برزت ثلاث عواصم خليجية خلال الأزمة الأوكرانية عبر جهود الوساطة المتباينة، والتي تقوم بها كل عاصمة على حدة؛ فبينما اهتمت أبوظبي بصفقات تبادل الأسرى بين طرفي الصراع، اهتمت الدوحة بلمّ شمل الأطفال من ضحايا الحرب مع ذويهم، فيما ركّزت الرياض جهودها لتحقيق السلام بين طرفي الصراع.
نجحت العواصم الثلاث -وبشكل خاص الرياض- في المناورة بين طرفي الأزمة، من خلال موازنة علاقاتها ومواقفها بين روسيا من جانب، وأوكرانيا وحلفائها الغربيين من جانب آخر، وهي السياسة التي لم تنل رضى الدول الغربية، وتحديدًا الولايات المتحدة في عهد الرئيس السابق جو بايدن.
فكيف ينظر أطراف الصراع للعواصم الثلاث؟ وهل تنجح الرياض في تحقيق حلّ جدّي ينهي الحرب التي دخلت عامها الرابع؟
ترامب ونفوذ خليجي أكبر
توصلت الولايات المتحدة إلى اتفاق بين روسيا وأوكرانيا في 25 مارس/ آذار يقضي بإيقاف الأعمال العدوانية التي تستهدف الملاحة في البحر الأسود، بعد لقاءات عقدتها لجان فنية أمريكية مع طرفي الصراع في المملكة. يُحسب الاتفاق لصالح جهود المملكة التي تعتبر الأكثر انخراطًا كمسهل للقاءات تسوية الأزمة الأوكرانية خلال الأشهر الأخيرة، لكن لا يزال مستقبل الاتفاق مجهولًا في ظل تبادل الاتهامات بين طرفي النزاع واختلافهما حول بنوده؛ حيث تربط موسكو التنفيذ برفع بعض العقوبات المالية، بينما أنكرت كييف ذلك.
منح فوز دونالد ترامب بولاية رئاسية ثانية دفعة كبيرة للمملكة، للقيام بدور الوسيط في تسوية الخلافات الأمريكية الروسية، واستضافة المحادثات لإنهاء الحرب في أوكرانيا. كانت البداية مع لقاء الرياض بين وفدي الولايات المتحدة وروسيا بقيادة وزيري خارجية البلدين في فبراير/ شباط الماضي، والذي نُوقشت فيه الخلافات بينهما تمهيدًا للقمة المرتقبة بين رئيسي البلدين، والتي من المتوقع أنّ تستضيفها العاصمة الرياض، وفق تصريحات ترامب.
تعكس هذه الخطوة، -وفق بعض المراقبين- الدور المتنامي للمملكة في تعزيز السلام والاستقرار الدوليين، وما تتمتع به من علاقات قوية مع كل من القوتين العظميين. بينما يرى آخرون أن التقبل الأمريكي الأخير لهذا الدور مشروط بأبعاد اقتصادية؛ ففي مارس /آذار الحالي، أعلن ترامب عن نيته زيارة المملكة بعد موافقة الرياض على استثمار تريليون دولار في الاقتصاد الأمريكي؛ ما يشي بربط التعاون الدبلوماسي مع المملكة بالاستثمار.
ليس بعيدًا عن هذا اختيار واشنطن مدينة جدة لعقد لقاء مع وفد أوكراني، لبحث الخلافات التي نشبت بين الطرفين بعد الأزمة التي نتجت عن لقاء ترامب ونظيره الأوكراني، فولوديمير زيلينسكي في البيت الأبيض. خرج اللقاء بتوافق البلدين على قبول أوكرانيا بمقترح ترامب بوقف إطلاق النار لمدة شهر، ورفع تعليق المساعدات الأمريكية الأمنية وتبادل المعلومات الاستخباراتية، وتعزيز جهود الاستجابة للأزمة الإنسانية في أوكرانيا، وتسمية الطرفين لفرق التفاوض بهدف الوصول لسلام دائم، وأخيرًا التوافق على إبرام اتفاقية شاملة لتطوير الموارد المعدنية الحيوية في أوكرانيا.
يذهب الباحث في العلاقات الدولية أحمد دهشان، في حديثه لـ”مواطن”، إلى أنّ روسيا تمكنت من الصمود في وجه العقوبات الغربية الجماعية غير المسبوقة في التاريخ، بفضل التزام المملكة باتفاق تحالف “أوبك بلس” حول إنتاج النفط؛ حيث عرضها لضغوط أمريكية كبيرة في عهد بايدن. منوهًا إلى أنّ هذا الموقف مُقدر من بوتين، ومنح ولي العهد محمد بن سلمان قدرة في التأثير عليه، وبناءً عليه فلدى المملكة كلمة مسموعة لدى بوتين.
يوفر العهد الرئاسي الثاني لترامب فرصًا كبيرةً أمام دول خليجية؛ خاصة المملكة، للاضطلاع بدور أكبر في جهود احتواء الأزمة الأوكرانية؛ حيث تتلاقى المصالح مع ترامب في هذا الصدد، كما أنّ نهجه المؤيد لروسيا، يوفر مظلة حماية للإمارات والمملكة في تقاربهما مع موسكو.
