منذ وفاة الرسول محمد في القرن السابع، وانشغل المسلمون بأحداث سياسية واجتماعية أثرت على النسيج الإسلامي حتى اليوم، لكن الملفت للنظر هو غياب التأليف وتصنيف الكتب لمدة طويلة تخطت 200 عام؛ حيث اكتفى المسلمون بالقرآن الكريم، تناوله بعضهم كمُعلم ومرشد روحي، وآخرون كدستور سياسي وقانون شرعي، وآخرون كبنود عقيدة وبناء فكري شامل خاص بكل مناحي الحياة.
ويمكن تفسير تأخر عصر التدوين طوال هذه المدة لخمسة أسباب أجملها فيما يلي:
أولاً: الاعتماد على الحفظ الشفوي؛ حيث إنه وفي العصرين النبوي والراشدي، ثم الأموي والعباسي الأول، كان المجتمع العربي يعتمد بشكل كبير على الذاكرة والنقل الشفوي؛ حيث كان الصحابة وآل البيت والتابعون يحفظون القرآن والمرويات المنسوبة للنبي وللصحابة في عصر التأسيس فقط، ولأن هذا النهج كان كافيًا في البداية بسبب قلة انتشار الكتابة، وعدم الإلمام بعلومها التي كانت حصرًا في ذلك الزمن، في أيدي الامبراطوريات العظمى كالروم والفرس.
ثانيًا: الحرص على حفظ القرآن والخوف من ضياعه وتحريفه؛ ففي عصر النبي كان التركيز الأساسي على حفظ القرآن الكريم وتدوينه بشكل مباشر، ثم امتد هذا السلوك لما بعده كعرف اجتماعي وثقافي لم يتبدل إلى اليوم رغم تطور وسائل الكتابة، ويمكن تفسير هذا الحرص بخوف المسلمين من خلط الحديث بالقرآن إذا تم تدوينهما معًا، وما زالت مرويات الصحابي عمر بن الخطاب التي ينهى فيها عن تدوين الحديث أو كثرة التحديث والرواية عن النبي، شائعة في التراث الإسلامي.
ثالثًا: الفتن والاضطرابات السياسية؛ حيث إنه وبعد وفاة النبي، مرّ المسلمون بعدة حروب أهلية وفتن قاسية منذ مقتل الخليفة عثمان بن عفان وما تلاه من حروب أهلية، ومعارك لم تتوقف حتى عصر الأمين والمأمون نهاية القرن الثاني الهجري، وهي فترة الـ 200 عام التي انشغل فيها المسلمون بالسياسة والسلطة عن التركيز على التدوين المنظم في تلك المرحلة المبكرة.
رابعًا: تفسير الدين بمنحى سياسي، وقد أثر هذا التفسير على المجتمعين العربي والإسلامي بإثارة الشكوك في توظيف الكتابة كأداة إعلامية وسلطوية ضد المعارضين، لذلك لم يمِل الخلفاء للتدوين، واكتفوا بالتحديث الشفوي كأداة للسيطرة السياسية والاجتماعية، وقد حظي الرواة والقصاصون من الأمراء خلال مدة 200 عام بالمنح والهبات والمكافآت، ثوابًا لهم بخدمة البلاط ونظام الحكم، عبر هذه المرويات والقصص من جانب، ولمداعبة خيالات بعض هذه القصص لميول الخلفاء والأمراء من جانب آخر؛ حيث كان القصّاص في ذلك العهد يقوم بدور الفنان أحيانًا في تسلية الحكام والأعيان.
خامسًا: تطور نظم الكتابة عند أعداء المسلمين من الروم والفرس، والخوف من الانخراط في ذلك المجال بمواجهة خاسرة.
