ضمن جبهة الإسناد، من خلال استهداف الملاحة في البحر الأحمر وخليج عدن وباب المندب، وقصف مناطق داخل إسرائيل.
يقدم تقريرنا المدفوع بالبيانات صورة شاملة حول المواجهات بين أطراف الصراع في البحر الأحمر، استنادًا إلى قواعد بيانات دولية للهجمات في المنطقة. فما طبيعة الصراع؟ وما دور كل طرف؟
ما بعد انهيار الهدنة في النار في غزة
بعد أحداث السابع من أكتوبر/ تشرين الأول 2023، بدأت إسرائيل عدوانًا غير مسبوقٍ على القطاع، تسبب في مقتل أكثر من 50 ألف إنسان، ونحو 115 ألف مصاب، وتدمير شبه كلي للمنشآت والمباني، وتشريد أكثر من مليوني إنسان، وذلك حتى تاريخ الثالث من أبريل/ نيسان 2025، وما زال العدوان مستمرًا.
انخرط الحوثيون إلى جانب “حزب الله” والفصائل الموالية لإيران في العراق، ضمن جبهة الإسناد لمؤازرة المقاومة في غزة، وأعلنوا استهداف السفن التجارية المتوجهة من وإلى الموانئ الإسرائيلية، أو المملوكة لشركات إسرائيلية، ثم قاموا بتوسيع دائرة الاستهداف لتشمل السفن الأمريكية، واختطاف السفينة “غالاكسي ليدر”، المملوكة لرجل أعمال إسرائيلي في 19 من نوفمبر/ تشرين الثاني 2023.
يمكن تقسيم المواجهات بين الأطراف إلى جولتين؛ الأولى منذ بداية انخراط الحوثيين ضمن جبهة الإسناد، إلى جانب فصائل المقاومة في غزة حتى وقف إطلاق النار، والثانية منذ انهيار وقف إطلاق النار، وما زالت مستمرة. تكشف بيانات الجولة الثانية والأحدث -قد لا تشمل جميع العمليات- عن شنّ الولايات المتحدة نحو 11 جولة من الغارات الجوية على العديد من المنشآت الحكومية والمقرات العسكرية، ومنشآت أخرى في مناطق سيطرة الحوثيين، منذ 15 من مارس/ آذار 2025، بعد توقف لمدة شهرين تقريبًا.
في المقابل، شنّ الحوثيون نحو ثماني هجمات، شملت إطلاق صواريخ وطائرات مسيرة صوب قطع بحرية حربية أمريكية، ومناطق عسكرية ومدنية في إسرائيل، وأعلنوا عن حصيلة بلغت 61 قتيلًا، و139 مصابًا، نتيجة الغارات الأمريكية، وذلك حتى الثاني من أبريل/ نيسان 2025. بخلاف الجولة الأولى والأطول منذ المواجهات؛ فلم يُرصد بعد استهداف الحوثيين سفنًا تجارية، كما تُظهر أرقام الضحايا اليمنيين ارتفاع الخسائر البشرية نتيجة الغارات مقارنة بالجولة الأولى.
المواجهات في البحر الأحمر
بلغ مجموع العمليات العسكرية -دون احتساب الغارات والقصف الأمريكي البريطاني والإسرائيلي على مناطق سيطرة الحوثيين- في الجولة الأولى، التي بدأت في 19 من أكتوبر/ تشرين الأول 2023 إلى 18 يناير 2025، نحو 393 عملًا عسكريًا، تنوعت بين استهداف سفن تجارية وعسكرية، وإطلاق صواريخ ومسيرات، والتصدي لصواريخ ومسيرات، وغير ذلك.