فيما يتعلق بترامب، يرى “دهشان” أنّ الأول تربطه علاقة جيدة مع “بن سلمان”؛ فهو رجل يؤمن بنهج العلاقات الشخصية أكثر من المؤسساتية، ويعول على تدفق الاستثمارات السعودية إلى الداخل الأمريكي، ولهذا فالمملكة منصة مناسبة لاستضافة التفاوض حول الأزمة الأوكرانية؛ خاصة أنّها وفرت في لقاء جدة الأول منصة للقوى الغربية للحديث عن رؤيتها حول السلام، كما أنّها رفضت إدانة روسيا في مخرجات القمة الخليجية الأوروبية.
حدود وساطة المملكة
بحسب الباحث السعودي في الشؤون الاستراتيجية والأمنية، فواز كاسب العنزي؛ فقد نجحت المملكة في ترسيخ دورها الريادي في فض النزاعات إقليميًا ودوليًا، مستندة إلى سياستها القائمة على الحياد الإيجابي، والدبلوماسية الفاعلة، ودورها المحوري كقوة إقليمية ذات ثقل سياسي واقتصادي. يضيف “كاسب” لـ”مواطن”: أنّ جهود المملكة تعبر عن نهج ثابت يهدف إلى دعم السلام العالمي، وتخفيف حدة التوترات الدولية، وتقديم حلول سياسية مستدامة مبنية على التوافق والحوار، وهو ما يعزز مكانة المملكة كدولة قائدة في صناعة الحلول الدبلوماسية، ومؤثرة في القرارات الدولية.
بدوره يرى دهشان أنّ المملكة، وإن بدت أنها بعيدة عن الصراع جغرافيًا وثقافيًا وسياسيًا وجيوسياسيًا؛ فهي قريبة منه كونه يؤثر على أسواق الطاقة، موضحًا أنّه ليس من مصلحة المملكة أنّ يكون هناك صراع بين الولايات المتحدة والغرب من جانب، وبين روسيا من جانب آخر؛ فالأخيرة منتج رئيس للنفط، ولهذا فهي في حاجة للتنسيق معها، بينما يجلب استمرار الصراع ضغوطًا على المملكة التي لا يمكنها خسارة الروس أو حلفائها الغربيين.
تنفرد الرياض بجهود الوساطة الهادفة لإنهاء الحرب، إلا أنّها تستفيد من جهود الإمارات وقطر ودول مجلس التعاون الخليجي بشكل عام في تعزيز مكانتها كوسيط؛ خاصة في تنسيق سياسات “أوبك بلس” بشأن إنتاج النفط، ومواجهة الضغوط الغربية. برزت المملكة والإمارات كقوتين رئيستين في تحالف أوبك بلس؛ حيث حافظتا على سياسة متوازنة لضبط الإنتاج، على الرغم من الضغوط الأمريكية لزيادة الإنتاج لتعويض النقص الناتج عن العقوبات المفروضة على موسكو.
تكشف بيانات اتجاه تصويت الدول الأعضاء في مجلس التعاون الخليجي في الجمعية العامة للأمم المتحدة، عن شبه توافق في الرؤى تجاه العدوان الروسي على أوكرانيا، ولم تختلف المواقف سوى مرة واحدة، حين صوتت دولتا قطر والكويت بالإيجاب على قرار بشأن “تعزيز الإنصاف والتعويض عن العدوان ضد أوكرانيا”. بخلاف ذلك، صوتت دول المجلس الست بالإيجاب على القرارات المؤيدة لضمان سلامة ووحدة أراضي أوكرانيا وإدانة العدوان الروسي، وغابت عن قرارات أخرى كانت أشد في إدانتها وتحميلها المسؤولية لروسيا.
الخليج والتوازن الصعب
من جانبه، يعتقد الكاتب والإعلامي السعودي خالد مجرشي، أنّ الأزمة الروسية الأوكرانية شهدت تفاعلًا دبلوماسيًا خليجيًا لافتًا؛ حيث أثبتت دول الخليج، وعلى رأسها المملكة والإمارات، قدرتها على لعب دور الوسيط الفاعل والمتوازن بين القوى الكبرى، وهو ما يعكس مكانتها المتنامية في السياسة الدولية.
ويقول لـ”مواطن”: “نجحت الرياض وأبو ظبي في تحقيق اختراقات ملموسة، أبرزها الوساطة في تبادل الأسرى بين موسكو وكييف، وهو إنجاز لم تستطع تحقيقه حتى بعض الدول الأوروبية المنخرطة بشكل مباشر في النزاع”. ويشير “مجرشي” إلى أن المملكة، بقيادة الأمير محمد بن سلمان، رسخت سياستها الخارجية القائمة على التوازن والحياد الإيجابي؛ ما مكّنها من بناء علاقات قوية مع كل من روسيا والولايات المتحدة دون الانحياز لطرف على حساب الآخر.
