لا تزال قضية المقاتلين الأجانب في الجيش السوري الجديد تشغل حيّزا واسعا من الاهتمام العالمي والإقليمي والمحلي، خصوصا بعد إثبات تورطهم في ارتكاب مجازر تطهير عرقي في حق العلويين بمناطق الساحل السوري غرب البلاد في الفترة الممتدة ما بين السادس والعاشر من مارس/آذار الماضي، والتي راح ضحيتها ما يقرب من 1400 مدني بحسب المرصد السوري لحقوق الإنسان.
بدأت الأحداث حين هاجمت قوات تتبع فلول النظام السابق حواجز وتجمعات للأمن العام وقوى وزارة الدفاع التابعتين للسلطة الجديدة ما استدعى استقدام تعزيزات عسكرية من محافظات أخرى لضبط الوضع ومعاودة الإمساك بزمام الأمور، وكان بطبيعة الحال من بين الوافدين لنصرة إخوانهم جهاديون أجانب.
لم يتمكن الجهاديون الذين انخرطوا في صفوف وزارة الدفاع مؤخرا التحرر من النزعة السلفية الجهادية القائمة على الأيديولوجية التي قادتهم إلى سوريا تباعا خلال سنوات حربها على أساس أنها ساحة صراع ضد “طاغوت” ومن هذا البلد سيكون المعبر نحو القدس، وهو ما قاله منظرو التيار السلفي في إدلب مراراً، وكرروه مؤخرا مع سيطرتهم على الحكم، أو على الأقل سيطرة رفاق دربهم على مقاليد السلطة.
قيادات أجنبية على رأس الجيش
يدور الكثير من الجدل حول أولئك الجهاديين الوافدين من خلفيات، حاملين معهم تجارب قتالية واسعة المفاهيم والخبرات من أفغانستان وصربيا والبوسنة وليبيا والصومال وغيرهم، ما يجعل عملية دمجهم فعليا في الجيش السوري مسألة خطيرة، كما يصعب ترحيلهم، وللأمرين تداعيات خطيرة على الصعيدين الداخلي والخارجي.
يرى أحمد الشرع، الرئيس السوري، بأنّ المقاتلين الأجانب الذين شاركوا في العمليات العسكرية ضد نظام الأسد يستحقون المكافأة والتقدير والشكر، نظرًا لدورهم في إنجاح غرفة عمليات “ردع العدوان”، التي أسفرت عن إسقاط النظام في الثامن من كانون الأول/ديسمبر 2024. وفي تصريحات صحفية سابقة، أوضح الشرع أنّ الاستعانة بهؤلاء المقاتلين كانت ضرورة ملحّة لمواجهة ما وصفه بجرائم النظام السابق، مشيرًا إلى أنهم يستحقون التقدير الكامل، وملوّحًا بشكل غير مباشر إلى إمكانية منحهم الجنسية السورية مستقبلًا تقديرًا لجهودهم.
دمج عناصر جهادية أجنبية في الجيش السوري الجديد، الذي يُفترض أن يعكس تركيبة المجتمع السوري، قد يُشكل تهديدًا للسلم الأهلي وسيادة الدولة على المدى البعيد
ويقول الشرع في إحدى حواراته: “جاؤوا من جميع أنحاء العالم الإسلامي إلى سوريا، من منطلق التعاطف مع السوريين، وعددهم حاليًا ليس كبيرًا جدًا، وجميعهم وافقوا على الامتثال لتوجيهاتنا وسياستنا، وهم لا يشكلون خطرًا على الدول الأخرى، ويستحقون أن نكافئهم على جهودهم”. وأكد أنه ستتم معالجة أوضاعهم وتسويتها وفقًا للقانون السوري المرعي، وما يترتب على ذلك من تبعات يُنظر في مدى توافقها الدستوري مع شكل النظام والقانون.
كما كانت من أوائل القرارات التي اتخذها الشرع، بوصفه القائد الأعلى للقوات المسلحة، ترفيع مجموعة من الضباط إلى رتب عليا، من بينهم ثمانية أجانب على الأقل حصلوا على رتب لواء وعميد وعقيد، وينحدرون من جنسيات تركية وألبانية وتركستانية وأردنية وإيغورية.