صارت طاعة الحكام من موجبات العمل السياسي الإسلامي ولا يجوز الخروج عليهم ما داموا أقوياء، وهي فكرة رسختها كتب السياسة الشرعية بعد أربعة قرون من النزاع
بمرور الوقت وانتشار الإسلام وزيادة الحاجة للتدوين في ظل اتساع الرقعة الإسلامية في عهد الخلفاء الراشدين والأمويين، أصبح من الصعب الاعتماد فقط على النقل الشفوي، بسبب بُعد المسافات وتعدد الرواة، وبالتالي صعوبة التواصل وربط الإمارات والولايات ببعضها، مما دفع العلماء لاحقًا إلى تدوين الأحاديث والمعارف لضمان سلامتها من التحريف أو الضياع من جهة، ولتحقيق مبدأ التواصل من جهة مختلفة، كذلك كثرة وشيوع ظاهرة الوضع في الحديث، والمرويات التي ظهرت مكذوبة لأغراض سياسية أو شخصية، مما أدى إلى وجود حاجة ملحة للتدوين.
خصوصًا مع اجتياح ظاهرة الترجمات الأجنبية للمجتمعين العربي والإسلامي، والتي انتشرت في عصري هارون الرشيد وولده المأمون، وهي فترة امتدت 50 عامًا تقريبًا منذ تولي هارون الرشيد عام 170 هـ حتى وفاة المأمون عام 218هـ؛ حيث واجه فقهاء المسلمين تحديًا كبيرًا لإثبات دينهم أمام المنافس العتيق؛ فانقسموا في إثبات الدين لفريقين: الأول: أهل الرأي، الذين جادلوا أهل الكتاب وحصلوا على شعبية كبيرة، والثاني: أهل الحديث الذين انشغلوا أكثر بتكفير أهل الرأي وإثبات دينهم بالخبر المنقول دون المعقول، وقد كان من أكبر الفلاسفة المسيحيين العرب وقتها الذين هددوا فقهاء المسلمين بترجماته، هو المفكر النسطوري “حنين بن إسحاق”، بترجماته لعلوم الإغريق وإجادته لعلوم اللغة والطب، وكذلك المفكر النسطوري “عمار البصري” بكتابيه “البرهان” و”الأسئلة والأجوبة”.
إلى هنا وصلنا لعصر التدوين الذي بدأ في القرن الثالث الهجري بالبدء في تدوين وكتابة كل صنوف الفكر الإسلامي؛ خصوصًا المرويات الحديثية والتاريخية، والترجمات للرموز والشخصيات، ثم لاحقًا تفسير القرآن الذي ظهر مع الطبري، ثم لاحقًا علوم القرآن والناسخ والمنسوخ، والتي هي علوم ظهرت بالقرن الثالث الهجري في سياق الصراع مع المعتزلة، بهدف علاج وتأويل مشكلات النص القرآني، وتعارض بعض الآيات والأحاديث ظاهريا، وهذه العلوم بالذات هي نتيجة لقول الحنابلة وأهل الحديث بقِدَم النص، واكتشافهم لتناقضات بحاجة لتبرير وشروح، وفي دراستي المنشورة عام 2021 بعنوان “رحلة نقدية في تفاسير القرآن“، سقنا فيها الأدلة على حداثة كتب التفسير وعلوم القرآن، وظهورها في عصر متأخر.
البدء في تأليف كتب السياسة الشرعية
أما كتب “السياسة الشرعية”؛ فقد ظهرت بدءًا من القرن الخامس الهجري، والتي بحث فيها الفقهاء المسلمون عن تنظيم شؤون الحكم والإدارة والمجتمع وفقًا لأحكام الشريعة الإسلامية عند مذهب الحاكم، وتعتني هذه الكتب بتحديد واجبات الحاكم والمحكومين، وتنظيم العلاقة بينهما، ووضع الأسس الأخلاقية والقانونية للسلطة في الإسلام، -عند مذهب الحاكم- لأن الدافع وراء تأليف هذه الكتب والبدء في التصنيف في هذا الباب العلمي الجديد، هو رغبة وميول الحكام لترسيخ حكمهم دينيًا، وإقناع العامة والأمراء والمعارضين بشرعية الخليفة، وضرورة استقرار الحكم لصالح المسلمين؛ خصوصًا بعدما شهدت الفترات السابقة حروبًا أهلية كثيرة وفتنًا واغتيالات واضطرابات، خلقت حاجة ملحّة لإيجاد حملة إعلامية كبرى تعيد المجتمع للهدوء، وتجعله أكثر طاعة.