تميزت الإمارات في ملف تبادل سجناء الحرب، وتمكنت من رعاية عدة وساطات أدت للإفراج عن 3691 سجين حرب من الطرفين على الأقل، كما رعت قطر مفاوضات لمّ شمل الأطفال في مناطق النزاع، وتمكنت من إعادة 17 طفلًا روسيًا، و95 أوكرانيًا إلى ذويهم، وتقوم بتقديم دعم إنساني ونفسي لعشرات الأطفال وأسرهم في الدوحة.
في السياق ذاته، يقول الكاتب والباحث الكويتي خالد الزيد لـ”مواطن”: “إن الدبلوماسية الخليجية وخاصة الكويتية، نجحت في فرض نفسها دوليًا من خلال موقفها المتوازن تجاه الأزمة الأوكرانية حيث لعبت دور الوسيط، وقدمت مساعدات إنسانية وأكدت التزامها بالقانون الدولي. ويؤكد أن الدبلوماسية الخليجية قد عززت مكانتها الدولية من خلال جهود الوساطة للإفراج عن الأسرى وتقريب وجهات النظر بين روسيا وأوكرانيا، وكذلك بين روسيا والولايات المتحدة.
مواضيع ذات صلة
وفي هذا السياق، يشرح العنزي أن تنامي دور المملكة في المشهد السياسي الدولي، يتماشى مع “نظرية الدور” التي تفسر كيفية إعادة تشكيل مكانة الدولة بناءً على سلوكها الفاعل في النظام الدولي، لافتًا إلى أنّ المملكة تعتمد القوة الناعمة لتعزيز التقارب بين الأطراف المتنازعة، وتوظف الدبلوماسية الوقائية لمنع تفاقم الأزمات، مما يجعلها وسيطًا ذا مصداقية في النزاعات الدولية.
رؤية أطراف الأزمة للدور الخليجي
يرى “دهشان” أنّ روسيا نظرت الى الدور السعودي، والخليجي عمومًا كدور إيجابي للغاية؛ فقطر لم تخرق التفاهم بينهما كأكبر منتج للغاز الطبيعي في العالم، والذي يقوم على عدم تعدي أي طرف على أسواق الآخر، ولذلك حين طلبت ألمانيا ودول أوروبية من قطر صفقات غاز طبيعي لتعويض نقص الواردات الروسية، لم ترفض، لكنها وضعت شروطًا تعجيزيةً مثل توقيع عقود طويلة الأمد، وهو ما لم يناسب هذه الدول، نظرًا لخططها نحو التحول الأخضر وأجنداتهم البيئية.
الباحث دهشان: "تمكنت روسيا من الصمود في وجه العقوبات الغربية الجماعية غير المسبوقة في التاريخ، بفضل التزام المملكة باتفاق تحالف أوبك بلس حول إنتاج النفط".
أما الإمارات؛ فيعتقد “دهشان” أنّها مثلت الرئة الاقتصادية للنخبة الاقتصادية الروسية، التي تعرضت لمضايقات عديدة في الغرب؛ فاتخذوا منها مقرًا للإقامة واستثمار أموالهم ونقلوا أصولهم إليها، كما استخدمت روسيا الدرهم الإماراتي كعملة لتداول النفط مع الهند.
بخصوص موقف أوكرانيا، يعتقد دهشان أنّها غير راضية عن المواقف الخليجية؛ فقد كانت ترغب في مواقف أكثر راديكالية ومؤيدة، لكنها تقبلت تأييد دول الخليج كل قرارات الشرعية الدولية لصالحها؛ حيث لم تدعم هذه الدول -رغم تمتعها بعلاقات قوية مع روسيا- الاستيلاء على أراضي أوكرانيا، وقدمت لها مساعدات اقتصادية ومنحًا ومساعدات.
أبجد هوز حطي كلمن سعفص قرشت ثخذ ضظغ
استنادًا إلى ما سبق، يوفر العهد الرئاسي الثاني لترامب فرصًا كبيرةً أمام دول خليجية وخاصة المملكة، للاضطلاع بدور أكبر في جهود احتواء الأزمة الأوكرانية؛ حيث تتلاقى المصالح مع ترامب في هذا الصدد، كما أنّ نهجه المؤيد لروسيا يوفر مظلة حماية للإمارات والمملكة في تقاربهما مع موسكو. من جانب آخر، يظل الدور الخليجي -على أهميته- مرهونًا بموقف الإدارة الأمريكية؛ فلم تحقق المملكة اختراقًا في الأزمة الأوكرانية بعد، وهي لا تملك القيام بدور الضامن للأمن الأوكراني، أو ممارسة ضغوط كافية على أطراف الصراع للالتزام بما قد يُتفق أو يُتعهد به، بخلاف الوساطة الصينية في الأزمة بين المملكة وإيران؛ حيث تملك بكين نفوذًا كبيرًا وعلاقاتٍ ومصالحَ مشتركة مع البلدين.
ويُنظر هنا إلى الموقف الأوروبي من أية وساطات تأتي على حساب كييف؛ حيث ترفض معظم دول القارة سياسات ترامب تجاه الصراع، كما أنّها تعمل على تحقيق مزيد من الاستقلال الأمني والدفاعي لسدّ فراغ ما تعتبره تخليًا من واشنطن عن الأمن الأوروبي.