وفي وقت لاحق، عهدت وزارة الدفاع إلى الطبيب الأردني عبد الرحمن حسين الخطيب بقيادة فرقة الحرس الجمهوري، بعد ترفيعه إلى رتبة عميد. وكان الخطيب أحد طلاب جامعة عمّان قبل أن يُسجن بتهمة السلفية الجهادية، ليخرج من السجن لاحقًا ويلتحق بصفوف جبهة النصرة (فرع تنظيم القاعدة في سوريا) عام 2013. كذلك عُهد إلى عمر محمد جفشتي، من الجنسية التركية، قيادة فرقة دمشق، أو ما تُعرف بحامية دمشق، بعد ترفيعه إلى رتبة عميد. ويُعدّ جفشتي أحد المطلوبين على لوائح الإرهاب في تركيا.
هذان التعيينان على وجه الخصوص أثارا حفيظة الشارع السوري، نظرًا لخصوصية المواقع التي تولّياها، وحساسيتها البالغة، وقدرتهما على التحرك في أي لحظة في اتجاه معاكس لمنهج الحكم، بالنظر إلى ما تملكانه من نفوذ وقوة وتمكن. لذلك، يرى كثير من السوريين أن هذه التعيينات لم تكن في محلها.
قرارات في غير مكانها
وعن تلك التعيينات يقول الباحث السياسي ملهم فايز لـ “مواطن”: “الشرع ومن خلفه وزارة الدفاع اختارا أكثر موقعين حساسين وسلماهما لأجانب، أتمنى أن يكونوا على وعي وحرص بما يفعلون، فحامية دمشق والحرس الجمهوري يحكمان العاصمة عمليا، وكان يجب أن تناط هذه الأدوار بضباط سوريين منشقين بدلاً من تحييدهم، الآن نفهم أن النهج القائم يعتمد على الولاءات لا الكفاءات، لكن إلى أي حدٍّ ستتماشى براغماتية وانفتاح الشرع مع ايدولوجية قادته الجهادية المغلقة، خصوصًا مع تهديدات بإمكانية تكفيره من قبل بطانته من الفصائل لقاء انفتاحه على الغرب ومحاولة خلع الزي الجهادي واستبداله بربطة عنق أنيقة يعرف صاحبها كيف يوزع الابتسامات والمواقف في المحافل الخارجية وفي وجه ضيوفه الداخليين والخارجيين، يعينه في ذلك وزير خارجيته الذكي”.
ويكمل الباحث: تمكن الشرع، مع وزير خارجيته، خلال ثلاثة أشهر من الحكم، من انتزاع اعتراف دولي واسع بحكمهم، في الحد المقبول على الأقل. لكن فصائله خذلته، ودمّرت خلال ثلاثة أيام جهود ثلاثة أشهر، عقب أحداث الساحل السوري، وقلبت موقف المجتمع الدولي عليه رأسًا على عقب.
كما يرى مراقبون دوليون أن إدماج عناصر جهادية أجنبية في الجيش السوري الجديد، الذي يُفترض أن يعكس تركيبة المجتمع السوري، قد يُشكل تهديدًا للسلم الأهلي وسيادة الدولة على المدى البعيد. وقد أعربت دول غربية عن قلقها من تعيين مقاتلين أجانب في مناصب عسكرية عليا، معتبرةً ذلك مصدر قلق أمني قد يسيء إلى صورة الإدارة السورية الجديدة، ويؤثر على معايير الاستقرار العام.
في السياق ذاته، تتابع الولايات المتحدة هذه التطورات بحذر، حيث حذرت دمشق من تعيين أجانب في مناصب عسكرية خلال اجتماع بين المبعوث الأميركي دانييل روبنشتاين والرئيس السوري أحمد الشرع، مشيرةً إلى أن هذه الخطوة قد تؤثر سلبًا على الدعم الدولي للإدارة الجديدة.
كما قامت الولايات المتحدة مؤخرًا بتعديل وضع تأشيرات أعضاء البعثة السورية لدى الأمم المتحدة، مما يعكس عدم اعترافها الحالي بأي كيان كحكومة لسوريا، ويُظهر استمرار التوجس الدولي من توجهات القيادة السورية الجديدة.