وقد ظهرت كتب السياسة الشرعية على مرحلتين:
الأولى: حقبة ما بعد الوثيقة القادرية للخليفة العباسي القادر بالله، وهي وثيقة كتبت عام 408 هـ، وفيها قانون سلطوي بتنظيم العقيدة وحظر المذاهب المخالفة للسنة والجماعة، والتي كان يجري فيها تفسير المذهب السني على نحو ما قاله أئمة الأشاعرة والماتريدية بالتنزيه، وتجريم التشبيه والتجسيم، وكذلك حظر مذاهب الشيعة والمعتزلة ومنع كتبهم.
وقد ظهرت خلال هذه الحقبة عدة كتب لمواكبة الميل السياسي الجديد للخلفاء العباسيين؛ منها كتاب “غياث الأمم في التياث الظلم”، لأبي المعالي الجويني (419-478هـ / 1028-1085م)، وكتاب “الأحكام السلطانية” لأبي الحسن الماوردي (364 – 450هـ / 974 – 1058م)، وكتاب “الأحكام السلطانية” لأبي يعلى الفراء الحنبلي (380 /458 هـ – 990 / 1066)، وفي هذه الكتب تم إقرار عدة مبادئ؛ أشهرها أن الإمامة (الخلافة) واجبة شرعًا لحماية الدين وإدارة شؤون الدنيا، وأنه يجب أن يكون الإمام من قريش، وتطبيق الحدود والعقوبات الشرعية المنصوص عليها في ظاهر القرآن والحديث، وأن السياسة لا تنفصل عن الدين، وأن الحاكم ملزم بتطبيق الشريعة، وأي حكم بالعادات أو القوانين الوضعية يُعدّ ظلمًا وخروجًا عن الدين.
الحقبة الثانية: هي ما بعد الحروب الصليبية، ونهاية كل الدول الشيعية التي نشأت خلال العصر العباسي الثاني، كالفاطمية والبويهية والحمدانية. وكان استقرار الحكم لصالح السنة منذ العصر الأيوبي (1174- 1250م)، قد أوجد ميلًا سلطويًا لتوحيد المسلمين والعرب تحت دستور واحد، وقوانين واحدة منظمة لعلاقة الحاكم والمحكوم، ولم تختلف مصنفات هذه الحقبة عن مضمون مصنفات الحقبة الأولى، سوى التوسع والشرح والخوض في التفاصيل، مثلما فعل ابن تيمية الحراني (661 – 728هـ) في كتابه السياسة الشرعية، وابن قيم الجوزية (691- 751هـ/ 1292- 1350م) في كتابه “الطرق الحكمية”، وتاج الدين السبكي (1327 – 1370م / 727هـ – 771هـ) في كتابه “معيد النعم ومبيد النقم”.
مواضيع ذات صلة
إلى هنا جرى تأسيس فكر سياسي إسلامي لأول مرة، بعدما كانت السياسة طوال أربعة قرون متصلة منذ وفاة الرسول تمارس دون منهج منضبط، برغم أن كتب السياسة الشرعية في هاتين المرحلتين لم يتم مناقشة السياسة فيها من جهة عقلية أو براجماتية، مثلما فعل ابن سينا مثلًا في كتابيه؛ السياسة والشفاء، والفارابي في المدينة الفاضلة، وابن خلدون في المقدمة، ولكن الميل العام للفقهاء كان مثاليًا؛ حيث لم ينحصر التناول السياسي الديني للفقهاء المسلمين آنذاك فقط بتلك الكتب؛ فانتشرت كتب الإرشاد والعظة والنصح للحكام من باب إبراء الذمة، مثلما فعل أبو حامد الغزالي المتوفى عام 505 هـ في كتابيه “إحياء علوم الدين” و”نصيحة الملوك”، والإمام الثعالبي المتوفى عام 429 هـ في كتابه “تحفة الوزراء”.