تكشف البيانات أنّ أكثر من نصف العمليات العسكرية بقليل، استهدفت تعطيل أسلحة مُعدة للاستخدام، ومن المرجح أنّ المقصود بها تصدي الولايات المتحدة وحلفائها وإسرائيل لتحضيرات هجومية من الحوثيين، وقد يكون منها إسقاط وتعطيل مسيرات وصواريخ، وتليها العمليات التي تشمل القصف والهجوم الصاروخي والمدفعي، وهي عمليات هجومية قامت بها جميع الأطراف، ومنها على سبيل المثال القصف المدفعي من السفن الحربية، وإطلاق الصواريخ من اليمن.
وحول التوزيع الزمني للهجمات المتبادلة؛ فقد تصدر شهر يونيو 2024 بعدد 51 عملًا عسكريًا، تبعه انخفاض حدة المواجهات بين الطرفين، لتعاود الصعود في ديسمبر 2024، والذي شهد ازدياد حدة الحرب في غزة، خلال المفاوضات التي أدت للهدنة السابقة. بدورهم، استهدف الحوثيون خلال هذه الجولة الأولى من المواجهات نحو 159 سفينة تجارية في البحر الأحمر وخليج عدن، ترفع أعلام العديد من دول العالم، ومن بينها سفينتان ترفعان علم السعودية.
ولم يوجد بين السفن التجارية المُستهدفة واحدة ترفع العلم الإسرائيلي، وربما يعود ذلك إلى رفع السفن المملوكة لشركات إسرائيلية لأعلام دول أخرى، أسوةً بمعظم السفن التجارية التي تفضل رفع أعلام دول مثل ليبيريا وبنما وجزر مارشال وغيرها، لأسباب عدة؛ منها تجنب الرسوم وقوانين العمل في دولهم الأساسية، والحصول على تسهيلات ضريبية وتشغيلية وغير ذلك. في حين تعرضت تسع سفن ترفع علم الولايات المتحدة ومملوكة لشركات أمريكية للاستهداف.
مواضيع ذات صلة
انتقلت الولايات المتحدة والمملكة المتحدة إلى الهجوم المضاد بدايةً من 13 من يناير/ كانون الثاني 2024، باستهداف منشآت حكومية وعسكرية وخدمية في مناطق سيطرة الحوثيين، وبلغت حصيلة الهجمات نحو 308 هجمات على مدار عام، حتى اليوم الأخير في ولاية الرئيس الأمريكي السابق، جو بايدن. تشارك أستراليا والبحرين وكندا والدنمارك وهولندا ونيوزيلندا كدول داعمة، إلى جانب الولايات المتحدة والمملكة المتحدة، ضمن عملية قوس بوسيدون (Poseidon Archer)، التي أعلنتها واشنطن في يناير/ كانون الثاني 2024 لاستهداف الحوثيين، ردًا على تعطيلهم حركة الملاحة البحرية.
تتنوع الهجمات بين الغارات الجوية والقصف المدفعي والصاروخي من القطع البحرية الحربية. شهد شهر فبراير/ شباط 2024 العدد الأكبر من الهجمات بواقع 78 هجومًا، ثم تراجعت العمليات لترتفع في شهر أغسطس/ آب، معاودة الانخفاض، لتسجل أقل معدل في يناير/ كانون الثاني حتى توقفها بعد الإعلان عن وقف إطلاق النار في غزة.
تكشف البيانات عن تنوع الأهداف التي تعرضت للهجوم، وكان النصيب الأكبر للمواقع العسكرية والأمنية الحوثية بعدد 204 أهداف، واستُهدفت عشرات المؤسسات العامة والبنية التحتية ومؤسسات إعلامية وتعليمية، وتعرض مبنى مدني للقصف. ومن الملاحظ تركيز الهجوم الأمريكي البريطاني على جميع المناطق الساحلية التي يسيطر عليها الحوثيون، ولم تحدد البيانات مكان 37 غارة جوية. تسببت الهجمات في مقتل 21 شخصًا، وإصابة 65 آخرين، وكان نصيب الحُديدة هو الأكبر في عدد الضحايا كما في الاستهداف.