مسألة التجنيس
يرى الباحث في شؤون الجماعات الإسلامية، عبد الله عبد المنصف، أن تجنيس المقاتلين الأجانب يُعدّ خطوة خطيرة وغير مدروسة في حال الشروع في تنفيذها. وأوضح أن سقوط النظام السابق لم يكن نتيجة مباشرة لتدخل هؤلاء المقاتلين، رغم الأدوار المتباينة التي لعبها بعضهم، والتي كان لبعضها تأثير ملموس. إلا أن الضربة القاضية لنظام الأسد، بحسب قوله، جاءت على يد المقاتلين السوريين المعارضين، بمن فيهم الجهاديون المحليون، إلى جانب تأثير العقوبات الدولية التي أثقلت كاهل النظام، وانكفاء جيش الأسد عن الدفاع عنه. وخَلُص عبد المنصف إلى أن هذه العوامل مجتمعة شكّلت أسبابًا رئيسية في سقوط النظام، دون أن يكون للمقاتلين الأجانب دور محوري في ذلك.
وأضاف عبد المنصف: “لعلّ دورهم البارز كان في تنظيم داعش، وجبهة النصرة، والتنظيمات الأكثر تطرفًا، لكنه تضاءل مع حلّ النصرة لنفسها وتشكيل هيئة تحرير الشام عوضًا عنها عام 2017. وفي حال تمّ تجنيسهم فعلاً، فهل تعي السلطات خطورة الأمر على هيكلها أولًا، ومجتمعاتها ثانيًا؟ لقد رأينا ما فعلوه في الساحل السوري، والمواطن السوري لن يتمكن من تقبّلهم كشركاء في الجنسية.”
ويتساءل الباحث عبد الله عبد المنصف عن مدى إمكانية اندماج هؤلاء المقاتلين في المجتمع، في ظل الفروق الثقافية والاجتماعية الكبيرة، إضافة إلى صعوبة تفكيك البنية الفكرية الجهادية التي يحملونها، ما يجعلهم، وفق وصفه، “قنابل موقوتة” يمكن أن تنفجر في أي لحظة، خصوصًا عند وقوع أحداث تحمل أبعادًا طائفية أو ترتبط بالإبادة، والتهجير، والتصفية، والتطهير.
ويتابع بالقول: “لكن ربما تكون هذه مجرد مناورة، ولا يتم تجنيس الجميع، بل يُرحّلون إلى بلدانهم الأصلية مع استتباب الحكم… أو ربما إلى جبهات جديدة”.
ترحيل هؤلاء المقاتلين أو معاقبتهم “لن يكون أمرًا معقدًا في حال خرقوا التعليمات أو تجاوزوا المهام العسكرية الموكلة إليهم
بدوره، يرى الباحث السياسي منتصر عيتون أن هناك بدائل ممكنة لتجنيس المقاتلين الأجانب، من بينها منحهم رتبًا عسكرية على سبيل المكافأة، كما تحدّث الرئيس الشرع، إلى جانب منحهم إقامات دائمة تتيح لأبنائهم الحصول على الجنسية السورية مستقبلاً، في حال زواجهم من مواطنات سوريات. ويوضح عيتون أن هذه الخطوات تتيح للمقاتلين فرصًا للتملك العقاري والاستثماري دون الحاجة إلى منحهم الجنسية مباشرة.
ويحذّر الباحث في الوقت نفسه من أن هذا التوجه قد يثير إشكالات دولية واسعة، رغم الاعتراف المتزايد بشرعية الإدارة السورية الجديدة. ويؤكد أن الصين، على وجه الخصوص، ستبقى في موقف معارض بسبب موقفها الصارم من الجماعات الجهادية، وسياقها التاريخي الحساس فيما يخص أقلية الإيغور.
ويضيف: “الأمر لا يقتصر على الصين؛ فمصر أيضًا تُبدي حساسية مفرطة تجاه هذا الملف، وهو ما دفع على الأرجح إلى إبعاد المصريين عن الواجهة في هذه المرحلة، ولو مؤقتًا. في المقابل، هناك دول أوروبية تمنح الجنسية للأجانب وتُشركهم في قواتها المسلحة، لكنّ هذا العرف غير مألوف في دول المنطقة. هنا، يجري الاعتماد على ميليشيات متباينة في طبيعتها وأيديولوجيتها، وتنظيمها في سياقها الخاص، دون إدماجها رسميًا في هيكل الجيش أو منحها مناصب عليا تستأثر بها”.