حتى هذه الكتب الوعظية طغى عليها الجانبان؛ الروائي القصصي، والمثالي؛ حيث الإكثار من العظات والإرشاد والقصص في ظل عدم مناقشة الوقائع السياسية والاجتماعية وعدم التطرق إليها، أخرج هذه الكتب بشكل مثالي فجّ، لا علاقة لها بالواقع المعيش، ولا بمصلحة الناس، أو قابلية كتب السياسة الشرعية بالعموم للتطبيق.
نتائج ومآلات
وقد أدى ظهور تلك الكتب في الفكر الإسلامي للإقرار بالآتي:
أولًا: الإمامة، أو السلطة ضرورة شرعية؛ حيث اتفق الجميع على وجود حاكم ضروري للحفاظ على وحدة الأمة وتطبيق الشريعة، لكن اختلفوا في التفاصيل؛ مثل اشتراط القرشية عند الماوردي، بينما لم يشترطها ابن تيمية، وهذه النتيجة ترتب عليها الربط بين الإمامة (الخلافة) والدين، وبالتالي وجود ارتباط شرطي (علمي) بين الخليفة والعقيدة، ومن تلك الزاوية حصل المسلمون على أول دولة دينية في تاريخهم بعد أربعة قرون من صراع القبائل العربية والإسلامية، وحصر تناول السياسة في قوة الأمراء، والفارق الذي حدث بظهور كتب السياسة الشرعية، أنه طوال أربعة قرون كان التكفير موجودًا، وبالخصوص تكفير المعارضين السياسيين، لكنه لم يكن ينبني على أساس علمي تحليلي، أو على قوة منهجية كالتي خرجت بها كتب السياسة الشرعية.
ثانيًا: الدين والسياسة شيء واحد، ولا انفصال بين الدين والدولة؛ فالشريعة هي المرجع الأساسي للحكم، والدولة هي أداة ووسيلة تلك الشريعة، ومن تلك الزاوية ترسخت الصورة المقدسة للحكام والأمراء، واعتبار ما يفعلونه ليس مجرد فعل بشري محكوم بالصواب والخطأ؛ بل له حكمة إلهية.
ثالثًا: وجوب الطاعة والنصيحة للحكام ما داموا يلتزمون بالشريعة، لكن إذا انحرف الحاكم فيجب نصحه أو مقاومته إذا لم يؤدِ ذلك إلى فتنة أكبر، ومن هنا ظهر مبدأ (طاعة الحاكم المتغلب)؛ فهذا المبدأ هو صنيعة كتب السياسة الشرعية بالأصل، أي أن تلك الطاعة لم يؤمَر بها المسلمون طوال أربعة قرون كأمر سياسي أو ديني مقدس، والذي حدث خلال هذا العصر وتلك القرون الأولى، أن ظهرت بعض المرويات التي تأمر بطاعة الحكام، لكنها لم تكن مقدسة أو شائعة، أو لها شعبية وانتشار، لكن عن طريق ترسيخ هذا المبدأ في كتب السياسة الشرعية، صار من موجبات العمل السياسي الإسلامي هو طاعة الحكام، وأنه لا يجوز الخروج عليهم ما داموا أقوياء.
رابعًا: اضطهاد الأقليات الدينية والطوائف الأخرى المنضوية تحت لواء دولة الشريعة، وبخس حقوقها الاجتماعية بفعل توالي الحكام وتفسيراتهم العنيفة للنصوص الشرعية، وقد أدى ذلك لمظالم كبيرة ضد الطائفة المسيحية؛ منها ختم رقابهم بعد دفع الجزية، ولباس خاص وأحزمة بألوان خاصة بغرض التمييز والإذلال والتحقير، وذكر ذلك العديد من الفقهاء والمؤرخين من باب الإجازة والفخر، كابن قدامة في الشرح الكبير (10/613)، وابن مفلح في المبدع في شرح المقنع (3/ 375)، وابن رشد القرطبي في البيان والتحصيل (9/ 323).
