في نهاية العقد الرابع من القرن التاسع عشر، تحركت قوات والي مصر في العهد العثماني، محمد علي باشا (1805 – 1848)، والتي كانت ترابط في قلب شبه الجزيرة العربية صوب ساحل الخليج، بهدف السيطرة على الإمارات والمشيخات العربية، واستجابةً لطموح الباشا في تأسيس دولة تحكمها سلالته، استولت على الأحساء، وكسبت ولاء عدد من المشيخات.
لكن خطة والي مصر لم تكتمل، على خلفية تطور أزمته مع السلطان العثماني وحلفائه الأوروبيين، والتي انتهت بهزيمة الجيش المصري في الشام، وتوقيع معاهدة لندن عام 1840، والتي حجّمت نفوذ الباشا وقضت على طموحاته للتوسع في الشام والحجاز.
عرف توسع محمد علي في الخليج العربي مرحلتين؛ الأولى من عام 1811 حتى 1819 استجابةً لأوامر السلطان، بهدف القضاء على الدولة السعودية الأولى في الدرعية، والثانية من عام 1833 حتى 1838، بهدف توسيع نفوذ دولته في شبه الجزيرة العربية. فما هي قصة توسع جيش محمد علي باشا في الخليج العربي؟ وكيف تفاعلت الإمارات العربية على ساحل الخليج مع التواجد المصري؟ وكيف كان موقف بريطانيا؟
القتال في سبيل دولة السلطان
يذهب الأستاذ المصري في التاريخ الحديث والمعاصر، أشرف مؤنس، إلى أنّ الدولة العثمانية سعت لاصطياد عصفورين بحجر واحد، بعد تكليف محمد علي باشا بقمع الحركة الوهابية في نجد؛ فإذا انتصر أزال تهديدًا؛ خاصة بعد ظهور فكرة مفادها أن عرب شبه الجزيرة العربية أحق بالخلافة من الأتراك لاعتبارات دينية. متابعًا لـ”مواطن” أنّه إذا هُزم كان سيسهل على السلطان التخلص منه، كونه وُلي حكم مصر على غير رغبته، وكانت له أهداف استقلالية توسعية.
كان لوصول قوات محمد علي إلى شبه الجزيرة العربية، والتوسع نحو ساحل الخليج أثره على السياسة البريطانية، التي كانت معنية بالملاحة وترتيب العلاقات في الخليج، فسارعت إلى تعزيز تواجدها في المنطقة.
لم تعارض بريطانيا، والتي كان لها حضورٌ كبيرٌ في منطقة الخليج وبحر العرب والمحيط الهندي والهند، وصول قوات “محمد علي” إلى ساحل الخليج العربي في المرحلة الأولى، وسُجلت محاولات للتعاون معه وفق كتاب “سياسة مصر في البحر الأحمر، في النصف الأول من القرن التاسع عشر”، لطارق عبد العاطي غنيم. ذكر الأخير أنّ النفوذ البريطاني لم يكن قد دُعم بعد في هذه المنطقة، كما أن هدف توسع قوات الباشا كان مقتصرًا على تأمين العمليات العسكرية في نجد.
بعد أن سقطت الدرعية سبتمبر/ أيلول 1818، تقدم إبراهيم باشا نجل محمد علي بقواته إلى منطقة الأحساء؛ ما أثار قلق بريطانيا؛ فأرسلت الكولونيل “سادلير” إلى الحجاز لمقابلة إبراهيم باشا، وعرض عليه التعاون مع حكومة الهند البريطانية ضد قبائل القواسم الذين يهددون السفن البريطانية. باءت جهود “سادلير” بالفشل بعدما أرسلت الدولة العثمانية إلى والي مصر تحذره من الانخداع بحيل البريطانيين، لذا رفض إبراهيم باشا الطلب البريطاني، وأبلغ سادلير أنه “لا يعترف بحقوق الحكومة البريطانية في بلد قد أخضعه لمصلحة الإمبراطورية العثمانية”، وفق المرجع السابق.

كان لوصول قوات محمد علي إلى شبه الجزيرة العربية والتوسع نحو ساحل الخليج أثره على السياسة البريطانية، التي كانت معنية بالملاحة وترتيب العلاقات في الخليج؛ فسارعت إلى تعزيز تواجدها في المنطقة، وقامت بعقد معاهدة السلام العامة مع شيوخ عرب الساحل، عام 1820، وذلك بعد أن قوضت حكم القواسم في رأس الخيمة، بعد تجريد حملة بحرية عسكرية ضدهم. وافق حكام الساحل بموجب المعاهدة على وقف الأعمال العدوانية في البحر نهائيًّا، وحظر بناء السفن الكبيرة، ومنع تشييد التحصينات عبر الساحل إضافة إلى إنهاء تجارة العبيد. منحت بنود تلك المعاهدة البريطانيين الحق في ضبط الأمن في بحار أسفل الخليج، واعتُبرت نقطة تحوّل للمصالح البريطانية في المنطقة.