تعداد المقاتلين الأجانب
في مقابلة خاصة مع “مواطن”، كشف مصدر في الإدارة السورية الجديدة – فضّل عدم ذكر اسمه – أن عدد المقاتلين الأجانب الذين يُبحث أمرهم حاليًا يتراوح بين ثلاثة إلى خمسة آلاف مقاتل. واعتبر المصدر أن هذا الرقم لا يُعدّ كبيرًا، خاصة في ظل توجّه الإدارة لتأسيس جيش وطني يتراوح تعداده بين 100 إلى 200 ألف مقاتل، ما يجعل ما يُثار من مخاوف إقليمية ودولية بشأنهم “مبالغًا فيه إلى حدّ ما”، بحسب تعبيره.
وأضاف المصدر أن طبيعة هؤلاء المقاتلين “لا تمثل خطرًا ديموغرافيًا فعليًا” نظرًا لقِلّتهم مقارنة ببقية عناصر الجيش قيد التشكيل، مشيرًا إلى أن موقف الرئاسة واضح في هذا الصدد، حيث أكد الرئيس السوري على “عدم التخلي عن مقاتلين قدموا من بلدانهم للمشاركة في القتال إلى جانب السوريين منذ بدايات الصراع، وأسهموا في مواجهة الميليشيات الطائفية المدعومة من خصوم النظام السابق”.
وأوضح المصدر أن ترحيل هؤلاء المقاتلين أو معاقبتهم “لن يكون أمرًا معقدًا في حال خرقوا التعليمات أو تجاوزوا المهام العسكرية الموكلة إليهم”، مؤكدًا أن أصولهم تعود إلى مناطق متنوعة، تشمل الإيغور، الشيشان، تركستان، آسيا الوسطى، تونس، الجزائر، المغرب، السعودية، الأردن، الجبل الأسود، صربيا، فرنسا، أوزبكستان، أذربيجان، وطاجيكستان.
ويُعد الحزب الإسلامي التركستاني أبرز الفصائل الجهادية الأجنبية المتمركزة في سوريا، ويتكوّن معظم أفراده من الإيغور القادمين من تركستان الشرقية. وقد أعلن الحزب عن تأسيس فرعه السوري عام 2013، ويتمركز حاليًا بشكل رئيس في محافظة إدلب، شمال غربي البلاد، وتحديدًا في مدينة جسر الشغور، بالإضافة إلى مناطق جبلي الأكراد والتركمان المحاذيين للساحل السوري من الجهة الشرقية.
إلى جانب “حزب التحرير”، تنشط في سوريا مجموعات جهادية أخرى أقل نفوذًا، من أبرزها “المجاهدون الغرباء”، الذين ينحدر مقاتلوهم من جنسيات طاجيكية وأوزبكية، بالإضافة إلى بعض العناصر من أصول عربية. كما تنشط فصائل مثل “أجناد القوقاز”، و” مجاهدو الشيشان”، و” جند الشام”، و” حراس الدين”، الذي يُعد من أكثر الفصائل تطرفًا، وتُستهدف قياداته بشكل مستمر من قبل الولايات المتحدة عبر غارات جوية.
هذه الفصائل مجتمعة تُشكّل مصدر قلق متصاعد داخل المجتمع السوري، ليس فقط بسبب سجلها في الساحل السوري مؤخرًا، بل أيضًا نتيجة حوادث سابقة في مناطق سيطرتها، والتي طالت حتى المدنيين السنّة. وهو ما جعل من مجرد ذكر أسماء بعض هذه الكتائب أمرًا مثيرًا للخوف لدى شريحة واسعة من السكان في المدن السورية.
فهل تنجح الإدارة السورية في ضبطهم ونزع فتيل التطرف من عقولهم وتصويب أيدولوجيتهم الجهادية نحو الديمقراطية وقبول الآخر؟، وهو المسعى الذي تسير به الدولة السورية الجديدة حتى الآن، مع انقضاء شهرها الرابع في الحكم، ولعلّ السؤال الأهم هو كيف سيتم تحقيق التجانس بينهم وبين قوات سورية الديمقراطية التي وقعت اتفاقية مصالحةٍ مع القيادة السورية الجديدة؟، وهي القوات التي تصنف يساريةً ويغلب عليها الطابع العلماني المباشر، وقوات سوريا الديمقراطية التي تعرف اختصاراً بـ “قسد” هي قوات كردية تسيطر على نحو ثلث مساحة سوريا في الجزء الشمالي الشرقي من البلاد.