دور كتب السياسة الشرعية في تأصيل العنف والإرهاب
لم تمرّ نتائج ومآلات تلك الكتب مرور الكرام؛ فقد انتقدها وعارضها العديد من الفقهاء والمجتهدين والباحثين؛ فضلًا عن استنباط دورها البدهي في صناعة جماعات العنف الحديثة التي ظهرت منذ الستينيات في القرن 20م، ويكفي النظر إلى مآلات ونتائج تلك الكتب لاستبصار ورؤية المشترك الفكري بينها وبين جماعات العنف الديني، التي كانت وما زالت ترجع أدلتها ومصادرها العليا لتلك الكتب، بمعنى أنه لا كتاب لقادة وزعماء جماعات العنف الديني إلا وكان لها مصدر في الهوامش وبين السطور يعود لتلك الأعمال، أو يشير إليها باعتبارها إلهامًا منطقيًا وشرعيًا.
خرج الشيخ علي عبد الرازق بكتابه “الإسلام وأصول الحكم” عام 1925، وقد انتقد فيه دور مصنفات السياسة الشرعية في تأصيل فكرة الخلافة؛ حيث يرى “عبد الرازق” أن الإسلام دين روحي لا يفرض نظامًا سياسيًا محددًا، وأن ربط الدين بالسلطة -كما في كتب السياسة الشرعية- قد يؤدي إلى استبداد ديني ومظالم يقرها الدين ويبرأ منها التدين، علمًا بأن الكتاب أثار جدلًا واسعًا في أروقة الأزهر، باعتبار أن مؤلفه أزهري، ورأى فيه البعض دعوة لفصل الدين عن الدولة، وتبنيًا واضحًا للفكر العلماني، مما يناقض الفكرة التقليدية التي دافع عنها علماء السياسة الشرعية، وهي الدولة الدينية.
وقد أثار ذلك العديد من علماء الأزهر للرد على “عبد الرازق”؛ فخرج الشيخ محمد الخضر حسين بكتابه “نقض كتاب الإسلام وأصول الحكم“، دافع فيه عن كتب السياسة الشرعية، وأنها جزء لا يتجزأ من الإسلام، ومن تلك الزاوية يمكن استقراء دور هذه الكتب الهام في تأصيل العنف والتكفير؛ حيث لم تخل أحكام الخضر حسين على “عبد الرازق” من عبارات وإشارات تطعن في إيمانه، برغم أن هذه المصنفات بشرية، ومن الطبيعي نقدها دون التعرض للإيمان الشخصي.
وفي كتابه “الإرهاب: التشخيص والحلول” لعبد الله بن بيه عام (2007)، انتقد التأويلات المتطرفة المرتبطة بكتب السياسة الشرعية، ويرى أن سوء فهمها أو استغلالها من قبل جماعات متطرفة، ساهم في تعزيز العنف الديني، وقد دعا “بن بيه” إلى إصلاح ديني يعيد النظر في تلك المفاهيم التي خرجت بها تلك الأعمال، إضافة لكتابات المستشار محمد سعيد العشماوي، ومنها كتاب “الإسلام السياسي“، الذي ينتقد فكرة استخدام الدين كأداة سياسية، ويرى أن كتب السياسة الشرعية التقليدية، عندما تُفهم بمعزل عن سياقها التاريخي، قد تُستخدم لتبرير التطرف والرفض المطلق للحداثة.