دولة الباشا العربية
بدوره، اكتفى محمد علي بسيادته الاسمية على نجد ومناطق في شرق شبه الجزيرة العربية، حتى عام 1833، الذي شهد بداية التوسع المصري في ساحل الخليج، لتحقيق أهداف الباشا الخاصة بعد أن انقلب على السلطان العثماني محمود الثاني، واستولت قواته على الشام بداية من عام 1831. يذكر “غنيم” في كتابه، أنّه بعد توقيع صلح “كوتاهية” بين الوالي والسلطان العثماني عام 1833، انسحب قسم كبير من قوات محمد علي من آسيا الصغرى؛ ففكر الوالي في ضم ساحل الخليج العربي لتكوين إمبراطوريته الخاصة، من مناطق مصر وشبه الجزيرة العربية والشام والساحل الأفريقي للبحر الأحمر.
تُرجمت هذه التطلعات بتحرك قوات الوالي من نجد صوب ساحل الخليج بقيادة خورشيد باشا، ونجحت إلى حد كبير في إخضاع الكثير من القبائل العربية ثم استولت على الأحساء، وعند مصب شطّ العرب كان مُقدرًا أن تلتقي هذه القوات بأسطول محمد علي، الذي كان قد أبحر من البحر الأحمر. أراد خورشيد باشا اتخاذ القطيف مركزًا للاتصال بإمارات الخليج العربي، لكنه أدرك عدم صلاحية مينائها للملاحة؛ فاتجه نحو البحرين ووقع اتفاقًا مع شيخها عبد الله بن أحمد آل خليفة، تعهد الأخير بمقتضاه أن يدفع الزكاة لمحمد علي، معترفًا بسيادته الاسمية.
كما نسج خورشيد باشا علاقات طيبة مع الشيخ جابر الصباح حاكم الكويت، والذي أبدى استعداده للتعاون معه، وقامت سفينة كويتية بنقل شحنة من الذخيرة والعتاد من ميناء الحديدة في اليمن إلى القطيف، ووافق على استقبال ضابط لرعاية مصالح المصريين، وفق كتاب “غنيم”.
يقول “مؤنس”: “إن بعض إمارات ومشيخات الخليج رغبت في التخلص من نفوذ بريطانيا، التي ارتبطت معها باتفاقيات “مانعة”؛ أي تمنعها من عقد معاهدات مع أطراف دولية أخرى، وبالتالي كانت بريطانيا تهيمن على مشايخ الخليج الذين لم يجدوا مفرًا من الانصياع لها”. ويضيف أنّ بعض شيوخ الساحل رأوا في جيش محمد علي قوة إسلامية عربية، قد يستعينون بها في مواجهة القوات البريطانية إذا لزم الأمر؛ لا سيما أن هذه الفترة شهدت جهادًا إسلاميًا في البحر المتوسط ضد قوات أوروبية كانت تهدد شمال أفريقيا، ومن ثم كان ذلك سياقًا عامًا سائدًا آنذاك.
من جانبه، يذكر الأستاذ في التاريخ الحديث والمعاصر، حمادة ناجي، أنّ بعض شيوخ إمارات ساحل الخليج العربي، ومنهم الشيخ عبدالله بن أحمد آل خليفة حاكم البحرين، أرسلوا إلى المقيم العام البريطاني في الخليج “الكولونيل هنل”، يعربون له عن تخوفهم من تزايد نفوذ محمد علي في المنطقة ويطلبون منه المساندة. يقول لـ”مواطن”: “إنّ بريطانيا لم تتدخل لأنها كانت منشغلة بصراعها مع الفرس، وخشيت من حدوث أزمة دولية باعتبار أن تدخلها يكشف عن تطلعات استعمارية في المنطقة، ثم تدخلت في وقت لاحق عندما شعرت بالخطر المصري، وتحديدًا حينما ظهرت نوايا محمد علي في السيطرة على ميناء البصرة في العراق”.
الصدام مع النفوذ البريطاني
بحسب “ناجي”، هادن حاكم البحرين خورشيد باشا بالاتفاق معه، أملًا في كسب مساندته ضد حكام عُمان الذين كانوا يتطلعون للسيطرة على البحرين، ولم تقبل بريطانيا بالاتفاق وسعت لاستبدال الشيخ عبد الله. بدوره يلفت “مؤنس” إلى أنّ شيوخ إمارات الساحل كانوا حذرين في الانضمام لمحمد علي؛ لعلمهم بطبيعة النفوذ والمصالح البريطانية في المنطقة، وكان انحيازهم لصالح محمد علي خشية حدوث تنسيق بينه وبريطانيا، رغم أن هذا الأمر كان مستبعدًا.
إجمالًا؛ كانت بريطانيا في المرحلة الأولى حريصة على الاستفادة من نجاح قوات محمد على في قمع النشاط البحرى للقواسم، إلا أنّ موقفها تبدل فى المرحلة الثانية، وذلك بعد أن تمكنت من توقيع معاهدات صلح مع شيوخ الساحل العماني وقضت على خطر القواسم. كما تمكنت من منع حملة مصرية كانت تستهدف عُمان، وحصلت على تعهدات من شيوخ أبوظبي ودبي وعجمان والشارقة وأم القيوين بعدم مساعدة خورشيد باشا.