توضح البيانات تعرض محافظة الحُديدة للنصيب الأكبر بعدد 157 هجومًا، تليها أمانة العاصمة صنعاء بعدد 25 هجومًا، ثم محافظتي تعز وصعدة بعدد 21 غارة لكل منهما.
إسرائيل على خط المواجهة
بدأت إسرائيل أولى غاراتها على اليمن في يوليو/ تموز 2024، بعد نحو تسعة أشهر من تعرضها للاستهداف من الحوثيين، وشنّت نحو 20 غارة جوية ضد أهداف في مناطق سيطرة الحوثيين خلال عهد إدارة بايدن، بينما لم يُرصد شنُّها هجمات على اليمن في الجولة الثانية من القتال، حتى تاريخ الثالث من أبريل/ نيسان 2025.
عرف شهر ديسمبر/ كانون الأول 2024، أكبر عدد من الغارات الإسرائيلية، بواقع 10 غارات، أسوةً بتكثيف الولايات المتحدة هجومها في التوقيت نفسه، حتى التوصل لوقف إطلاق النار في غزة.
لم تستهدف إسرائيل منشآت عسكرية للحوثيين، وقامت بقصف منشآت في قطاع النقل، شملت الموانئ ومنشآت خدمية في قطاعي الكهرباء والماء، وقطاع النفط والغاز، ومبنىً حكوميًا.
عرف شهر ديسمبر/ كانون الأول 2024، أكبر عدد من الغارات الإسرائيلية، بواقع 10 غارات، أسوةً بتكثيف الولايات المتحدة هجومها في التوقيت نفسه، حتى التوصل لوقف إطلاق النار في غزة.
وعلى الرغم من محدودية عدد الغارات الإسرائيلية مقارنةً بالأمريكية-البريطانية في جولة القتال الأولى، إلا أنّها تسببت في حصيلة أكبر بين الضحايا المدنيين، وبلغت 223 ضحيةً، بين 31 قتيلًا، و192 مصابًا، مقارنة بعدد 21 قتيلًا، و64 مصابًا في الغارات الأمريكية-البريطانية، التي تبلغ نحو 15 ضعف عدد الغارات الإسرائيلية.
يشي ما سبق بعدم اكتراث الأطراف السابقة بحياة المدنيين، وربما تعمد إسرائيل إيقاع قدر كبير من الضحايا. كما تكشف مقارنة أعداد ضحايا الغارات الأمريكية في عهدي الرئيسين؛ السابق بايدن، والحالي ترامب، عن تهاون إدارة الأخير في الحد من الخسائر البشرية خلال الغارات؛ حيث تسببت 11 غارة جوية، في مقتل وإصابة نحو 200 شخص، بحسب تصريحات الحوثيين -لم يتسن التأكد من صحتها من مصادر محايدة- في حين أسقطت 308 غارات في عهد بايدن نحو 85 شخصًا بين قتيل وجريح. مع ذلك، لا يمكن الجزم بتعمد استهداف إدارة ترامب للمدنيين في اليمن، وبحسب تصريحات أمريكية، أوقعت الغارات عددًا كبيرًا من الضحايا نتيجة قصف معسكرات للحوثيين، لكن في ظل تغير قواعد الاشتباك؛ فمن المرجح أنّ يدفع المدنيون الثمن.
يترقب “عبد الرحمن” الأيام المقبلة بقلق، ويقول: “إنّ ملامح الخوف على وجه الطفلة “ليان” ما زالت عالقة في ذاكرتي، ولم تفارقني لحظة، وجعلتني أفكر في طفلتي الأولى التي سيحين موعد ولادتها بعد أشهر قليلة، وكم أتمنى ألا تُولد في هذه الأوضاع المليئة بالخوف والرعب”. مشددًا على موقفه الداعم للشعب الفلسطيني المظلوم، واستعداده للتضحية لنصرته رغم ما يصفها بـ”غطرسة كل من أمريكا وإسرائيل”.