ويقصد العشماوي أن السياق التاريخي لكتب السياسة الشرعية كان مخصوصًا بظروف الدولة العباسية بالقرن الخامس الهجري، ومن ذلك في تقديري:
أولًا: في المرحلة الأولى ظهرت في عصر استقرار سياسي للدولة المركزية العباسية في بغداد، وعدم وجود صراعات كبيرة بين الخليفة البغدادي وخصومه من ذوي الأديان الأخرى؛ فاتسمت هذه الكتب بالنزعة السلطوية، وعدم الاهتمام بتفسير العدالة، مما جعل كتب السياسة الشرعية مجرد ميثاق أو دستور ديني مفصل على مقاس الخليفة ورجال البلاط، بينما في مرحلتها الثانية اتسمت بالتأليف في عصر الحروب الصليبية والغزو المغولي، كأعمال ابن تيمية وابن قيم الجوزية، التي يمكن اعتبارها جزءًا من ظروفها التاريخية ووقائعها السياسية التي شهدت حروبًا مذهبية دينية؛ سواء أكانت بين المسلمين والمسيحيين، أو بين السنة والشيعة، لذلك لم تخل أحكام تلك الكتب من النظرة الطائفية الضيقة بشكل عام.
ثانيًا: عدم واقعيتها السياسة ومعاناتها من النظرة المثالية للدولة والحكم، وهذا بسبب تقيدها بظاهر النصوص وميول الفقهاء في هذا التوقيت لقبول المرويات، واعتبارها دينًا موازيًا للقرآن أو يفوقه مثلما أراد الحاكم الذي عزم على إرساء سلطته فلم يجد أفضل من المرويات؛ خصوصًا التي ظهرت في العصر الأموي لتبرير ملك بني أمية، والدفاع عن الخليفة واعتباره حارسًا للدين، وقد أثرت تلك الجزئية في عرف الجماعات الإرهابية المعاصرة؛ حيث اعتبرت الخليفة أو الأمير حارسًا للدين، وهو الموكل من الله بتطبيق شريعته، والاعتراض عليه يعني الكفر بالله والرسول.
ثالثًا: العزلة عن المحيط الاجتماعي والفكري والجغرافي، بسبب ميل السلطة العباسية آنذاك للانكفاء على النفس وعدم التوسع في الحروب والاختلاط؛ مثلما كان عليه المسلمون في العصرين الأموي والعباسي الأول، وقد أدت هذه العزلة لإهمال علوم الفلسفة والمنطق والفيزياء وكافة العلوم التجريبية، والتي بدأت في الظهور آنذاك في رحاب دول مستقلة عن خليفة بغداد مثل البويهيين والحمدانيين والفاطميين والسلاجقة، مما أدى لخلق سياق فكري تعمل فيه كتب السياسة الشرعية هو عبارة عن أمر ونهي مقدسيْن، لا مساحة للتفكر والاجتهاد في القرارات الصادرة من الخليفة، أو في الأحكام التي تناولها فقهاء السياسة الشرعية على أنها أحكام إلهية مطلقة خاصة بكل زمان ومكان.
إحياء فكر الخوارج
بدراستنا عن الخوارج المنشورة على مواطن، قلنا إن هذه الجماعات المنتسبة إليهم وبرغم خلافاتهم المتنوعة، اتفقوا على تكفير من لا يحكم بالشريعة، مستندين على قوله تعالى: “إنِ الحُكْمُ إلا لله“، وهي المقولة التي جددتها كتب السياسة الشرعية باختصار عقائدي يقول بأن الدول التي لا تحكم بالشريعة هي (ديار حرب) أو ديار كفر، وهي الفكرة التي ألهمت مفكري الإخوان بالقرن العشرين، كأبي الأعلى المودودي وسيد قطب وأبي الحسن الندوي للقول بالحاكمية.