أيضًا، عززت بريطانيا نفوذها في جنوب العراق بدايةً من عام 1838، واحتلت جزيرة “الخرج” بالقرب من مصب شطّ العرب؛ خاصة بعد التقارير التي كشفت عن تدهور الأوضاع في البصرة وبغداد، وفرار بعض القوات العثمانية في البصرة والتحاقها بقوات خورشيد باشا في الأحساء، وذلك فقًا لما ذكره محمد حسن العيدروس في كتابه “تاريخ الخليج العربي الحديث والمعاصر”.

يعتقد “العيدروس”، أن بريطانيا رأت في محمد علي منافسًا خطيرًا على وجودها في الخليج العربي؛ إذ كانت سياسته تعمل في اتجاه معاكس لسياستها؛ فبينما كانت تكرس الفرقة بين إمارات المنطقة وتحولها إلى كيانات صغيرة مستقلة اسميًا تحت نفوذها، كان محمد علي يرمي لتوحيد هذه الإمارات في كيان واحد ضمن دولة الوحدة التي كان يتطلع إلى تأسيسها.
وعلى الرغم من التقدم الكبير الذي أحرزته قوات محمد علي باشا في سواحل الخليج العربي، إلا أنها اضطرت للانسحاب لأسباب عدّدها جمال زكريا قاسم في كتابه “الخليج العربي.. دراسة لتاريخ الإمارات العربية في عصر التوسع الأوربي الأول”، منها الأوضاع المتأزمة في نجد، واغتيال محمد رفعت مندوب خورشيد باشا في البحرين، وعدم القدرة على إرسال مزيد من القوات إلى الأحساء، بسبب قطع الطريق على السفن المصرية، بعد احتلال الإنجليز لميناء عدن عام 1839.
كانت بريطانيا في المرحلة الأولى حريصة على الاستفادة من نجاح قوات محمد على في قمع النشاط البحرى للقواسم، إلا أنّ موقفها تبدل فى المرحلة الثانية، وذلك بعد أن تمكنت من توقيع معاهدات صلح مع شيوخ الساحل العماني، وقضت على خطر القواسم.
اضطرت هذه العوامل “محمد علي” إلى سحب قواته من الخليج والجزيرة العربية قبل أن تُجبر مصر على الانسحاب من المناطق التي توسعت فيها، بمقتضى اتفاقية لندن 1840، والفرمانات الصادرة على أساسها، والتي وضعت نهاية لمخططات الباشا التوسعية وتطلعاته في تأسيس إمبراطورية عربية، تمتد من النيل إلى الفرات وتحكمها سلالته، وذلك بعد هزيمة الجيش المصري في الشام على يد بريطانيا والنمسا والدولة العثمانية.
فراغ محلي ونفوذ بريطاني
خلق انسحاب القوات المصرية من شبه الجزيرة العربية فراغًا كبيرًا، لم تتمكن الدولتان الإسلاميتان الكبيرتان؛ فارس والدولة العثمانية من ملئه. يقول “قاسم”: “إنّه على الرغم من تلقي “فارس” تأييدًا من روسيا لمناوأة النفوذ البريطانى فى الخليج، إلا أن إخفاقها في السيطرة على “هيرات”، وهي منطقة جبلية صغيرة تقع على الحدود الهندية الأفغانية، ثم استيلاء الإنجليز عام 1838 على جزيرة “الخرج”، وبقاء الاحتلال البريطاني في تلك الجزيرة حتى عام 1842، تسبب في إبعاد “فارس” عن أن يكون لها دور ملموس في وراثة التوسع المصري في منطقة الخليج.
ويردف بأنّ الدولة العثمانية كانت منشغلة بمشاكلها الداخلية والخارجية، كما كانت الإمارات العربية في الخليج قد وصلت إلى درجة كبيرة من الضعف والتفكك؛ حيث لم تستطع أن تسد جانبًا من هذا الفراغ. ولم تعد هناك قوة محلية يُعتد بها سوى القوة السعودية، التي أتيحت لها فرصة الاستفادة من الأوضاع السياسية التي أعقبت انسحاب القوات المصرية من الخليج العربي، وقد ظهرت تلك القوة إثر انبعاث الدولة السعودية الثانية، بعد أن وضع السعوديون نهاية لحكم الأمير خالد بن سعود، والذي اعتُبر صنيعة للمصريين، وفق “قاسم”.
ويذكر أنّ بريطانيا قمعت توسع الدولة السعودية الثانية إلى سواحل الخليج، وحالت دون امتدادها إلى الإمارات العربية المرتبطة بمعاهدات وعلاقات خاصة معها، كما عملت في الوقت نفسه على تأكيد نفوذها السياسي في منطقة الخليج العربي، بصورة أقوى مما كانت عليه في النصف الأول من القرن التاسع عشر.