الحاكمية تتصادم مع مفاهيم حديثة مثل حقوق الإنسان والمساواة بين المواطنين، وهي مفاهيم لم تكن مطروحة في القرون الوسطى التي ظهرت فيها كتب السياسة الشرعية
وفكرة الحاكمية هي مفهوم ديني ابتكره الإخوان المسلمون، يشير إلى أن السيادة أو السلطة العليا في الحكم تعود إلى الله وحده، وأن البشر مكلفون بتطبيق شرعه وأحكامه في الحياة السياسية والاجتماعية والقانونية، بمعنى آخر؛ تعني الحاكمية أن القوانين والتشريعات يجب أن تستمد من الشريعة الإسلامية، والتي تعني لديها (ظاهر القرآن والحديث)، وليس من إرادة البشر المستقلة عن الوحي الإلهي، وقد صرح “قطب” بهذا المفهوم صراحة في عدة كتب أشهرها “معالم في الطريق”؛ حيث ربط الحاكمية بمعارضة الأنظمة العلمانية التي يراها تُعطي السيادة للبشر بدلًا من الله، واعتبر ذلك خروجًا عن الإسلام، أي أن الأنظمة العلمانية كافرة ما دامت لا تطبق الشريعة، والتي هي مستمدة من فكرة الحاكمية، والتي بدورها مستمدة من كتب السياسة الشرعية.
أبو الأعلى المودودي (1903- 1979) هو من صاغ مصطلح “الحاكمية” بشكل منهجي في القرن العشرين، وذلك في كتابه “الخلافة والملك” وغيره؛ حيث رأى أن الديمقراطيات الغربية تعطي السيادة للشعب (Sovereignty of the People)، وهو ما اعتبره تناقضًا مع الإسلام الذي يجعل السيادة لله وحده، وهي نفس فكرة الخوارج التي أحيتها كتب السياسة الشرعية، وهي بالنسبة له -أي الحاكمية- تعني أن الدولة الإسلامية يجب أن تكون “ثيوقراطية”، بمعنى أنها تخضع للشريعة بالكامل، علمًا بأن مصطلح الشريعة ليس واضحًا، ويتضمن نصوصًا وفتاوى واجتهادات متنوعة للغاية ومتعارضة، تصل أحيانًا لحد العداء المتبادل، مثلما هو معروف بين شريعتي السنة والشيعة، وشرائع الجماعات والمذاهب المختلفة التي تتباين وتختلف بشدة.
أبجد هوز حطي كلمن سعفص قرشت ثخذ ضظغ
أما سيد قطب (1906- 1966)؛ فقد أخذ الفكرة إلى مستوى أكثر جذرية وتفصيلًا، وقام بشرح المصطلح في كتابه “معالم في الطريق“؛ حيث قسم العالم إلى “دار إسلام” (تُطبق الحاكمية)، و”دار جاهلية” (حيث يحكم البشر بقوانين وضعية)، واعتبر قطب أن الأنظمة العلمانية حتى في الدول الإسلامية، نوعًا من الردة، كونها تنازع الله حقه في التشريع، مما أنتج موجات من التكفير والعنف الديني منذ ستينيات القرن العشرين إلى اليوم، علمًا بأن هذا التفسير جعل الحاكمية أداة سياسية لمعارضة الأنظمة العربية القائمة، وحرص على وصف تلك الأنظمة بمفردات تعني الكفر صراحة أو ضمنيًا وإشارة؛ مثل الأنظمة الكافرة أو الزنادقة أو الطاغية أو الفاسقة.
إنما الذي لم ينتبه له فقهاء الجماعات ومنظّرو الإسلام السياسي، أن هذه الأفكار المرتبطة بالحاكمية مثالية أكثر منها واقعية، وهي مثالية من النوع القاصر فلسفيًا؛ حيث تتسم بما يلي:
أولاً: لم تناقش جدلية العلاقة بين الدين والدولة؛ حيث النظرة المثالية للحاكمية التي أنتجت جماعات العنف، لم تناقش تشريعات أرضية وضعية من فقهاء الإسلاميين أنفسهم، حدثت بالتجربة في الدول التي طبقت الشريعة؛ خصوصًا في تجارب مثل السعودية وإيران وأفغانستان والسودان والصومال؛ فالدساتير هناك والقوانين نسبة كبيرة منها وتكاد تكون الأغلبية، هي اجتهادات فقهية لا تستند إلى نصوص شرعية واضحة وصريحة، أو التي وصفت بأدبيات الفقهاء بقطعية الثبوت وقطعية الدلالة، ومصدر تلك الاجتهادات هي مؤلفات السياسة الشرعية قديمًا وحديثًا مثلما تقدم، مما يعطي لمحة عن طبيعة فكر وهوية الجماعات، وأنها تنكر على الآخرين لجوءهم للقانون البشري، بينما في تجاربها السياسية تلجأ للتفسيرات والقوانين البشرية بدعوى أنها تستند على نصوص السياسة الشرعية للفقهاء، بدعوى أنها نصوص دينية وليست بشرية.
ثانيًا: لم تناقش مفهوم السيادة فلسفيًا وعقليًا، واكتفت بتفسير السيادة على أنها السلطة العليا لله فقط دون طرح الأسئلة المفتوحة؛ مثل كون السيادة لله؛ فمن يفسر إرادته؟ الحاكم؟ العلماء؟ الشعب؟ جعل هذا الغموض الحاكمية عرضة للتأويلات المتباينة، وسلاحًا في أيدي الحكام والأمراء والأعيان، وبالتالي أصبحت سلاحًا في أيدي الأقوياء في السلطة والمعارضة، وهذا تفسير للاحتراب الأهلي وعدم الاستقرار الذي حدث في الشرق الأوسط منذ ظهور تلك الجماعات إلى اليوم؛ فكل من يحمل السلاح ويقدر على الحرب يمكنه استخدام سلاح الدين وتفسيرات الحاكمية المختلفة لصالحه، وجوهر ذلك الخلاف أن علماء السياسة الشرعية منذ البداية لم يفسروا إرادة الله في الحكم، سوف تقع على عاتق من بالضبط؟ ومن الموكل بتنفيذ شريعته؟ وماذا لو تبين أن الحكم الذي يوصف بالإسلامي هو ليس كذلك؟
ثالثًا: عدم واقعية فكرة الحاكمية للعصر الحديث، ومن ذلك ما طرحه المستشار سعيد العشماوي، بأن الدولة الحديثة تتطلب قوانين معقدة، (مثل قوانين المرور أو الضرائب والفنون والاقتصاد والصناعة والبورصة.. وغيرها)، تلك الأمور لا يمكن استنباطها مباشرة من النصوص الدينية، مما يعني أن التشريع البشري لا مفر منه، وبالتالي أصبح المسلمون بين نارين؛ إما الحاكمية وإهمال تلك القوانين وسقوط دولتهم ومجتمعهم، وعدم القدرة على حل مشكلاتهم، أو اللجوء للتشريع البشري في تناولها، وبالتالي تصبح الدولة ديار حرب وفقًا لمصطلح الجماعات الذي صاغه فقهاء السياسة الشرعية منذ البداية.
رابعًا: الحاكمية تتصادم مع مفاهيم حديثة مثل حقوق الإنسان الفردية، والمساواة بين المواطنين بغض النظر عن الدين أو الجنس، وهي قضايا لم تكن مطروحة في القرون الوسطى حيث ظهرت كتب السياسة الشرعية، ويفسر هذا عجز الجماعات عن تناول تلك المفاهيم أو احتوائها ضمن منظومة الحكم ودولة الشريعة المفترضة، وكافة أعمالهم في تفسير تلك المفاهيم لا تتعدى الجانب المثالي والتعميمي؛ مثل أن الإسلام يؤمن بحقوق الإنسان والحريات، دون مناقشة كيف يحدث ذلك في ظل وجود نصوص صريحة يستند إليها الفقهاء لمنعها؛ بل اتهام من يؤمن بها بالانحلال والإلحاد والكفر.
- صورة الغلاف مخلّقة بالذكاء الاصطناعي
- الآراء الواردة في هذا المقال تُعبّر عن رأي الكاتب ولا تعكس بالضرورة مواقف وآراء “مواطن”.